دمشق-العدد4-5-حسن خضر
لنفرض، جدلاً، أن الكلام عن سورية باعتبارها دولة مقاومة صحيح. هل في هذه الحقيقة ما يمنح النظام حق مصادرة الإرادة السياسية للمواطنين؟ ألا يمكن الرد على أمر كهذا بالقول إن الاعتراف بالإرادة السياسية للمواطنين )أو بحقهم في استقلالية الإرادة السياسية، أصلاً( يعزز مقوّمات المقاومة، وفرص نجاحها؟
وماذا لو افترضنا أن لدى المواطنين، أو قطاعات منهم، وجهة نظر مغايرة بشأن المقاومة، تبرر رفضها ،مثلاً، أو التساؤل بشأن توظيفها في سياسة تأبيد النظام، والتغطية على سياساته الاجتماعية والاقتصادية الفاشلة؟ ألا يحتاج النظام إلى تقديم «كشف حساب» من وقت إلى آخر؟ وهل توريث الحكم ضمانة لديمومة الدور المقاوِم، أم مجردّ اجتهاد يزعزع الدور نفسه؟
هل المقاومة ضد الحرية؟ وهل تستحق المقاومة كل ما أرُيق في سورية من دماء، وما أصابها من دمار؟ ألا تدل طريقة النظام في إدارة «الأزمة» على تهديد للدور المقاوِم، وفقدان للأهلية والشرعية؟ وأخيرا: ما هي المقاومة، بالضبط، ألا تصبح على خلفية كل هذه الأسئلة، ومعها، وما يدخل في حكمها ،شيئا لاً يتسم بالغموض وحسب، بل ويحرضّ على الارتياب؟
تحتكًم هذه الأسئلة، وغيرها، إلى المنطق، بيد أنها تجُابه بمنطق مضاد. وهذا في الواقع يحيل إلى شيء آخر، يتجاوز النظام السوري، ويرتبط بالفكر السياسي العربي، وعلى نحو خاص بمصادر الشرعية في الدولة العربية.
فلنقل إن المنطق النقيض تجلى في طريقة ترتيب الأولويات، وأسهم القوميون واليساريون العرب في تكريسه، وإنشاء بلاغته الخاصة، ومفرداته، على مدار عقود طويلة، إلى حد أصبح معه جزءاً من المخيال السياسي العام.
في العهد الناصري، مثلاً، نالت فكرة التنمية الأولوية على حساب الديمقراطية، ولم يتوقف أحد، ما عدا استثناءات نادرة، للتفكير في حقيقة أن الديمقراطية ضمانة للتنمية، ورقيب عليها. وتداول العسكريون ،الذين استولوا على السلطة، في سورية والعراق، وبلدان عربية أخرى، في عقدي الخمسينيات والستينيات ،أفكاراً مشابهة.
وكانت النتيجة، دائماً، تغليب التنمية على الديمقراطية. وفي العقود اللاحقة، بعدما اتضح فشل مشروع التنمية نال تعبير الاستقرار الأولوية، باعتباره بديلاً للفوضى.
وتجدر، هنا، ملاحظة أن الانتقال من الاستقرار إلى الفوضى، لم ينجم عن إخفاق مشروع التنمية وحسب، بل وترافق، أيضاً، مع حقائق سوسيولوجية جديدة، أبرزها تعزيز سلطة الانقلابيين، وهيمنة النخب الجديدة، التي جاءت معهم إلى سدة الحكم، على مصادر الثروة الاجتماعية، ومراكز القرار الاقتصادي والسياسي في الدولة والمجتمع. ومع هذه التحوّلات، وبفضلها، برزت مشاريع التوريث وإنشاء سلالات حاكمة جديدة.
ومع ذلك، جاء ترتيب الأولويات بلغة العصر، وبلاغته، ومفرداته. فإذا كان اليساريون قد أفرطوا في إضفاء صفات تكود تكون ميتافيزيقية على الطبقة العاملة، والطبقات الشعبية والكادحة، لم يقُصِّر القوميون في رفع «الأمة» إلى مرتبة المقدّس.
تحوّل الشعب، في الحالتين، إلى أيقونة تستحق العبادة والتقديس. وفي الواقع لم يكن للشعب، ولا للأمة، مكانة تستحق النظر والاعتبار في المخيال السياسي للسلطنة العثمانية، وفي النسق العربي ـ الإسلامي، عموما.
