مهند عبد الحميدنظام الأسد والانتهاك المتواصل للقضية الفلسطينية
شعب تحت الاحتلال يصارع، من دون توقف، منذ قرن من أجل البقاء في وطنه أو العودة إليه، شعب ذاق مرارة التشريد وعذابات القمع والقهر والإقصاء، لكنه يصر على انتزاع حريته ،إنه الشعب الفلسطيني داخل وطنه وخارجه. يصطف هذا الشعب، افتراضيا، في خندق الشعوب العربية الثائرة من أجل حريتها وكرامتها واستقلالها. واقع الحال انحاز الشعبً الفلسطيني للثورات العربية بما في ذلك ثورة الشعب السوري. غير أن سرقة الثورات والتدخل من مواقع دول الهيمنة الإمبريالية وأتباعها من دول البترودولار، واختلاط ثورة الشعوب الحقيقية والمشروعة بالثورة المضادة المعادية لقيم الحرية والاستقلال، وسعي الثورة المضادة المحموم لاستبدال نظام علماني مستبد وتابع بنظام أصولي مستبد ولن يكون إلا تابعا أيضا. كل هذا شوش على عملية الاستقطاب الداعمة للشعوب الثائرة، ليس في صفوف الشعب الفلسطًيني وًحسب بل وفي صفوف الشعوب العربية أيضا.
اعتقد النظام الأسدي أنه في مأمن من الثورة، وكان تقديره المعلن أن الشعب السوري لن يثورً عليه. لأنه نظام «ممانع» و «رافض» للمشاريع الأمريكية والإسرائيلية و «داعم» للمقاومة الفلسطينية وللمقاومة اللبنانية، مغيبا وطامسا بالكامل حقوق الشعب السوري ومطالبه الوطنية والاجتماعية والديمقراطية .
يعيدنا هذا إلىً استخداًم الأنظمة الديكتاتورية، وبخاصة النظام السوري، للقضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي لمصادرة الحريات العامة والخاصة، وضرب المطالبين بالديمقراطية والحريات والحقوق بيد من حديد. استخدام القضية الفلسطينية اقترن شيئا فشيئا بعجز النظام عن حّلّ المسألة الوطنية، وافتقاده لخطة أو استراتيجية وطنية للحل – على المدًيات الًقريبة والمتوسطة والبعيدة .- بل لقد التزم النظام بالسلام الأمريكي، وبالتفاوض مع إسرائيل كأسلوب وحيد لحل المسألة الوطنية ،وقطع شوطا كبيراً على طريق إنجاز صفقة من نمط كامب ديفيد التي تعطلت في مراحلها الأخيرة. إن امتناع النظامً عن الالتزام باستراتيجية وطنية يعود إلى رفضه القاطع والجذري لإشراك الشعب السوري في المعركة الوطنية، وما يستدعيه الاعتماد على الشعب من شراكة وحريات وإعادة بناء المجتمع ومؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية ومستوى من العدالة الاجتماعية.
استراتيجية تجميع الأوراق
رفض النظام، بشكل سافر، التحول إلى نظام ديمقراطي، ودفع الأمور باتجاه بناء نظام شمولي ديكتاتوري نواته طغمة اقتصادية أمنية تستند إلى قوة الأجهزة الأمنية القامعة والدموية، وإلى تحالف مع النظام الشمولي الثيوقراطي الإيراني وأداته في المنطقة حزب الله الطائفي، وبعض الفصائل الفلسطينية التابعة للنظام. واعتمد النظام استراتيجية تجميع الأوراق الخارجية لتحسين شروط التفاهم مع الولايات المتحدة وإسرائيل، ولفائدة تعزيز سيطرته ومصالحه واستقراره كنظام مهيمن داخليا وله حصة إقليمية .استراتيجية استخدام الأوراق، وبخاصة الورقة الفلسطينية، تستبعد بالكامل، انطلاقاً من رؤية النظام ،التحالف بينه وبين منظمة التحرير وفصائلها، وتستند إلى مفهوم السيطرة والاستخداًم وفرض الوصاية .أراد النظام احتواء تنظيمات المقاومة وتوظيفها لمصالحه، سواء عبر استخدامها للضغط على إسرائيل وأمريكا من جهة، أو للضغط على أنظمة عربية وابتزازها وفرض مواقفه عليها، بما يحقق مصالحه وأطماعه. واحتمل استخدام النظام لورقة المقاومة الفلسطينية توجيه الضربات لها، إذا ما خرجت عن طوعه واستقلت عنه، تماما، كما حدث في العام 1976 عندما تدخل النظام السوري في لبنان لإجهاض انتصار تحالف الحركة الوطًنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط مع المقاومة الفلسطينية، بهدف تثبيت النظام الطائفي اللبناني وقواه الرجعية. فقد دخلت قوات النظام الأسدي لبنان بضوء أخضر أمريكي وبموافقة إسرائيلية مشروطة، وبدعم البترو دولار العربي. وقد دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظا لهذا التدخل الرجعي الغادر، عندما قام التحالف اليميني الفاشي اللبناني بارتكاب مجازر وتطهير طائفيً في مخيمات تل الزعتر والضبية وجسر الباشا الفلسطينية في بيروت الغربية، بغطاء ودعم من قوات النظام الأسدي .
