دمشق-سلامة كيله
السؤال الذي يتكرر هو، متى يمكن أن تنتصر الثورة السورية؟ أو لماذا تأخر انتصار الثورة السورية؟
والسؤال وجيه من زاوية أن ثورات تونس ومصر لم تستمر سوى اسابيع، وثورات ليبيا واليمن لم تستمر سوى أشهر، أما الثورة السورية فها هي تتجاوز العام ونصف. ولهذا، أولاً، فهي “تأخرت”، وثانياً يصبح السؤال متى ستنتصر هو المعلم الذي يتحكم في جل الأسئلة والنقاشات.
ربما نستطيع تحديد أسباب “تأخر” انتصار الثورة، والظروف التي فرضت أن تأخذ كل هذا الوقت ،لكن ليس من السهل الإجابة على سؤال متى تنتصر، لأن ذلك يتعلق بجملة محددات ربما لا نستطيع تلمسها كلها.
عن “التأخر”
ليس الأمر مسألة تأخر إلا بالقياس على الثورات الأخرى، حيث ليس من زمن لاستمرار الثورات ،سواء كانت نهايتها الانتصار أو الهزيمة، لأن الأمر يتعلق بمقدرة الشعب على التواصل والاستمرار بغض النظر عن آليات المواجهة التي تفرضها السلطة من جهة، وبطبيعة السلطة ومدى تماسكها من جهة أخرى.
وإذا كانت قد تميزت ثورات تونس ومصر بالاندفاعة السريعة التي أربكت السلطة وأرعبت قواها، ومن ثم فرض ذلك أن يتحرك الجيش لكي ينقذ الموقف من خلال مسك السلطة تحت شعار تحقيق انتصار الثورة في عملية هدفت إلى إبعاد الرئيس وحاشيته فقط. فإن الوضع السوري تحرّك في مسار آخر، ودخل في دهاليز متعددة. الأمر الذي لم يفرض على “بعض أطراف السلطة” أن تميل إلى إبعاد الرئيس وحاشيته من أجل امتصاص الثورة. إلى الآن على الأقل، دون أن نتجاهل أن هذا الأمر لازال ممكناً.
في هذا السياق يمكن رصد مستويات متعددة، بعضها موضوعي وبعضها ممنهج، بعضها يتعلق بطبيعة الثورة ذاتها وبعضها يتعلق بطبيعة السلطة.وهي كلها تؤسس لفهم استمرار الثورة إلى الآن من جهة، وإلى استمرار “تماسك” السلطة ومقدرتها على خوض الصراع من جهة أخرى. مع ملاحظة أن طول الزمن ليس دليلاً على عجز الثورة أو فشلها، حيث أن كثير من الثورات في التاريخ استمرت سنوات. ولا شك في أن طبيعة القوى المتصارعة هو الذي يعطي الزمن كل أبعاده ومعناه.
بالتالي يمكن تلمس جملة مسائل أدت لأن يستمر الصراع، وألا تحسم الثورة الأمر إلى الآن، يمكن تحديدها تواً:
1- إذا كانت الثورات هي نتيجة انفجار شعبي عام ينتج عن ممارسات طويلة من النهب والاستغلال والسيطرة، تدفع الشعب في لحظة إلى التمرّد بعد أن يحسّ بالعجز عن العيش، نتيجة البطالة الواسعة والأجر المتدني خصوصاً، ومن ثم نتيجة انهيار الاقتصاد والتعليم والصحة، كما كان واضحاً في تونس ومصر مثلاً. فإن الوضع السوري، الذي كان يسير نحو التماثل مع هذه البلدان ،والتكيّف مع اشتراطات “العولمة”، كان قد حقق الانفتاح بانتصار اللبرلة للتو، حيث اكتمل تحويل الاقتصاد من اقتصاد منتج نسبياً إلى اقتصاد ريعي بالكامل سنة 7002. وحيث تشكلت الكتلة الشعبية المهمشة والمفقرة )حوالي %30 بطالة، وأكثر من ذلك تحت خط الفقر(.
هذا الأمر أوجد احتقاناً كبيراً، لكنه لم يكن قد وصل إلى حد كسر حاجز الخوف من السلطة ،التي عُرفت باستبداديتها وعنفها من خلال ممارساتها الطويلة. ولهذا كان الأمر يحتاج إلى وقت لكي تزيد حالة الإفقار من الاحتقان إلى الدرجة التي تدفع إلى التمرّد الشامل. العوامل الأخرى التي دخلت على خط حدوث الانفجار )الثورات العربية، والعنف الذي سيلعب دوراً مزدوجاً( هي التي افضت إلى الثورة بالطبع، لكنها لم تستطع حل مشكلة كسر حاجز الخوف إلا بشكل بطيء ومتتالٍ، الأمر الذي جعل الثورة تتوسع ببطء. لهذا أخذ توسعها من دمشق ودرعا ووصولها إلى حلب وكل سورية تقريباً ما يقارب السنة.
وهو الأمر الذي كان يجعل السلطة قادرة على الضبط بفعل قوتها، وتركيز هذه القوة على “المناطق الثائرة”. وأيضاً ألا يقود إلى ارتباكها حيث كان التوسع السريع هو الذي سيفرض الارتباك والخلخلة السريعة، كما في تونس ومصر. فقد ظلت متماسكة )أي دون انشقاقات( وقادرة على التحكم في مواقع الصراع.
2- بدا وكأن السلطة قد استفادت من تجارب الثورات في تونس ومصر خصٍوصاً، حيث ارتأت بأن “انتصار الثورة” هنا وهناك نتج عن عدم استخدام العنف بشكل “كاف”، وخصوصاً عدم ادخال الجيش في الصراع، والتعامل العنيف مع التبلورات الأولى للثورة. لهذا اندفعت لاستخدام الرصاص )ادخال الفرقة الرابعة والوحدات الخاصة في القمع( منذ الاعتصام الأول في درعا يوم 81/ 3/ 2011، رغم أن عدد المعتصمين في الجامع العمري لم يكن كبيراً. والهدف هنا هو قتل إمكانية التفكير في الثورة انطلاقاً من أنها سوف تُغرق بالدم، الأمر الذي يقود إلى تخويف قطاعات كبيرة ،فتجهض الثورة.
