دمشق-العدد4-5-أنور بدر
مرت هذا العام ذكرى نكبة 1948 وذكرى هزيمة 1967 وفلسطينيو سوريا يعيشون نكبتهم الثانية ونكستهم المعاصرة، إثر تهجيرهم من مخيماتهم، والقتل والدمار الذي لحق بهم وبممتلكاتهم، أسوة بما لحق بالشعب السوري في ثورته من أجل الحرية والكرامة.
يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا المسجلين لدى الأونروا نحو 600 ألف لاجئ، إضافة إلى بعض الفلسطينيين الذين لجأوا إلى سوريا لاحقا ولم يتم تسجيلهم في سجلات الأونروا، حيث يمثلّ الفلسطينيون في سوريا ما نسبته 2.8% من مجًموع السكان، منهم حوال 72 % فقط يعيشون في المخيمات، فيما يتوزع الباقون في 14 تجمعاً سكنيا، وداخل المدن والبلدات السورية أيضا، ويعيش حوالي 80% من فلسطينيي سوريا في دمشق وريفهاً. فيما يعيش الباقون في محافظات حلبً ودرعا وحمص واللاذقية وحماة، مع قلة لا تتعدى أربعة آلاف استقروا في محافظات القنيطرة وإدلب والرقة ودير الزور والسويداء.
يوجد في سوريا 13 مخيما للاجئين الفلسطينيين، تعترف الأونروا بعشرة منهم فقط، وهناك ثلاثة مخيمات لم تعترف بها المنظًمة الدولية، هي مخيم اليرموك في دمشق الذي يشكل أكبر تجمع سكاني لفلسطينيي سوريا، كذلك الأمر مع مخيم حندرات في حلب، ومخيم الرمل الشمالي في اللاذقية، وبالتالي تتلقى هذه المخيمات الكثير من خدمات المنظمة الدولية دون أن ترقى إلى مستوى الخدمات المقدمة لباقي المخيمات بالمعنى النسبي، وكلها تقع تحت إشراف «الهيئة العامّة للّاّ جئين الفلسطينيّين» في سوريا من ناحية الشؤون الإداريةّ والأحوال المدنيّة، بينما تخضع التجمّعات الـ 14 الأخرى لإشراف البلدياّت.
يعيش في مخيم اليرموك أكثر من 145 ألف لاجئ، أي قرابة ربع عدد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا ،ولهذا المخيم خصوصية بشرية واقتصادية متميزة، حيث تركزت فيه العديد من المؤسسات والفعاليات الخاصة بالتنظيمات الفلسطينية، وكذلك الأسواق الاقتصادية، واستقطب مبكرا الكثير من السوريين للعمل والعيش فيه، خاصة وأنه يعتبر المركز الأهم عمرانيا واقتصاديا بين تجًمعات الحجر الأسود والتقدم والتضامن، وحتى بالنسبة لمحيطة الأوسع كالسبينة وًحجيرة ويًلدا وببيلا ودف الشوك، التي تشكل الأحياء الشعبية الأكثر اكتظاظا بالسكان، والمجال الحيوي الأقرب لتوسع فلسطينيي المخيم ،وتشكل مع بعضها منطقة سكنية يقطنًها أكثر من مليون ونصف من السوريين والفلسطينيين، مع أنها الأقل تخديما والأكثر فقرا. وتضم قسماً مهماً من نازحي الجولان السوري المحتل، الذين لم يعبأ النظام السوري بمأسًاتهم حتى تاًريخه.
هذه البؤرة التي سكنها إضافة للاجئين الفلسطينيين، خليط من كل التلوينات المجتمعية والإثنية والطائفية للسوريين، عززت حالة التفاعل المعيشي والمجتمعي، في إطار الحالة الوطنية الفلسطينية الجامعة والطاغية أيضا، مما أنتج في المحصلة حالة سيسيولوجية، بسمات فلسطينية واضحة، تمتلك جذرا طبقياً واجتماعيا شًبه مشترك، ولها دوافع قوية باتجاه التمرد والثورة أيضا، وهي سمات فلسطينية بشكلً عام، جعلت منً الطبيعي في هذه البؤرة المشتركة أن يكون رئيس وأعضًاء مجلس بلدية اليرموك جميعهم من الفلسطينيين، رغم تدني نسبتهم العددية بالقياس إلى نظرائهم السوريين ضمن الحدود الإدارية لمخيم اليرموك.
تعززت حالة الاندماج منذ أصدر الرئيس شكري القوتلي القانون 260 لعام 1956 الذي منح فلسطينيي سوريا حقوقا في التملكّ والعمل والدراسة والوظائف الحكوميّة والانتساب إلى النقابات والاتحادات المهنيّة مثلهمً مثل السوريين. وهو القانون الذي حافظت عليه الحكومات السورية المتعاقبة، تعززت بموجبه حالة التفاعل المجتمعي والاستقرار المعيشي لدى الفلسطينيين في سوريا، مقارنة بفلسطينيي دول الجوار، حتى أصبحوا جزءا من النسيج الاجتماعيّ السوريّ، يتشاركون مع السورييّن أغلبَ الظروف المعيشيّة والسياسيّة والأمنيّة. وًأذكر في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي حين اعتقلنا في فرع فلسطين للمخابرات العسكرية، أن فروع الأمن وسجون النظام كانت تغص بآلافٍ من معتقلي الإخوان المسلمين واليسار السوري، إلى جانب الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين، وتحديداً من جماعة «فتح- أبو عمار.»