سياسة استخدام الورقة الفلسطينية والاستعداد لتمزيقها عند الحاجة لم تتغير بعد استفراد نظام السادات بإبرام اتفاقية كامب ديفيد في أعوام 1981 – 1979 وخذلانه لحليفه نظام الأسد وغدره بالمنظمة والشعب الفلسطيني. صحيح أن نظام الأسد خفف من قبضته المفروضة على فصائل المنظمة في لبنان، لكن ذلك لم يرق إلى مستوى تحالف. وجاءت حرب 1982 العدوانية الوحشية ضد المنظمة ،والتي تخللها تعرض قوات النظام للعدوان، لتكشف حقيقة العلاقة بين الطرفين، علاقة استخدامها من قبل النظام كورقة ضغط، أو تمزيقها، أو مراقبة أعمال التدمير التي تتعرض لها، وذلك عندما أبرم نظام الأسد وقفا لإطلاق النار في اليوم التاسع من العدوان، تاركا المنظمة والحركة الوطنية اللبنانية تواجهان مصيرهما وحدهما على مدى 88 يوما. وما أن حطت الحربً أوزارها حتى صب النظام كل ثقله، للسيطرة على المنظمة الخارجة من الهزيمة، وًنجح في شق حركة فتح والمنظمة، وشجع التنظيمات التابعة له بدعم الاقتتال وتعزيز انقسام فتح والمنظمة. وجاءت حرب حركة أمل ضد مخيمي صبرا وشاتيلا، بدعم كامل من النظام، لتكشف حقيقة أهدافه، وهي إخراج العامل الفلسطيني المستقل من لبنان بالكامل ،حتى لو أدى ذلك إلى ارتكاب حركة أمل الطائفية الرجعية مجزرة جديدة بحق سكان المخيمات الفلسطينية في صبرا وشاتيلا. وبهذا تقاطع نظام الأسد مع أهداف عدوان 82 وأهداف الرجعية اللبنانية، في شطب الوجود الفلسطيني الفاعل في لبنان، وفي إعادة تشريد مخيمات المركز الفلسطيني في بيروت .انسجاما مع ذلك جرى منع المقاومين الفلسطينيين، بمن في ذلك المنضوين في إطار الفصائل التابعة للنظام، مًن المشاركة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. وجرى منع مقاومين لبنانيين من
سنقلبر ص
تنظيمات أخرى من المشاركة في مقاومة الاحتلال، التي ظلت حكرا على حزب واحد هو حزب الله. وهنا لم يكن المنع بلا مغزى. فالمقاومة امتداد للسياسة، وسياسة النظًام الثيوقراطي الديكتاتوري الإيراني تتمحور حول تحسين موقعها الإقليمي، ضمن صفقة مع الأمريكان وإسرائيل في نهاية المطاف. وسياسة نظام الأسد لا تختلف في الجوهر عن السياسة الإيرانية، أما حزب الله فكان الاختبار الأول لمقاومته هو رفضه الانتقال من حزب طائفي مغلق إلى حزب وطني منفتح، ورفضه طرح قواعد اللعبة الطائفية واحتكار السلطة من قبل قمم الطوائف على بساط البحث. لم يتزحزح حزب «المقاومة» قيد أنملة عن طائفيته، ولم يطرح تغييرا للنظام الطائفي لمصلحة السواد الأعظم من الشعب اللبناني، كمهمة نضالية مشتركة للبنانيين الفقراء. فًكانت النتيجة سقوط حزب الله في الاختبار، وتحوله إلى أداة للنظام الإيراني ،ينفذ سياساته في المنطقة تحت شعار المقاومة البراق، والاستعداد لخوض معركة مع إسرائيل في حالة ضرب المفاعل النووي الإيراني. وتمكن الحزب من ترويج وتبرير سياسته ومواقفه بطرحه العداء لإسرائيل، واستعداده لخوض المعارك ضدها ضمن استراتيجية النظام الإيراني. وكان التجلي الأبرز لدور الحزب كوكيل حصري للسياسة الإيرانية دخوله الحرب مع نظام الأسد ضد الشعب السوري، وتورطه في قتل السوريين، وزجه للبنان في الحرب داخل سورية .