وإذا كانت هذه الممارسة قد أدت إلى العكس تماماً في درعا وكل حوران، حيث توسّع التمرّدلكي يتحوّل إلى ثورة، فقد أدى إلى نشر الخوف في المناطق الأخرى، وفرض ان تصبح المشاركةمحفوفة بالموت، بالتالي حصرت الحراك في نخب وفئات لا يعني الموت لها شيئاً، أو لديها قناعةتامة بضرورة الثورة. لهذا لم تتحوّل الحراكات إلى حشد جماهيري دافق إلا في بعض المواقع قبل أن يصبح القتل هو وسيلة السلطة في مواجهتها )مثل حماة خصوصاً، التي جرى التعامل معها في البدء بشيء من الحساسية، عكس حمص التي قمعت بعنف شديد منذ أول تجمع كبير(. هنا اصبحت المشاركة في الثورة ذو كلفة عالية، وتخضع “انفعالات” أخرى سنجدها في آلية القتل ذاته.
فهذا الخوف من القتل كان يتحوّل إلى عنصر انخراط في اللحظة التي يحدث فيها القتل. فقد شهدنا أن الحراكات الأولى كانت من نشاط شباب يريد الثورة، سواء نتيجة حاجته إلى الديمقراطية )وفي كثير من المناطق كان هؤلاء هم العنصر المحرّك للثورة( أو نتيجة البطالة والإفقار الذي يعيشه. لكن كان التصدي بالرصاص للمتظاهرين ووقوع شهداء هو العامل الذي يحوّل التظاهرات الصغيرة إلى دفق بشري هائل.
وهنا تحكمت السلطة في طريقة التعامل مع التظاهرات، حيث أنها كانت تمارس القتل في مناطق ولم تكن تمارسه في أخرى انطلاقاً من حساب مقدرتها على المواجهة، وتركيزاً على المناطق المنتفضة من أجل سحقها. وبالتالي جعلت توسّع الثورة بطيئاً كذلك.
3- مع رفض السلطة الاستجابة للمطالب الأولية للمحتجين )والتي قالت أنها محقة(، ومع انفلات الوضع في درعا من تحت سيطرة السلطة، التي بدت أنها “محررة”، بات الشعار الذي خطه أطفال درعا قبيل الثورة بأيام تأثراً بالثورات العربية هو المطلب المطروح. لقد رُفع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهو أمر فرض ان يكون الانخراط في الثورة ليس على قضايا مطلبية مباشرة هي ما يهدف إليه المنتفضون، ويسعون إلى تحقيقه عن طريق إسقاط النظام، بل من أجل إسقاط النظام ذاته. بمعنى أن دخولهم الصراع بات الآن قائم على مواجهة السلطة لإسقاطها وليس صراعاً من أجل مطالب محدَّدة هي تلك التي تحرّكهم في ثورتهم )وهذا أحدث إشكالاً تالياً، حيث جرى إهمال تلك المطالب في سياق الثورة العام(.
الفكرة هنا هي أنه إذا كانت الفئات المفقرة لاتزال تخاف طرح مطالبها “البسيطة” )الأجر والعمل والتعليم والصحة، و”كف شر السلطة”( فقد أصبح عليها المشاركة تحت هدف أكبر هو إسقاط السلطة. وهذا ما كان يجعل الانخراط في الثورة أصعب أيضاً، وكما أشرنا كسر عبر القتل، وفي أوقات متتالية.
هذا لا يعني خطأ طرح الشعار منذ الشهر الأول، فقد فرض الظرف الموضوعي ذلك، لكن كان له أثر آخر لا بد من تلمسه، في ثورة هي شديدة العفوية.
4- الثورة في تونس كانت عفوية في انطلاقها لكن عملت أحزاب ونقابات على تنظيمها )وإنْ ظل هذا الدور ضعيفاً(. والثورة في مصر بدأت بدعوة إلى إضراب منظم لكنها تحوّلت إلى ثورة عفوية )نتيجة غياب الفعل السياسي الهادف إلى قيادتها إلى السيطرة على السلطة بتحريك كل الشعب ،الأمر الذي جعل مبدأها هو: اعتصام اعتصام حتى يسقط النظام(. في سورية انطلقت الثورة عفوية، ورغم التعقيدات المتعددة )التي أشير إليها سابقاً، والتي سيشار إليها تالياً( فقد ظلت عفوية. وكل المحاولات البسيطة التي كانت تجري تنظيمها من قبل الشباب أنفسهم في إطار التنسيقيات كانت تواجه بشراسة القمع السلطوي. وظهر واضحاً بأن أحزاب المعارضة هي في وارد آخر، حيث لم تتوقع الثورة، وكانت في الغالب تعتقد باستحالتها. وحين بدأت لم تحدد مكانها فيها )أي في الشارع( بل ظلت تمارس الآليات التقليدية ذاتها، التي انبنت بعيداً عن الطبقات الاجتماعية )سواء نتيجة القمع الطويل أو نتيجة تقولب هذه الأحزاب في أفكار وممارسات وعلاقات منفصلة عن هذه الطبقات وبعيدة عن اهتماماتها(. لهذا كانت فاعليتها تنصبّ على “السلطة”، الحوار من أجل “الانتقال السلمي والآمن إلى الديمقراطية”، أو تبلورة التصورات حول المرحلة الانتقالية التي سـ “تطبق” بعد استلام السلطة )من خلال التدخل الخارجي في الغالب(.
بالتالي ظل وعي الشباب الثوري هو المتحكم في مسار الثورة، وهو وعي بسيط كان في قطيعة مع الفكر السياسي والعمل السياسي نتيجة الاستبداد الطويل وتدمير الثقافة. وبالتالي لم يكن قادراً على التصدي لسياسات السلطة التي كان واضحاً أنها وضعت إستراتيجية مواجهة متكاملة )في المستويات العسكري والسياسي والإعلامي(. ورغم أن الممارسة الثورية قد اكسبته خبرة وفرضت عليه تطوير الوعي، وهذا ما سيؤدي إلى تشكّل كادرات مهمة في المرحلة القادمة، إلا أنه لم يكن قادراً على تلافي مشكلات الثورة، ووضع إستراتيجية واضحة لكيفية إسقاط السلطة عبر استقطاب كل الفئات الاجتماعية إلى الثورة، ولا على بلورة مطالبه، والبديل الذي يرتأيه لتحقيق هذه المطالب بعد إسقاط السلطة.