وكما كانت المخيمات مكانا للعيش والعمل بالنسبة للكثير من السوريين الباحثين عن سكن رخيص، أو فرصة عمل، إلا أنه بحكم توًاجد المنظمات الفلسطينية المتعددة فيه، شكّل بالنسبة للكثير من مثقفي اليسار بشكل خاص، وللشباب السوريين عموما، مكانا للنشاط السياسي، وفسحة لاكتشاف التعددية الحزبية والتنظيمية، وفضاءً لإعلام ثوري يستطيعً السورًيون من خلاله أن يعُبروا عن الكثير من الآراء والسياسات المحظورة في الإعلام الرسمي لنظلم البعث. حتى يمكن القول أن مخيم اليرموك لعبَ لعقود من الزمن دور البؤرة التي استقطبت الكثير من الفعاليات السياسية والنشاطات الثقافية للسوريين ،والتي قلما كانت متاحة خارج حدود ذلك المخيم، بل شكل المخيم بهذا المعنى خلية عمل وبؤرة نشاط بالنسبة للكثير من المثقفين العرب، وكذلك الأمر بالنسبة للتنظيمات الفلسطينية، وبشكل خاص على أرضية الحرب الأهلية اللبنانية، التي قلصت الدور الذي كانت تلعبه بيروت كحاضنة لمنظمة التحرير وبؤرة لمنفيي اليسار العربي، وفضاءً لتلك الفعاليات والنشاطات السياسية والثقافية، وبشكل خاص بعد انتقال أغلب صحف ومجلات الفصائل الفلسطينية إلى دمشق .
تلك الحالة الفلسطينية بخلفياتها التي أشرنا إليها شكلت عامل توحيد لكل السوريين الذين عاشوا في تلك المناطق المحيطة باليرموك حتى أنه شاع القول بأنهم فلسطينيون أكثر من كونهم سوريين، وربما يكون ذلك بتأثير انخراط أعداد كبيرة منهم في منظمات الثورة الفلسطينية، أو أنه أنتج هذا الانخراط في الثورة، لدرجة أن عدد الشهداء السوريين في العمل الفدائي الفلسطيني يقارب نحو ثلث شهداء الثورة الفلسطينية المعاصرة.
منذ بدايات الحراك الثوري في سوريا، حاولت أغلب الفصائل الفلسطينية أن ترفع شعار تحييد المخيمات ،إلا أنه كان شعارا مرفوضا من قبل النظام وجماعة أحمد جبريل الموالية له، حيث حمّلتهم الدكتورة بثينة شعبان نائبً رئيس اًلجمهوريةّ مسؤوليّةَ إطلاق الشرارة الأولى للأحداث في مظاهرات درعا ومن ثم اللاذقيّة، كما كتبتْ صحيفة «الوطن» السوريةّ، عن وجود «عناصر مندسّة» من الفلسطينيّين ضمن حشود المتظاهرين السورييّن في درعا، كانوا مسؤولين عن القيام بأعمال التخريب والتحريض.
وبالمقابل، كان صعبا بالنسبة للفلسطينيين الذين تقاسموا حلو الحياة ومرها، وعانوا مع أشقائهم السوريين من قمع النًظام وفساده، أن يكونوا على الحياد، حتى بالنسبة للفلسطيني العادي، فكيف بنخبهم الواعية والتي عاشت تلك التجارب، أو ترعرعت في فضائها السياسي والثقافي؟ كيف لهم أن يتقبلوا فكرة الحياد؟ وأن يكتفوا بمقاعد المتفرجين فقط على ما يحدث في سوريا؟
وإن كانت بدايات الثورة في درعا، فقد سقط أول الشهداء الفلسطينيون في درعا أيضا، حيث لقي «وسام أمين الغول» من مخيم درعا للاجئين الفلسطينيين مصرعه بتاريخ 23/2011/3، برًصاص قوات النظام حين كان يسُاهم بنقل اثنين من الجرحى السوريين المشاركين في احتجاجات درعا إلى المشفى ،وإن كان الدور الإغاثي والإسعافي هو الأبرز لمشاركة فلسطينيي سوريا في الثورة، إلا أن المخيمات الفلسطينية شكلت ملاذا آمنا للمهجرين السوريين من بطش النظام وحربه المدمرة أثناء دخول الجيش إلى مدنهم، كما حصل فيً مخًيّمات اللاذقيّة وحمص واليرموك وخان الشيح تباعا، وقدر عدد المهجرين السوريين في هذه المخيمات بأكثر من 150 ألف سوري. قبل أن يحول النظام تلكً المخيمات، وللأسباب السابقة إلى هدف لمضايقات الأمن والشبيحة، واعتبارها ساحة حرب، تتعرض لقصف قواته وقذائف مدفعيته، مما أدى إلى تدمير البنى التحتية للمخيم، وتهجير الفلسطينيين ومن لجأ إليهم من السوريين ،باتجاه البحث عن ملاذات أكثر أمنا بالمعنى النسبي .