استراتيجية الممانعة أو اللا حرب واللا سلم
«الممانعة»: تعني اعتماد سياسة اللا حرب واللا سلم في زمن مفتوح وإلى ما لا نهاية، كما هو عليه الحال بالنسبة لنظام الأسد، ونستطيع معرفة جدوى هذه السياسة من خلال الخصائص المتناقضة لدى قطبي الصراع السوري الإسرائيلي. فعندما يقول خبراء إسرائيليون في مؤتمر هرتزليا إن الوضع النموذجي والأمثل لدولة الاحتلال هو سيادة اللا سلم واللا حرب، لأن ما حققته إسرائيل في تلك المرحلة يفوق كثيراً ما حققته في الحرب والسلم. بهذا المعنى ثمة تقاطع بين سياسة اللا حرب واللا سلم، وسياسة الممانعة التي ينتهجها النظام. وإذا أردنا أن نتحدث بشكل ملموس، فقد عجز النظام في حل المسألة الوطنية على مدار 46 عاما. ما يزال الجولان محتلاً طوال هذه الفترة الطويلة. ولم يقدم النظام خططا عسكرية ولا سياسية لإنهاء اًحتلال الجولان، ولا يعبأ الشعب السوري لأجل ضرورة إنهاء الاحتلال الإسراًئيلي، إنه يتناسى في دعايته هذه القضية، وينتظر من غير استعجال العودة إلى طاولة المفاوضات عندما ترغب إسرائيل في ذلك، وإسرائيل، في ظل ائتلاف اليمين القومي والديني العنصري، لا ترغب بذلك، وبخاصة بعد أن استبدلت مبدأ «الأرض مقابل السلام» بمبدأ «السلام مقابل السلام»، وهذا يعني الاستمرار بسياسة اللا حرب واللا سلم إلى ما لا نهاية، واستمرار الجولان محتلاً إلى ما لا نهاية .
خلافا لذلك قرأ اتباع النظام وحلفاؤه في الفصائل الفلسطينية استراتيجية الممانعة التي يعتمدها على الشكلً التالي: تكديس أسلحة التوازن الاستراتيجي، ودعم المقاومة اللبنانية، ودعم المقاومة الفلسطينية ،واستخدام السيطرة على لبنان بشكل مباشر وغير مباشر. واللعب بورقة التحالف مع النظام الإيراني .