بهذا كانت كل المشكلات التي تواجهها الثورة، وهي كثيرة، تحل ببطء وبعد ممارسة أخطاء ،وكثير منها لم يجرِ الشغل على حله.
5- ربطت السلطة بين استخدامها العنف الشديد والخطاب الذي لا بد من أن يغطي على هذا العنف، لهذا )وكما فعلت الإمبريالية الأميركية( قالت بوجود عصابات سلفية مسلحة تسعى لإقامة إمارات سلفية. لكن الأهم هنا هو العمل على تكريس أن الثورة هي حراك سني أصولي يقوده الإخوان المسلمين، وأن الثورة هي ذو طابع طائفي ضد نظام علماني أو سلطة “علوية”. كان يجري التركيز على الشق الأول علناً عبر الإعلام “الموالي”، لكن كان يجري نشر الفكرة الأخرى على أوسع نطاق. فقد هدفت السلطة إلى بناء شرخ مجتمعي يضمن التفاف “الأقليات الدينية” حول السلطة، وتمسكها بها، ودفاعها عنها. هنا خصوصاً العلويين الذين من بعضهم تتشكل “البنية الصلبة” للسلطة، ويكون ضرورياً لكي تبقى هذه البنية متماسكة وقوية أن يجري ضمان “ولاء” البيئة التي تتشكل منها.
لكن أيضاً كان ضرورياً إبقاء قطاعات مجتمعية كبيرة خارج الحراك من أجل عزل المجموعاتالمتمردة وسحقها. وكان ينظر إلى “الأقليات” كعنصر اساسي، والعلمانيين من كل الطوائف.إضافة إلى الفئات المستفيدة من السلطة مثل التجار ونخب الفئات الوسطى )المحامون والأطباء والمهندسون والعاملون في القطاع الحديث(، التي هي أصلاً في صفها.
لقد جرى اللعب على ما جرى في العراق، وهو وضع أثّر كثيراً في تشكل وعي كل المجتمع السوري نتيجة الهجرة الكثيفة للعراقيين إلى سورية، وأسس للشعور بخطر التدخل العسكري الإمبريالي من جهة، وبأهوال الصراع الطائفي ودور الأصولية من جهة أخرى. كما جرى على الربط بين أحداث سنوات 9791/ 1982 وما يجري الآن، من منظور أن الأمر يتعلق بانتقام “إخواني” )وربما سني( من العلويين الذين يصوّر بأنهم من سحق التمرّد الإخواني المسلح في ذلك الوقت )رغم أن الشباب المتدين يحمّل الإخوان أيضاً مسئولية ما جرى حينها، لأنهم من بدأ الصراع الطائفي(.
وكان إدماج الساحل في الثورة أمراً أساسياً لكي يكون تفكك السلطة أمراً محتوماً. لكن مع الأسف لازال هذا المنطق مسيطراً، ولقد تعمّق في سياق تطور الثورة بدل أن ينتهي. وما جعله ينجح إلى الآن هو سياسة بعض أطراف المعارضة التي صممت على أن تفرض على الثورة طابعاً أصولياً إخوانياً، واستخدمت كل علاقاتها من أجل ذلك، فهيمنت على الإعلام الذي هو أصلاً متوافق معها، وضخّت الأموال من أجل شراء “المرتزقة”. وأخذت من الواقع حيزاً ضيقاً عممته على أنه هو الثورة، وهو الحيز الأصولي السلفي، الذي كان شباب الثورة قد أعلنوا منذ الشهر الأولى للثورة:
لا سلفية ولا إخوان، مؤكدين على الطابع الشعبي والمدني للثورة.
بهذا كانت سياسة هذه الأطراف تصبّ في تأكيد خطاب السلطة، وبالتالي تفرض تخويف “الأقليات” وكثير من العلمانيين، والرافضين للتدخل الإمبريالي، ومن ثم يبقى الفئات المترددة قطاع واسع، وتؤسس لتماسك قطاع كبير من الأقليات خلف السلطة. أي أنه بدل كسر خطاب السلطة والعمل على انخراط هؤلاء في الثورة جرى تدعيم ترددهم أو وقوفهم مع السلطة. رغم أن مسار الثورة فرض تقلصاً تدريجياً لدعمها السلطة، وانخراط قطاعات أوسع في الثورة، الأمر الذي جعلها تشمل كل سورية، لكن مع بقاء هذه المشكلة قائمة لدى قطاعات من “العلويين” بالخصوص.
6- وإذا كانت العناصر السابقة يؤشّر لسبب تأخر انتصار الثورة، فهي تؤشّر كذلك إلى السبب الذي لم يجعل السلطة ترتبك وربما تتفكك. ولابد هنا من ملاحظة التمايز القائم بين وضع تونس ومصر من جهة، وسورية من جهة أخرى من هذه الزاوية بالتحديد. حيث سيكون “انفصال” الجيش عن السلطة )التي هي هنا الرئيس وحاشيته( أكثر تعقيداً.
فقد عمل حافظ الأسد على أن يشلّ قدرة الجيش على القيام بأي انقلاب بعد سلسلة طويلة من الانقلابات شهدتها سورية. لهذا عدّد أجهزة الأمن 17) جهازاً كما يشار عادة(، وجعل كل منها منافس للآخر لكي يضمن مراقبة كل جهاز لنشاط الآخر، وبالتالي يشل كل إمكانية لتآمر. ولقد أصرّ على ألا ينسق أي جهاز مع الآخر إلا بأمر منه. وبالتالي فقد اصبح هو مركز المعلومات عن “كل شيء” بما في ذلك نشاط الأجهزة ذاتها. هذا مستوى مهم، وهو الأساس الذي تشكلت عليه السلطة التي باتت في جوهرها هي سلطة أمنية )أو سلطة الأمن(. لكن سنلحظ برع في تعيين كبار ضباط مسئولين في الفرق العسكرية ،لكنهم متنافسين وفي الغالب متناقضين، ولا يحق لأي منهم أن ينسّق مع الآخر حتى في حالات الحرب. وأيضاً خاضعين لبنية أمنية اخترقت كل تراتبية الجيش، من الفرقة إلى أصغر وحدة. فقد كان المسئول الأمني هو “السلطة” في كل مستوى من مستويات الوحدات العسكرية.