في هذا السياق اندفع عدد كبير منً الشباب الفلسطينيين للانخراط في صفوف الثورة السورية، مطالبين بحريهم وكرامتهم المهدورة من قبل نظام البعث، بالتوازي مع همجية النظام وتمدد شبيحته وعناصر أحمد جبريل في مخيم اليرموك، حيث اعترف وزير العمل في الحكومة الفلسطينية برام الله جميل مجدلاني بالتقديرات التي تقول: «إن نحو 1300 فلسطيني يقاتلون ضد النظام وبتشكيلات مختلفة.»فمع استمرار الثورة لعامين وثلاثة أشهر، أصبحت كل الجغرافيا السورية هدفا لعدوان النظام، وكل من يعيش في سوريا من غير «المنحبكجية» هم أعداءً له وإرهابيين أو سلفيين، لا يفرق في ذلك بين سوري وفلسطيني، فقصفت المخيمات بكل أنواع القذائف والأسلحة الثقيلة والطيران الحربي، وصولاً إلى ارتكاب المجازر مع اجتياحها من الرمل الشمالي في اللاذقية إلى مخيم اليرموك في دمشق، والتي ذهب ضحيتها حتى تاريخ 11 / 6 / 2013 وفق تقديرات «مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا »في غزة 1354 شهيدا من اللاجئين الفلسطينيين، يتوزعون بين 1201 من الرجال و153 من النساء .
وإن كان لشعار « واحًد واحد واحد … فلسطيني سوري واحد» الذي رفع في أولى مظاهرات مخيم اليرموك أثر كبير في تأكيد العلاقة بين الشعبين السوري والفلسطيني، ووحدة قضيتهم التي تأكدت من جديد في سجون ومعتقلات النظام السوري، إذ أكد الوزير مجدلاني أن «هناك قرابة 2000 معتقل لدى الحكومة الرسمية جرى الاتفاق على الإفراج عن غير المتورطين منهم» بحسب تعبير مجدلاني ،منوّها أن «الحرب الدائرة رحاها في سوريا دمرت الدولة السورية، وأن النكبة في سوريا أكبر من نكبة الفلسطًينيين عام 1948». فيما أعلنت «مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية»: أن أوضاع اللاجئين تزداد سوءا، بسبب حصار قوات النظام لعدد من المخيمات.
هذا الحصار وبالتزامن مع قصف النظام وتدميره للبنى التحتية وانتشار قناصته أدى إلى عملية نزوح جديدة لفلسطينيي هذه المخيمات. حتى بلغ عدد المهجرين الفلسطينيين بحسب تقديرات مفوض عام وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» فليبيو غراندي، يوم 22/ 5 /2013 نحو ثلاثة أرباع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، كما تحولت سبعة مخيمات فلسطينية في سوريا إلى «ساحات حرب»، وفق تعبير «غراندي»، لدرجة أن عمليات القتل والاختطاف والقصف والتدمير والخوف أصبحت «جزءا من الحياة اليومية هناك»، مضيفاً أن هذا الوضع قد يكون بالنسبة للاجئين «نقطة انعطاف مأساويًة أخرى.»
وإذا كان من« 70» إلى« 80» بالمائة من فلسطينيي سوريا قد غدوا مشردين عن بيوتهم ومخيماتهم ،فأن قرابة 150 ألف فلسطيني قد فروا إلى دول الجوار، «بمن في ذلك أكثر من 60,000 لاجئ فروا إلى لبنان، إضافة إلى ما يزيد عن 7000 لاجئ فروا إلى الأردن». وهناك عدد من اللاجئين الفلسطينيين الذين اتجهوا إلى مصر، بل إن البعض منهم فضل اللجوء إلى غزة، وربما بعضهم وصل أوربا والأمريكيتين أيضا.
مأساة النزوح الثاني أعادت لفلسطينيي سوريا الكثير من صور النزوح التي رافقت النكبة، أو حتىً تلك الصور التي رافقت نكسة حزيران، خاصة وأن الحكومات المضيفة في لبنان أو الأردن لم تبد أي استعداد للتعامل مع قضيتهم بالشكل الإنساني، وفي مصر لا توجد مكاتب «أونروا» للاهتمام باللاجئين الفلسطينيين، ومع ذلك بدت «الأونروا» عاجزة عن تدارك هذه المعضلة وفق آليات عملها الروتيني ،فسارع المفوض العام للمنظمة السيد «غراندي» لتذكير المجتمع الدولي بمسؤوليته حيال الأزمة الطارئة، معلنا حاجة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» إلى 200 مليون دولار ،لتغطية أنشطتهًا الطارئة ذات العلاقة بسوريا