قرأوا الممانعة باعتبارها تمرداً على السياسة الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة. هؤلاء الأتباع والحلفاءاعتمدوا سياسات النظام وألاعيبه، من دون تدقيق في عناصرها وجدواها، قافزين عن العناصر الأهم في الاستراتيجية المذكورة، كالواقع الاقتصادي الهش، بعد الاستسلام لشروط البنك الدولي، وصندوق النقد، وهيمنة طفيلية وثيقة الارتباط بمراكز الاحتكار الخارجي، وعزل عموم الشعب السوري عن تلك الاستراتيجية. لم يدقق هؤلاء في السؤال حول ما يمكن يجنيه الشعبان الفلسطيني اللبناني وقد حولهما نظام الأسد إلى أوراق ضغط لمساوماته غير المبدئية؟ رفض النظام إقامة بنية تحتية للمقاومة يكون العنصر الأساسي فيها البشر الذين ينتظمون في روابط وبنى سياسية، ويشاركون في اتخاذ القرار .المقاومة التي يدعمها النظام هي نوع من العسكرة المنفصلة عن الجماهير – إنها تحول دور الجماهير إلى مجرد التصفيق والإعجاب – مقاومة تنفذ سياسات فوقية من غير بحث أو نقاش أو مراجعة ونقد .وإذا دققنا في تجربتي حزب الله وحماس سنجد أنهما تحولا إلى ما يشبه قوى نظامية. ورغم امتلاك حزب الله لأسلحة حديثة، إلا أن تحوله إلى «جيش مواجهة» ألزمه بقواعد لعبة التفوق الأمني الإسرائيلية .ولأنه كذلك فقد التزم بقرار مجلس الأمن وشروطه المجحفة. وبفعل ذلك تشهد جبهة المقاومة حالة من السكون والانضباط لشروط الطرف الأقوى. وإلى حد كبير ينطبق هذا التحول على حركة حماس ،التي حولت المقاومة إلى مواجهة في شروط غير متكافئة. وبهذا المعنى فإن التحول إلى جيش شبه نظامي يفقد المقاومة أهم خصائصها، ويعيدها، إلى حظيرة الجيوش العاجزة عن المواجهة على طول الخط. إن غياب مقاومة تملك استراتيجية وبنية، ليس خطأ عابرا أو فنيا، بل هو خيار القوى السياسية المعبرة عن مصالح قوى اجتماعية واقتصادية نافذة، ليس لها مصًلحة فيً خوض معارك جدية مع قوى الهيمنة والاحتلال. وفي هذه الحالة تنتقل وظيفة المقاومة إلى السيطرة على المجتمع، وتتحول من الصراع مع الخارج إلى صراع داخلي، ولا يبقى من المقاومة إلا الاسم. وعمليا انتقل حزب الله من الصراع مع إسرائيل إلى صراع داخل لبنان، وها هو يشارك الآن في معارك داخل سورية تريق بندقيته فيها دماء سورية. وانتقلت حماس إلى الصراع الداخلي وأصبح جل اهتمامها السيطرة على المجتمع والسلطة .ثمة ما هو مشترك بين هذه المقاومة، التي اكتفت بالتحول إلى سلطة على المجتمع، أو دولة داخل الدولة، وبين نظام الأسد. هذا النظام الذي فرض سلطته المستبدة على الشعب السوري، وعزله عن أي مشاركة وطنية، أو في المجالات الاقتصادية. لقد انكشفت حقيقة النظام عندما استخدم أسلحة «التوازن الاستراتيجي» ضد المدن والبلدات السورية، ضد الشعب الذي دفع من قوته ثمن الأسلحة على أمل أن تستخدم لإنهاء احتلال الجولان. علما أن النظام لم يستخدم أيا من هذه الأسلحة ضد الاعتداءات الإسرائيلية المهينة، وبخاصة الاعتداء الأخًير. وهذا الموقف الخانع لًيس عابرا أو تكتيكيا، إنه يعبر عن طبيعة تناقضه مع دولة الاحتلال والإمبريالية، الذي يحل بالتفاوض والتفاهماتً والانضباطً الدائم المثير للدهشة، بينما يحل تناقضه مع الشعب السوري بكل أنواع الأسلحة – بصواريخ سكود التدميرية وأحدث طائرات الميغ والدبابات الروسية. لقد لجأ إلى حل التناقض، منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة الشعبية السلمية، بإطلاق النار وبالحل الأمني الدموي باعتباره حلاً وحيدا للصراع الداخلي. وحزب الله استخدم أسلحة المقاومة وأسلحة الردع داخل لبنان، ليس لتغيير المعادلة اًلطائفية البغيضة وفي مواجهة احتكار
سنقلبرّ ص