وكذلك أخضعت كل تحركات الجيش للرئيس ذاته.
في هذا الوضع أصبح كل عنصر معني بإطاعة الأوامر العليا، وتنفيذ الأوامر، دون أن يفكّر في الاختلاف أو التمرد، لأنه حينها سيلقى في السجن. بمعنى أن حافظ الأسد استطاع أن يضع كل وحدات الجيش تحِت “ضوء كاشف”.
هذا الوضع لم يؤد إلى بناء جيش مقاتل، بل أسس لبناء جيش مشلول. وهو الآن ينفذ الأوامر تحت سيطرة سلطة أمنية شديدة )ومنها الشبيحة كذلك(، وينشق فقط في لحظة ارتباك هذه السلطة الأمنية.
وهذا ما يجعل مسألة عدم حدوث انقلاب عسكري مفهومة. فقد بني الجيش لكي يمنع ذلك. بالتالي كان صعباً تحرّك الجيش لكي “يدعم” الثورة، أو يقوم بعملية التفاف كما جرى في تونس ومصر.
7- ربما لا بد من أن نشير إلى العنصر الدولي في هذا المجال، حيث كانت الولايات المتحدة على “علاقة وثيقة” بكبار ضباط الجيش في تونس ومصر، وبالتالي كانت في تونس تريد التخلص من بن علي الذي جرى اعتبار أنه موالٍ لفرنسا، ودعمت في البلدين التغيير من أجل “تنفيس” الثورة في سياق العمل على إجهاضها. لهذا كانت دافعاً لرحيل كل من بن علي وحسني مبارك، وضاغطاً على قيادات الجيش من أجل ذلك.
في سورية يبدو الأمر مختلف، حيث تبلور الجيش في سياق لا يسمح بتحقيق انقلاب، وأميركي خصوصاً، بعد أن صيغت القيادات العليا في تكوين “منسجم” )إلى حد ما( بالتخلص من الضباط الذين كان يمكن أن يقوموا بانقلاب أميركي بعد فشل محاولة غازي كنعان/ عبد الحليم خدام. وإذا كان لكل من تركيا وفرنسا اختراقات في السلطة فهي لا تصل إلى حد القيام بانقلاب عسكري.
في المقابل نلمس الدعم الكبير من قبل إيران )التي تمد السلطة بالخبرة والدعم العملي(، وروسيا/ الصين )اللتين تشكلان الحماية له في المجال الدولي، ومجلس الأمن(. حيث يبدو أنها محمولة على دعم هذه القوى بعد أن ضعفت داخلياً وبدأت تفقد السيطرة على الأرض. وهو الأمر الذي أبقاها متماسكة، وحدّ من إمكانية تفككها.
أسوا من ذلك هو أن الولايات المتحدة لا تحب الثورات غير البرتقالية، وتجد فيما يجري ثوراتمن أجل تغيير النمط الاقتصادي والقطيعة مع الدول الإمبريالية، وإذا كانت تعمل على الالتفافعلى الوضع لكي تبقي الوضع كما هو في البلدان التي تحظى بتبعيتها، فهي لا تريد للثورة السوريةأن تنتصر، وتفضّل بقاء الوضع كما هو. أما السعودية التي هي كذلك ترتعب من الثورات خشية وصولها إليها، فتعمل على دمار الثورة أكثر من نشاطها من أجل إسقاط السلطة “المتحالفة” مع إيران في إطار “المحور الشيعي”. فقد دعمت السلطة مالياً في المراحل الأولى للثورة، ومن ثم عملت على تشجيع وتقوية القوى الأصولية في الثورة من أجل “أسلمتها” في سياق الدفع نحو حرب طائفية تفشلها.
وبالتالي يمكن القول بأن كل “الغرب” الذي يدعي دعم الثورة هو في السياق ذاته، حيث يجب أن تعم الفوضى وتنتشر الأصولية وتدخل سورية في حرب طائفية.
في هذا الوضع بدت القضية السورية بالنسبة للدول الإمبريالية القديمة كوسيلة “لعب”، ومجال “تصارع”، لكن على حساب الثورة ومن أجل تدميرها، وتدمير سورية المجتمع والتاريخ. أما الروس فلم يستطيعوا التصرف كما فعلت أميركا في تونس ومصر، وهم في ذلك ينمون عن غباء مفرط، أو عن عجز فارط سيفقدهم آخر مواقعهم. وإيران لا ترى بديلاً آخر عن “عائلة الأسد” والمافيا الحاكمة حتى من صلب السلطة ذاتها، وهو الأمر الذي سوف يفقدها هي الأخرى تحالفاً أساسياً في إطار صراعها من أجل تأكيد ذاتها كقوة إقليمية، وربما عالمية.
مجمل هذه العناصر فرضت أن يطول الصراع، وألا نصل بعد إلى “إسقاط النظام”، لكن أن تستمر الثورة.
“العقدة” أو الوضع الآن
إذن، ما هو الوضع الآن؟ الثورة تجاوزت السنة والنصف، والحراك يشمل كل سورية تقريباً، والفئات المنخرطة في الثورة واسعة، بينما تقلّص حجم المترددين، ويكاد يتلاشى عدد المؤيدين. ولا يبدو وضوحاً في الأفق، حيث يظهر وكأن الوضع محكوم بعقدة ما،أو هو مستشكل في موضع معيّن.