وهما، أي المخيًال السياسي للسلطنة، والنسق العربي ـ الإسلامي، المصادر الحقيقية للمخيال السياسي العربي. ولعل في هذا ما يفسّر التناقض الفاضح بين خطاب السياسة، الحديث والحداثي، الذي استعاره اليساريون والقوميون من لغة العصر، وطريقتهم في الحكم، واحتكار السلطة، ونهب الثروة الاجتماعية .وقد اجتمعت في حكمهم سمات سلطانية، ومملوكية، وعثمانية، لا تختلف، من حيث الجوهر، عمّا عاشته أقوام وشعوب مختلفة، في العالم العربي، على مدار قرون.
وفي هذا، أيضا، نعثر على تفسير لأحد المعاني المحتملة لثورات الربيع العربي، التي فتحت انسداداً في الأفق، وكشفًت حالة عسر تاريخية نادرة:
القديم، المخيال السياسي للزمن المملوكي، والسلطاني، والعثماني، لم يمض تماما، بل يواظب على الحضور، ويتجلى بطريقة تكاد تكون فضائحية في جمهوريات وراثية. والجديد: المسًاواة، والمواطنة ،والانتخابات، وحقوق الإنسان )وكلها تحظى بالاعتراف في خطاب الجمهورية(، يراوح في مكانه، وتتعسر ولادته.
لم يكن تغليب التنمية على الديمقراطية، ولا الاستقرار على الفوضى، المصدر الوحيد لتعزيز سلطة الحكام الجدد، في الجمهوريات الراديكالية. كانت، دائما، هناك مصادر أقوى، وأكثر فعالية، ويصعب التحقق من صدقيتها ونتائجها في وقت قصير.
وفي هذا الصدد تحتل فلسطين رأس القائمة. لم تكن الجمهوريات الراديكالية مسؤولة عن ضياع فلسطين، وعن هزيمة العام 1948. ولكن فلسطين أصبحت مصدرا من مصادر شرعيتها، ومن مبررات وجودها. وكان لهذا المصدر، بالذات، سحره الخاص لدى الشعوب اًلعربية. وهذا ما أسهم في تحويله إلى سلاح شديد الكفاءة والفعالية في الصراع العربي ـ العربي، وفي السباق على مكان الصدارة في العالم العربي.
بيد أن الفعالية الأهم لهذا المصدر ـ طالما أن قيمته الرمزية في السوق السياسية ثابتة، وطاقته التحريضية عالية ـ تمثلت في قابليته للانسجام مع كل ما يطرأ من جديد على سلمّ الأولويات. لذا، كان من الممكن تغليب التنمية على الديمقراطية.
فالأولى أقرب إلى فلسطين، لأنها تضمن تنمية القدرات الذاتية للدولة والمجتمع، وتسُهم في التعليم ،والتصنيع، والتسليح. وبالقدر نفسه، كان من الممكن بعد فشل مشروع التنمية، وتصعيد الاستقرار إلى رأس الأولويات، تكييف المسألة الفلسطينية، وإقامة الصلة بين بقائها حيّة، وبقاء أنظمة ترفع رايتها.
ولم يندر أن يصل التكييف، في حالات بعينها، إلى حد الابتذال. ففي ردة الفعل الأولى للحكام البعثيين في سورية، بعد هزيمة الخامس من حزيران، قالوا إن العدوان فشل لأن النظام «الثوري» في دمشق لم يسقط.
وهذا يعني أن ضياع الجولان السورية، وسيناء المصرية، وما تبقى من فلسطين، في تلك الحرب، ناهيك عن مهانة الهزيمة، أقل أهمية من وجود النظام. وأقل ما يقُال عن تكييف كهذا أنه يمثل إهانة للذكاء الإنساني.
بيد أن للإهانة تجليات إضافية. فإلى جانب فلسطين، باعتبارها مصدرا للشرعية، احتلت الوحدة العربية مكانة ثابتة على سلم الأولويات، وأخذت الجمهوريات الراديكالية علىً عاتقها مسؤولية تحقيقها.
وعلى الرغم من حقيقة أن الهدف الرئيس للانقلابيين كان استكمال مشروع بناء الدولة القطرية، التي نجح جيل الاستقلاليين في وضع لبناتها الأولى، إلا أنهم قللوا، على مستوى الخطاب، من شأن الدولة القطرية باعتبارها كينونة مشوّهة، ومؤقتة، فرضتها قوى استعمارية خارجية.