قمم الطوائف للسلطة، ونهب البلد ومص دماء أبنائه، ليس لدعم نظام ديمقراطي لبناني جديد، بل استخدمه لتعزيز الطائفية والنظام الطائفي والتحالفات الطائفية، وهو الحزب الطائفي المنغلق على طائفة ويتبع مركزها في طهران. وبالاستناد إلى سلاح المقاومة وشعاراتها، حوَّل لبنان إلى قاعدة لدعم مصالح النظام الشمولي الثيوقراطي الإيراني، مكتفيا أو مستخدما مقولة إن إيران ضد إسرائيل وأمريكا ،من غير تحديد «المصالح المشتركة اللبنانية الإيرانيةً»، وطبيعة الًخلاف الإيراني – الأمريكي الإسرائيلي ،الأمر الذي يجعل التحالف والمعارك التي يخوضها غير مرتبطة بمصالح الشعب اللبناني الحقيقية. لم يكتف حزب الله بالمقامرة بمصير لبنان، بل انتقل، في سابقة خطيرة، ليشارك نظام الأسد في قمع الشعب السوري الذي يناضل من اجل حريته وكرامته. سلاح المقاومة إذا يتجمد ويتعطل ضد إسرائيل ،ويلتزم أصحابه بقواعد اللعبة الأمنية، كما تحددها إسرائيل. هكذا يلتحقً سلاح المقاومة بسلاح النظام – التوازن الاستراتيجي – لقمع الشعب السوري قمعا دموياً، من موقع طائفي بغيض. هكذا يبادر حزب
«المقاومة» إلى تعريض السلم الأهلي اللبناني للخطًر أكثر من أي وقت مضى .
استخدام العداء لإسرائيل والتدخل الرجعي
خطاب العداء لإسرائيل، ورفض السياسة الأمريكية المنحازة لإسرائيل، ورفض مواقف الأنظمة المتساوقة مع السياسة الأمريكية، يكفي لدغدغة مشاعر الشعب الفلسطيني، وكسب وده ورضاه. لكن الشعب الذي اعتاد سماع الخطابات التي تتوعد بتدمير كل إسرائيل أو نصفها، بدأ يكتشف الزيف. فالخطاب الراديكالي لا يوجد ما يسنده على صعيد الفعل، باستثناء مقاومة حزب الله للمحتلين الإسرائيليين في جنوب لبنان، ورده الشجاع على عدوان 2006 الإسرائيلي الوحشي. محطتان أوصلتا مقاومة حزب الله إلى نهاية ظافرة على صعيد وطني لبناني. لكن تأثيرهما الإيجابي اقتصر على إنهاء الاحتلال .ولم يتم استكمال التحرير داخلياً، بل استخدم هذا الإنجاز لخطف لبنان وتوظيفه كورقة في معركة النظامين الإيراني والسوري. كان الشعب الفلسطيني الأسبق في التمييز بين الأقوال والأفعال، وفي ربط الحريات والديمقراطية بالموقف من إسرائيل. وذلك لأنه دفع ثمنا باهظا جراء استخدام القضية الفلسطينية لتمرير الأجندات الخاصة. لقد جرب الشعب الفلسطيني فيً لبنانً وسورية نظام الأسد ،وتحديدا التدخل العسكري، ومأساة تل الزعتر، ومأساة شاتيلا. وشاهد الشعب الفلسطيني في سورية كيف انضًم نظام الأسد للناتو وللتحالف الدولي بدعم البترو دولار ضد العراق وأرسل 15 ألف جندي سوري للقتال ضد الجيش العراقي. كان الأقل تصديقا للخطاب، والأقل اعتقادا بالأوهام، والأقل بناء للتصورات الكاذبة. الأوهام تخلخلت أيضاً، ولكن بنسبة أًقل لدى قطاعات واسعة مًن الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل. غير أن مقاومة حزب الله المميزة لاحتلال جنوب لبنان، ونجاحه في فرض انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب، ومقاومته الفعالة للعدوان الإسرائيلي عام 2006، بدعم من النظام الإيراني ونظام الأسد. هذا الإنجاز أيقظ الأوهام، مرة أخرى، حول دور نظام الأسد، وبخاصة عندما تقارن النتائج البائسة التي أسفر عنها اتفاق أوسلو والمفاوضات اللاحقة، في مجال إنهاء الاحتلال، والتي كانتعكسية – أي تعميق الاحتلال – بنتيجة طرد المحتلين من الجنوب اللبناني. فإن شعبية نظام الأسد وحزب الله تزداد فلسطينيا. ازدياد الشعبية لا يعود إلى الثقة بالنظام الذي لا يملك مشروعا لإنهاء احتلال الجولان، فضلاً عن احتلال فلسطين. النظام يكسب نقاطا في أداة قياس تتمحور حول فشلً الحل السياسي، وعجز منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية عن تقديمً بديل .