ما يبدو واضحاً هو أن قوة السلطة قد تراجعت بعد كل هذه الشهر من الصراع، وبعد أن امتدت الثورة إلى كل هذه المناطق في سورية، رغم ما يبدو من تفوق لها. وإذا كانت تستخدم قوى معينة في صراعها، هي تلك “الموثوقة” )مع غقحام لقوى من الجيش تحت التهديد(، فقد أستهلك بعضها، واصبحت مع كل هذا الامتداد للثورة غير قادرة على تغطية كل المناطق، الأمر الذي فرض تراجع سيطرتها عن كثير من مناطق الوسط والشمال، والشرق، وحتى في دمشق والجنوب. إنها قادرة على القصف بالمدفعية والطائرات، غير أنها غير قادرة على السيطرة العملية على الأرض.
وما يبدو أنها مسيطرة في مناطق أساسية يُظهر الصراع أنها عاجزة عن السيطرة.
وإذا كان الجيش لم ينشق نتيجة التكوين الذي أشرنا إليه للتو، فإنه يبدو محل شك بعد أن كثرت الانشقاقات أو عمليات الهروب، لهذا هو موضوع في معسكراته دون اتصال أو إجازات في الغالب، ومن يؤخذ للحرب يوضع في سياق يمنع انشقاقه نتيجة التشديد الأمني. ولهذا يبدو أن في السلطة هوّة كبيرة بين الفئة الماسكة، أي التحالف المالي الأمني )بالتحديد العائلة(، وبين بقية مؤسسات السلطة.
الأمر الذي يدفع إلى القول بأنها لم تعد سلطة بل باتت طغمة تقاتل من أجل الاستمرار في السيطرة، او حتى تقاتل من “حلاوة الموت” بعد أن باتت تتلمس عجزها عن حسم الصراع في وضع يبقي الدولة والمجتمع والسلطة قائمة ومستمرة. مما جعلها تقرر التدمير المنهجي الشامل كسياسة وحيدة ربما تقود إلى انقاذها.
سنجد بأن هذه الفئة الحاكمة باتت تتصرف من موقع الشك في بنية الدولة والسلطة، بما في ذلك الجيش والمؤسسات الأمنية، والمستوى السياسي. وهو الأمر الذي جعلها تعود للاعتماد على “الحلقة الأضيق”، وهي “الجهاز الموثوق” الذي يتكون من الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والمخابرات الجوية، بالإضافة إلى تشكيل كبير من الشبيحة المدربة تدريباً مافياوياً، او على شاكلة الباسيج )الحرس الثوري الإيراني( كما صرّح احد مسئوليه.
بالتالي فإن كل هذا العنف الممارس من قبل السلطة هو التعبير عن ضعفها، وشعورها بأنها باتت على شفير الانهيار، وهو الشعور الذي أخذ يتحكم بكل بنى السلطة، والذي فتح على انشقاقات وربما تعاطف مع الثورة.
وهنا يبدو أن وضع السلطة بات مهزوزاً، وقابلاً للتفكك والانهيار. فقد باتت قوة صغيرة في مواجهة شعب مسلح إلى حد كبير، وتمارس وفق منطق اليائس، وتقتل وتدمر لكأنها مقتنعة بأنها لن تحكم ثانية.
هذا الوضع ربما يفتح على ترتيب ينطلق من القيام بـ “تصفية حساب” داخلية، حيث يمكن أن يستجرّ الوضع إلى حدوث كسر في البنية الصلبة لمصلحة “استمرار الدولة” )وحتى حماية العلويين(. ربما يكون ذاك الشعور بالهزيمة الذي فرض كل هذا التدمير حافزاً لكي يتحقق “الانقلاب” كما حدث في تونس ومصر، لكن هنا بعد شلالات دم، ودمار كبير، وحقد يحتاج إلى ما يناسبه لكي ينطفي.
في المقابل، لا تبدو الثورة في أفضل حالاتها، حيث لم يقد توسعها، ولا قاد كل هذا الزمن، إلى تنظمها، على العكس من ذلك بدت فوضى. العمل المسلح فوضى، والحراك فوضى. كما أربكت الثورة بوضع المهجرين الذين بات ضرورياً رعاية أوضاعهم. وإذا كان القصف والتدمير والقتل والتهجير قد فرض تراجع الحراك الشعبي، وكان في اساس الاندفاع نحو العمل المسلح، فقد ظهر ميل لكي يصبح العمل المسلح هو الوسيلة الوحيدة لهزيمة السلطة. وهو أمر مربك، لأنه ليس من الممكن دون حراك شعبي كسر قوة السلطة، ولقد أظهرت كل ثورات العالم أنها فاشلة حينما تقوم على العمل المسلح، لأن تفوق السلطة يظل هو الأساس، وهي تسيطر على الأرض أو تستخدم الطيران.
كما أن “الجيش الحر” هو اسم “عام” لا يمتّ إلى الواقع بصلة، نتيجة أنْ ليس هناك مؤسسة، بل “قيادة” تحمل الاسم، لكنها لا تتحكم في نشاط مجمل المجموعات المسلحة القائمة على الأرض.
وأيضاً يظهر الاختلاف واضحاً بين سياسة قيادة الجيش الحر وسياسة كل هذه المجموعات.وكذلك فإن هذه المجموعات ليست موحدة، وتتخذ طابعاً مناطقياً في الغالب. ولا تمتلك خبرةعسكرية، ولا أسلحة مناسبة. لكنها تتصرف وكأنها تقود الصراع وتقرر في مساره. لهذا لا تبدو فاعليتها كبيرة في وجه قوة السلطة حين تخوض هذه السلطة حرباً من أجل السيطرة.