وهذا التناقض مثير للارتياب. ولكن يمكن تفسيره مع إدراك أن الاعتراف بالدولة القطرية، والتنازل عن مصادر خارجية للشرعية مثل فلسطين والوحدة العربية، يعني التنافس على، والبحث عن، مصادر الشرعية في القطر نفسه. وهذا يستدعي، ضمن أمور أخرى، الاحتكام إلى الشعب، وإعادة النظر في الأولويات.
ومع ذلك لم تكن فلسطين، والوحدة العربية، المصادر الوحيدة للشرعية. ولن يتمكن أحد من كتابة سيرة الجمهوريات الراديكالية العربية، في النصف الثاني من القرن العشرين، دون العودة إلى مصدر يتجلى في ذائقة العصر، ولغته.
3
الواقع أن عودة سريعة إلى الأيديولوجيات السائدة، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبدء حقبة الحرب الباردة، ليس في العالم العربي وحسب، ولكن في مناطق مختلفة من العالم أيضا، تكفي لإدراك أن الحروب الثورية، والانقلابات، كانت جزءا من المخيال السياسي لقطاعات واسعة مًن الناس في ذلك الوقت. وهذا يصدق، أيضا، على نظام الًحزب الواحد، وعبادة الشخصية، وازدراء حقوق الإنسان ،باعتبارها جزءاً من البضاعة الأيدًيولوجية للإمبريالية.
للتدليل على أمر كهذا، فلنفكر في الطاقة الإيجابية، في المخيال السياسي العام، وفي الأيديولوجيات القومية واليسارية، لأشخاص مثل لينين، وماوتسي تونغ، ولشعارات من نوع دكتاتورية البروليتاريا ،والمركزية الديمقراطية. الخ. بهذا المعنى، ومن هذا المعنى، استمد حكّام الجمهوريات الراديكالية شرعية إضافية، وحاولوا إعادة إنتاج ذائقة العصر السياسية، ولغته، بمفردات، وتمثيلات محلية.
ولكن، على الرغم من النفوذ الواسع لأيديولوجيات قومية ويسارية شكّلت ذائقة العصر، ولغته، في مناطق مختلفة من العالم، إلا أن حضورها في التمثيلات المحلية ظل سطحيا وهامشيا، ومحصورا في خطاب عن السياسة لا في السياسة نفسها. وكانت في كل مكان سادت فيه مجردً قشرة خاًرجية لمنتجًات سياسية مفرطة في محليتها، ومصنوعة، بالكامل، من عناصر الثقافة والتاريخ والمخيال السياسي المحلي.
وفي هذا ما يعيدنا إلى ذلك التناقض الفج، الذي يبدو محيّرا أحياناً، وكاريكاتوريا في حالات أخرى: التناقض بين السمات السلطانية، والعثمانية، والمملوكية للجمهوًريات الراديكالية )وًكًلها سمات محلية ،أصلية، وأصيلة( من ناحية، وخطابها عن السياسة من ناحية ثانية. يتجلى الكاريكاتوري في شخص مثل القذافي، الذي ثار على الملكية، بلغة العصر ومفرداته، وانتهى بعد عقود طويلة، مفتونا بلقب ملك الملوك. أما الفج، والمأساوي )بالتأكيد( فيتجلى في النظامين البعثيين في سورية والعراق. سًعى كلاهما على مستوى الخطاب إلى توحيد العالم العربي، بينما استثمر، لتأبيد وجوده في الواقع، بنى مذهبية وطائفية وقبلية، تنتمي إلى عصر ما قبل الدولة الحديثة .
وصلت الجمهوريات الراديكالية العربية إلى طريق مسدودة، وإلى شيخوخة مبكّرة، منذ مطلع التسعينيات في القرن الماضي. شاخ الانقلابيون الأوائل بالمعنى الحقيقي للكلمة، وصعد أولادهم إلى مراكز احتكار السلطة السياسية والثروة الاجتماعية، ومر ما يكفي من الوقت لسقوط أوراق التوت الواحدة تلو الأخرى: التنمية، فلسطين، الوحدة العربية، وذائقة العصر، ولغته.
فقدت كل المصادر التقليدية للشرعية قيمتها في السوق السياسية. أصبح الإمبراطور عاريا تماما، ووجد نفسه أمام خيارين: إما البحث عن مصادر جديدة للشرعية، وإقناع المواطنين بجدوى النظًام، أوً الدفاع عنه بتحويله إلى عصابة. وكان الثاني خيار آل الأسد في سورية.