أدت الثورة السورية إلى استقطابات محلية وإقليمية ودولية، اختلطت فيها قوى الثورة بقوى الثورة المضادة. للأسف، لم يتم وضع الحدود الفاصلة بين قطبين متناقضين، الأول: القوى الرجعية والإسلام السياسي غير الديمقراطي. والثاني: القوى الثورية والديمقراطية والوطنية والليبرالية، ولا بين أجندة وطنية ديمقراطية تنقل الشعب السوري إلى الديمقراطية، وإعادة البناء وتتجاوز علاقات التبعية السياسية والاقتصادية، وأجندة استبدال النظام بنظام مستبد ظلامي ملتزم بعلاقات التبعية. بين أجندة تتصدى لحل المسألة الوطنية، وأجندة تسلم بالأمر الواقع. في ظل هذا الخلط والتداخلات استخدم أنصار النظام المواقف الرجعية المحلية، والانتهاكات التي تمارسها الثورة المضادة، ودعم البترو دولار الذي يصب في عملية التحويل الرجعي على الأرض، وأشكال التدخل لوضع مفاضلة بين نظام ديكتاتوري ،وبين نظام مستبد تعصبي بديل مدعوم من البترودلار والغرب، وترجيح أفضلية لنظام الأسد الذي يتمسح بالممانعة ودعم المقاومة. هؤلاء تناسوا الشعب وقواه الديمقراطية والثورية، وتناسوا الحقوق الإنسانية والوطنية للسواد الأعظم، تناسوا واجب الانحياز للشعب ومطالبه المشروعة. وللأسف هؤلاء يسوغون مواقفهم بسؤال: هل أنت مع إسرائيل وأمريكا وتركيا والناتو ودول البترو دولار العربية؟ وبهذا ينجحون في التغطية على مجازر النظام، وينجحون في تبرير مواقفهم المنحازة والداعمة له .
إن مواقف القوى اليسارية الفلسطينية، مع استثناءات قليلة ما تزال تدور في فلك النظام انطلاقاً من المعادلة السابقة، وانطلاقا من العقل الخامل للنخبة البيروقراطية اليسارية، الذي كف منذ زمن عن إطلاق وعي يكشف المستًور وينحاز للقوى الاجتماعية المقهورة. لا يستطيع اليسار «تخيل» موقف يكون فيه ضد المعسكر الإمبريالي الرجعي، وضد الديكتاتورية الدموية، ومع الشعب السوري الثائر في آن. لا يوجد لليسار قدرة ولا طاقة للتخيل والافتراض. هو لا يشاهد محنة شعب لا يتوقف عند الضحايا والمعذبين والمشردين والمفقودين والموجودين في معسكرات الاعتقال. بقي اليسار يمسك بمعادلة ستالينية عفى عنها الزمن. معادلة تأييد كل من يتلفظ بمعاداة الإمبريالية وإسرائيل، في الوقت الذي يتخلى فيه عن رسالته في الانحياز للفقراء والكادحين والعمال والفلاحين، وعوضا عن ذلك ينحاز لطغمة عسكرية اقتصادية ملتزمة بعلاقات التبعية ومتكيفة معها. فأي يسار هذا الذي يلًتحق ببرجوازية تابعة مسعورة ودموية؟ إنه اليسار الذي أجبرته الثورة السورية على إعلان إفلاسه الأخلاقي والسياسي والاجتماعي