هناك ارتكابات وأخطاء صعبة تقوم بها بعض المجموعات المسلحة. وهناك تكتيك خاطئ ينطلق من فكرة “التحرير”، ربما تقليداً للتجربة الليبية التي أتت في سياق آخر. وهناك تدخلات وتداخلات تربك الثورة، خصوصاً تلك التي تقوم بها مجموعات أصولية تأسست سياستها على السيطرة والتحرير، لكنها لا تفعل سوى زيادة القتل والتدمير، ربما في سياق سياسة تهدف إلى ذلك من أجل “فرض” التدخل العسكري الإمبريالي، الذي هو مدخلها الوحيد للوصول إلى السلطة. ولقد أربك الوضع أكثر دفع السعودية لمئات السلفيين )الوهابيين الذين هم أساس تنظيم القاعدة( إلى الساحة السورية، وتمويلهم وتسليحهم تحت حجة دعم الثورة، لكن هؤلاء “مبرمجون” )وهذا التعبير دقيق( على أن أولوية صراعهم هي مع الروافض )الشيعة والعلويين، والإسماعيلية والدروز، وحتى مع المسيحيين(، الأمر الذي يدفعهم إلى ارتكاب حماقات ضد العلويين في سياسة لا بد من أن تخدم السلطة التي عملت طويلاً من أجل إشعال هذا الصراع كي تضمن تماسك العلويين خلفها. والأخطر هو أنه يقود إلى تحويل صراع الشعب ضد سلطة ناهبة ومستبدة إلى صراع طائفي يدمر المجتمع وينقذ السلطة. وبالتالي يفشل الثورة )فقد أفشلوا صراع المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي انطلاقاً من البرمجة ذاتها(.
ولقد أدت بعض “العمليات العسكرية” إلى تقوية السلطة بدل إضعافها، مثل السيطرة على حيي الميدان والتضامن في دمشق، والدخول إلى حلب.
وبهذا ضعفت سيطرة السلطة لكن لم تحلّ سلطة بديلة محلها، الأمر الذي فتح على نشوء عصابات تقتل وتنهب وتسلب وتخطف، وأصبح أمن الناس مهدداً في كل لحظة. وهو أمر لا شك ينعكس سلباً على الثورة، بحيث يربك مناصريها.
وبالتالي بات العمل المسلح مجموعات محلية متناثرة دون تنسيق أو خطة، أو رؤية. وباتت التنسيقيات ضعيفة الفاعلية، وانخرط قطاع كبير في العمل الإغاثي، وخرج جزء كبير من الشباب الذي شارك في الثورة إلى بلدان أخرى، إضافة إلى من استشهد أو سجن.
لهذا ظهر بأن الثورة دون أفق في اللحظة التي وصل الوضع فيها إلى تبلور كل الظروف التي تسمح بالحسم. لنتذكر أنها بلا برنامج أو رؤية، ودون قيادة فعلية. وكذلك دون إستراتيجية توضّح كيفية الوصول إلى إسقاط السلطة. الثورة تمتلك البطولة الفائقة لكنها لا تمتلك الرؤية ،وتمتلك الشجاعة الكبيرة دون أن تمتلك الإستراتيجية التي تجعلها تنتصر.
هنا “العقدة”. وهو الوضع الذي لم يوصل إلى تحقيق “انقلاب داخلي”، ولا إلى أن تتطور إمكانات الثورة، ويتعزز تنظيمها فتستطيع الانتصار. ولهذا ينفتح الأفق على احتمالات، ويصبح الحسم في الزمن الذي يمكن أن تنتصر الثورة فيه أو تتفكك السلطة أمراً صعباً. فربما تنكسر البنية الصلبة ،أو يجري توافق روسي إيراني على دعم “انقلاب” يهدف إلى تحقيق “مرحلة انتقالية” تعطي قدراً من الديمقراطية داخلياً لكنها تحافظ على المصالح الروسية الإيرانية. أو يفرض تطور الصراع إلى أن تقوم فئات داخلية بهذا “الانقلاب” دون حاجة إلى دعم روسي أو إيراني.
أو يكون ممكناً تنظيم آليات الثورة لكي تصبح أقوى وتفرض السيطرة على الأرض. وربما تنهار السلطة فينفتح الوضع على الفوضى. ربما هذا السيناريو الأخير غير مرحب به من قبل الروس والإيرانيين، ولا من قبل فئات في السلطة لأنها سوف تفقد امتيازاتها، ولا كذلك من قبل تركيا التي تخاف الفوضى في سورية. وربما يكون الاحساس بأن هذا الخيار بات ممكناً كفيل بالدفع نحو تحقيق الانقلاب الداخلي، والانتقال إلى تأسيس “دولة جديدة”.
متى يحدث ذلك؟ في كل هذه “الفوضى” ليس ممكناً التكهن، وما يجب التركيز عليه هو ليس متى يسقط النظام بل كيف نطوّر الحراك الشعبي والمسلح بحيث يصبح قادراً على الانتصار؟لهذا ما هو مطروح هو تحديد المطلوب، أي وضع رؤية واضحة للثورة ولمسار تطورها، لكي توصل إلى تحقيق الانتصار.
فوضى السلاح وتنظيم الثورة.
لم يكن استخدام السلاح بعد أشهر من النضال السلمي حالة عبثية أو مجرّد انفعال. صحيح كانت هناك بعض القوى التي تستعجل التسليح وتسترخص الميل إلى العنف، لكن ما جعل الشباب المؤمن حتى النخاع بالسلمية يتجه إلى السلاح هو طبيعة تطور العنف الذي مارسته السلطة ،خصوصاً منذ نهاية شهر تموز حين زجت الجيش في الحرب ضد الشعب، وطورت من أساليب القتل والإهانة طيلة شهر آب.
إذن ليس مفيداً التحسّر على السلمية أو الخوف من هذه النقلة المهمة في صيرورة الثورة. وليس مفيد أصلاً هذا النقاش، فقد انتقلنا من الشكل الذي بدأت الثورة به، أي التظاهر الذي كان يعطيها شكلاً محدَّداً هو شكل الانتفاضة )العفوية، الشعبية(، إلى الثورة بكل معانيها، حيث التظاهر والعمل المسلح. ولأننا انتقلنا كل هذه النقلة، أصبح ضرورياً أن نتلمس كل مشكلاتها، وأن نبحث في صيرورتها. حيث أصبحت بحاجة إلى “عقل” أعلى )أو أعمق(، لأنها باتت تحتاج إلى التخطيط الأدق، والاستفادة من التجربة بوعي، وتحقيق التنظيم الشامل لكل عناصر الثورة.
هنا تُطرح مسائل حساسة، أولها كيفية تنظيم العمل العسكري )من حيث تنظيم ترابط المجموعات ،ومن حيث تحديد إستراتيجية واضحة لكيفية تطوره بشكل منظم وواضح الخطوات(، وثانيها كيفية تحقيق الترابط بين العمل العسكري والنشاط الشعبي بعد أن ظهر أن العمل العسكري هو كل شيء وأن التظاهر الذي هو فعل الطبقات الشعبية بات هامشياً، وثالثها كيفية تنظيم المناطق التي باتت خارج سيطرة السلطة بشكل أو بآخر.
فالمسلحون مجموعات متفرقة، رغم أنهم يحملون اسم الجيش الحر )وهو اسم لبنية وهميةيستخدم ممن كان، وهذا هو الخطر(، بعضهم اصبح يجهر بلونه الطائفي )وهم من بقايا الإخوانالمسلمين والسلفيين بدأوا يدعمون بـ “جهاديين” مبرمجين على أولوية الصراع الطائفي(، وبعضهم شعبي )وهم الأكثرية( ليس لديه خبرة في العمل المسلح، أو في أشكال الحروب، لهذا تكون ممارستهم “دفاعية”، وحين يهاجمون تحدث أخطاء كثيرة. ولقد وقعوا في الخطأ أكثر من مرة دون الاستفادة من التجربة. وأهم هذه الأخطاء هو احتمائهم بالمدن والناس، الأمر الذي فرض “تدمير” الحراك الشعبي في العديد من المدن والمناطق، من منظور “تحرير” المدن، دون تلمس بأن السلطة تمتلك القدرة على تدمير المدن، وأن وازين القوى لا تسمح بالانتقال إلى هذه الخطوة، وبالتالي فهم يؤخرون تصعيد الصراع بدل أن يساعدون على تطوره، حيث لا بد من التركيز على مهاجمة المراكز الحساسة، و”الجيوش الزاحفة” للسيطرة على المدن، ومواقع الصواريخ والقذائف التي تقصف وتدمرٍ. وهذا ما يفرض التركيز على حرب العصابات بدل التسرّع في “تحرير” المدن في وضع غير مؤات.
هذا يحتاج إلى إستراتيجية عسكرية ضرورية لكي تكون فعّالة في مواجهة سلطة تستخدم كل أسلحتها. ويفرض تنسيق عمل المجموعات، وتنظيم نشاطها بشكل مشترك. وهنا لا بد من تهميش المجموعات الأصوليةن وعدم الخشية من ذلكن نتيجة الخطر الذي يمكن أن تشكله على الثورة ،وكذلك منعها من ارتكاب حماقات طائفية أو عسكرية. لا يجب الخوف هنا من “تصادم” لأن ضبط الوضع الآن أفضل من انفلاته لاحقاً بعد أن تكون قد قويت هذه المجموعات، وبدأت ممارساتها الطائفية.
إذن، نحن بحاجة إلى هيكلة المجموعات وإخضاعها لقوانين في ممارساتها الداخلية، وممارساتها مع الشعب، وكذلك مع الشبيحة وأفراد الجيش الذين يقاتلون ضد الشعب، او الذين لا يقاتلون لكنهم مازالوا في عداد الحيش. ونحن بحاجة ألى أن يكون واضحاً أنها لازالت معنية بدعم النشاط الشعبي، وحمايته، والتأكيد على ضرورته، لأنه القوة الأهم في كل هذا الصراع. وأن تتحدَّد إستراتيجية عسكرية واضحة تقوم على أساس قوانين حرب العصابات وليس الحرب النظامية. وأن يكون هدفها إضعاف القوة العسكرية الأساسية للسلطة، خصوصاً الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والشبيحة والمخابرات الجوية.
لقد أدى دخول دمشق والتمترس في مناطق ناشطة، مثل الميدان والتضامن، إلى تلاشي الحراك هناك بعد أن فرض التدمير والقتل هجرة السكان. وكذلك حصل في حلب بعد أن نهضت للمشاركة بقوة في الثورة، وها هي تتدمر ويتلاشي الحراك الشعبي فيها. وهو الأمر الذي يطرح السؤال: هل الغباء أو السذاجة هما خلف هذه السياسة العسكرية الفاشلة، والتي أعلنت تجربة حمص والزبداني فشلها مسبقاً؟ أو هناك سياسة لدى الأصوليين لزيادة التدمير والقتل على أمل أن تحدث سيربرينتسا جديدة تفرض على “المجتمع الدولي” التدخل؟ فالخطأ يتكرر، ويبدو أنه يتكرر بقصد وليس نتيجة عدم استفادة من التجربة.
إن الكتل الأساسية من المقاتلين هم من الشباب الذي شارك في التظاهر منذ البدء، والذين وصلوا بعد ستة أشهر إلى الحاجة إلى السلاح دون تدريب كافٍ أو خبرة سابقة )سوى قلائل ربما(. وهم لا يمتلكون سوى القليل من الأسلحة البسيطة، والذخيرة القليلة. وهم لن يستطيعوا الحصول على أكثر من ذلك لأنهم يحصلون عليه من مخازن الجيش أو من تجار سلاح بأسعار عالية. وإذا كان هناك من سيرسل فسيرسل القليل الذي لن يساعد على حسم الحرب، لأن من سيرسل لا يريد حسم الحرب. بالتالي يجب أن يكون واضحاً بأن هذه المجموعات لا تستطيع التحوّل إلى جيش ،وأنها لن تستطيع مواجهة تفوق السلطة. الأمر الذي يفرض عليها أن تعرف كيف تقيم الترابط مع الحراك الشعبي، وأن تركّز على تطوير الحراك الشعبي، وأن تكون وسيلة منع قمعه. بالإضافة لما جرت الإشارة إليه سابقاً من حيث ضرب القوى العسكرية التي تدمر وتقتل والمراكز الحساسة ،والشبيحة.
وربما يكون عليها دور حماية “الأقليات” )التي لازالت مع السلطة أو محايدة( من الجرائم التي يمكن أن ترتكبها مجموعات أصولية )بعضها أُرسل لهذا الغرض(. فهؤلاء جزء من الشعب حتى وإنْ كانوا الآن في “الصف الآخر” نتيجة تخويف من قبل السلطة وخوف من ممارسات وتصريحات ومواقف من بعض أطراف المعارضة، ومن الإعلام الخليجي ونظمه. والخطر أن يلعب البعض باسم الثورة في المسألة الطائفية فيزيد من خوف هؤلاء ومن تمسكهم بالسلطة. المطلوب هو عكس ذلك، أي اقناع هؤلاء بأن الثورة لهم كما هي لكل الطبقات الشعبية )وهم منها(. وأيضاً حماية المؤسسات العامة، وأمن الناس في وضع بات يسمح بنشوء عصابات مسلحة نتيجة تراجع سيطرة السلطة على الكثير من المناطق. حيث لا يجب أن تحدث فوضى في أي منطقة لم تعد الشرطة قادرة على “حمايتها”.
وفي هذا السياق لا بد من تغيير أسماء الكتائب، والتسمية بما هو وطني. فلسنا “جيوش الفتح”، حيث مضى زمنها. وما يهمنا الآن هو ما يوحّد وليس ما يخيف جزءاً من الشعب نتيجة “الضجة الإعلامية الأصولية”، والدور السعودي الداعم للصراع الطائفي عبر دعم الأصوليين حصراً.
ثم أن تراجع الحراك الشعبي يجب أن يلفت الانتباه، لأنه لا انتصار دون الحراك الشعبي، حيث يربك السلطة أكثر من السلاح الذي تمتلك ما يواجهه بتفوق. قوة السلاح الثوري تقوم على اعتماده على الحراك الشعبي، وليس سحق هذا الحراك عبر السيطرة على المدن والعجز عن الدفاع عنها، والنتيجة تدميرها ورحيل الشعب الذي كان يتظاهر، ليصبح بحاجة إلى مساعدة، أي يتحوّل إلى “عبء” بدل أن يكون هو الفاعل الأساس. ليس من “حروب تحرير” في الدول “التي تحكم محلياً )بدل أن نقول “وطنية” لكي لا تثير الالتباس(. ولا تسقط النظم بالسلاح، بل بالشعب بالتحديد، ويمكن أن يكون السلاح عنصراً مساعدا ومكملاً فقط.
هذا الأمر يفرض إعادة تشكيل التنسيقيات في كل المناطق لكي تعنى بتفعيل الحراك الشعبي ،ولا بد من أن تبنى بناًءً على الخبرة التي تراكمت خلال الشهر السابقة، بحيث تعمل على دراسةالوضع جيداً من أجل تحديد طبيعة التظاهر وزمنه وشعاراته التي يجب أن تعبّر عن أهدافالثورة ومطالب الناس، وتحدد السياسة العامة. ولكي تتجاوز الميل نحو النظر إلى المجتمع الدولي بل تركز على الفعل الداخلي، وتبرز الإصرار على استمرار الثورة وانتصارها.
لقد ظهرت مشكلة الحراك الشعبي في أنه لم يستطع تشكيل تنسيقيات ثابتة نتيجة الدموية التي تعرضت لها، لكننا اليوم بأمسّ الحاجة لتنظيم الفعل لكي يعود الحراك الشعبي قوياً وفاعلاً، رغم كل الدموية التي يواجَه بها من قبل السلطة. الشعب يجب أن يبقى في الشوارع، ويمكن للمجموعات المسلحة أن تحميه، بشكل لصيق أو من خلال قطع الطرق على القوى التي تهرع لمواجهته.
الحراك بحاجة إلى تنظيم بالضرورة لكي تصبح فاعليته أكبرن وتأثيره أعلى. ولكي يكون قادراً على توضيح الأهداف والمطالب من خلال الشعارات التي يجب أن تُرفع. لا يكفي الاعتماد على الله، أو المناشدة، لا بد من طرح كل ذلك لكي تكشف الثورة أخيراص عن جوهرها الذي شوشه الإعلام، وخربته أطراف المعارضة، وأربك من يجب أن يكون في صف الثورة. ولكي تواجه السلطة ببرنامج بديل يتضمن “روح” الثورة.
أخيراً، لا بد من تلمس أن ضعف السلطة فرض أن تصبح عاجزة عن فرض سيطرتها على مناطق كثيرة )وهذا لا يعني أن المناطق باتت محررة كما أوضحنا(، وهو الأمر الذي يفرض جملة مهمات تتعلق بإدارة هذه المناطق من أجل الأمن، كما من أجل توفير حاجيات السكان، بالتالي تشكيل سلطة بديلة.
كل ذلك يفرض أن تتشكل “قيادة” فعلية من التنسيقيات وقيادات المجموعات المسلحة والهيئات المدنية. هي التي تنظم العلاقة بين كل هذه الأطراف، وتحدد السياسة العامة، وتتمسك بالأهداف التي قامت من أجلها الثورة، وتصبح هي المعبّرة عن الثورة بالتحديد.
إن التعقيد الذي وصلت إليه الثورة يفرض الوضوح في الأهداف والسياسات، وفي العمل الذي بات ضرورياً أن يصبح منظماً، وربما معداً لكي يكون سلطة بديلة بعد أن ضعفت السلطة وأصبح ممكناً انهيارها.
حيث أنها “تضرب الحجر الأخير”، والذي سيفشل كما فشلت كل سياساتها السابقة. لم تعد العفوية مفيدة، ولا أصبحت الفوضى مقنعة. كما لم يعد التمسك بالحسم العسكري أمراً صحيحاً، ولا “تحرير المدن”. نحن لسنل ليبيا، ولن نكون. نرجو نزع هذا “المثال” من أفكارنا ،والتمسك بالحراك الشعبي مدعوماً بعمل مسلح يخدمه بالتحديد، عبر شلّ قوة السلطة، وإرباك تحركها العسكري.
لقد تقدمنا كثيراً، وبات ميزان القوى في غير صالح السلطة، وهو الأمر الذي يفرض تنظيم قوانا من أجل الاستفادة من هذا الخلل لمصلحة انتصار الثورة.