السّيدة راحيل
وسط هذا الجدل البيزنطي صدرت رواية الكاتب السوري الكردي سليم بركات المقيم في السويد “ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟” عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” (2019). وهي رواية يمكن وصفها بجملة واحدة بأنها عمل أدبي يُغازل اليهود من منطق التعاطف على المآل الذي حل بيهود سوريا إبّان نكسة حزيران 1967، حيث الرفض والتهجير القسري، وإقصاء الآخر وحرمانه من أهم حقّ من حقوقه؛ ألا وهو حق المواطنة وامتلاك الهوية، وقبلهما الشعور بالأمان.
هذه هي جملة الرواية الأساسيّة، والمسار الذي سلكته الشخصيات. وإن كانت تدور في فراغ سردي، لا يُعرف مبتغاه أو الجدوى منه، فالمؤلف يُحرّك شخصياته دون هدف تبتغيه، أو رسالة ينقلها إلي القارئ. لتبدو الرواية خالية من أيّ حدث جوهري حقيقي، بعد أن سيطر عليها الكثير من الثرثرات والحوارات العبثية، والمشاهد الوصفية الزائدة التي لم تفعل سوى أن أصابت الرواية بالتخمة، حتى وصل عدد صفحاتها إلى 566 من القطع المتوسط. وحتى لا يكون الكلام على عواهنه، تقدّم هذه المقالة العديد من البراهين على تلك الزوائد التي شابتِ الرواية، فنتساءل: ما فائدة وصف القدّاحة أثناء إشعال السيجارة هكذا “دس لفافة بين شفتيه في فمه الكبير. همّ بإشعالها من قدّاح معدن يُضغط طرف غطائه بالإبهام، فيرتفع الطرف المقابل عن طرقة تقذف الشرارة إلى الفتيل المبتل بالكاز، فيشتعل الفتيل” (ماذا عن السيدة اليهودية راحيل، ص 21)
وبالمثل ما جدوى الحديث عن السينما والحديث الطويل الذي استفاض فيه كيهات مع التاجر حميد زنابيلي، في أول يوم عمل له عندما ذهب برفقة أبيه، فيجده القارئ يُغرق في شرح مدلول كلمة “طرزان” المقتبسة من إحدى الشخصيات السينمائية، مع أن زنابيلي في الأصل قطع باب الاسترسال عليه عندما استنكر سؤاله عن ذهابه إلى السينما فقال غاضبًا “ينبغي حرق مَن يرتادون دور السينما” (ص 247). وبالمثل ما جدوى هذا الحوار الممل الذي دار بين كيهات بطل الرواية وبائعة الدجاج في صفحات (ص 75 وما بعدها) حول سعر الدجاجة والدجاجتين وربع الليرة والليرتين؟ عدا عن عشرات المواقف والمشاهد المصورة بطريقة تثير سأم القارئ بدلاً من أن تجذبه وتشده إلى النص.
الرواية محورها الأساسي عائلة كردية مكوّنة من الأب أوسي الذي يعمل في شركة الكهرباء، وزوجته هدْلا وابنيهما كيهات وهو الأكبر في السادسة عشرة من عمره، والثاني موسى يصغره في التاسعة من عمره، الأسرة الكردية تعيش على مقربة من الحي اليهودي في القامشلي في حي السريان، ولكن علاقاتها ممتدة بالحي وبسكانه سواء بحكم الصداقة كما في علاقة كيهات بأصدقاء المدرسة نعيم سامي وسمير إسحق ورحيم وهما من اليهود، وبوغوس جانيك من الأرمن، أو بحكم العلاقات التجارية والعمل كما في علاقة كيهات بالسيدة راحيل بائعة اللحم، والسيد زنابيلي صاحب حانوت بيع أكياس القمح والشعير الفارغة الذي يعمل عنده كيهات في العطلة، أو بالحب كما في علاقة كيهات بلينا ابنة السيدة راحيل.
تدور الأحداث في معظمها داخل نطاق بيت الأسرة، من خلال حوارات عائلية، بين الأب وزوجته وأبنائه، في مجملها عن الحياة اليومية، وتأثير حرب الأيام الستّة التي بدأت مع بداية الرواية على الحياة المعيشية، وأيضًا على الحياة في داخل المدينة، خاصة بعد انتشار أجهزة الأمن والاستخبارات، وما سببه وجودهما من مضايقات للسكان، واليهود خاصة، وأصحاب الهويات المضادة لهوية الدولة التي لا تقبل أيديولوجيتها الحاكمة إلا طيفًا واحدًا يؤمن بحزب وحيد هو حزب البعث المحتكر للسلطة، وهو ما يقود العائلة إلى التفكير في أن تكون عائلتهم معادلة لعائلة جارتهم كاتيا، فتنتسب لأحزاب عدة.
تتنقل الحكاية إلى خارج نطاق البيت إلى الحي، عبر مكوّن سردي/وسيط، هو كيهات وموسى، سواء في انتقالاتهما إلى السينما، أو انتقالات كيهات إلى المدرسة ولقائه بأصدقائه، أو انتقاله إلى السوق حيث السيدة راحيل وحانوتها لبيع اللحم، أو إلى بيتها حيث لقاء ابنتها لينا أو العمل لديهم في يوم السبت كي يرجوهما ليكون خادمًا لهما يقوم بتنظيف البيت وشطفه وتنظيف المداخل والعجن وغير ذلك من أشياء لا يقوم بها اليهودي في يوم السبت. وما تلبث أن تعود دائرة السرد إلى البيت من جديد، وكأن الحركة تبدأ من البيت وتنتهي إليه، في إشارة دالة إلى الهُوية المقيّدة التي تعمل الأيديولوجيا المهيمنة على فرضها على المُختلِف معها، وهو ما كان إيذانًا بالهجرة على نحو ما فعل بوغوس وأسرته إلى أرمينيا، أو بحالات اختفاء اليهود من الحي دون أن يعرف أحد لماذا؟
تقوم بنية الرواية على المشاهد الوصفية التي أغرق الراوي بها النص، حيث تتوقف عدسته عند كل شيء، ليس على طريقة بركات اللغوية الاستعراضية التي بدت لافتة في أعمال سابقة له مثل “فقهاء الظلام” أو “الريش” أو “السيرتين”، بل جاءت لغة عادية تفقد رَهانها على الإبهار حين لا تجد موضوعًا هامًا تدور حوله في كل حوار أو وصف. فحين يصف لنا الأماكن والأسواق داخل المدينة وحوانيتها أيضًا، نرى إسهاب الراوي الغائب في وصف تجارة اليهود المتنوّعة التي تتجاور في حوانيت مليئة بأعشاب العطر وأقمشة وتمور مجلوبة من أماكن مختلفة.
وعبر الوصف يأخذنا إلى وصف جغرافي للحي في رحلة ذهاب كيهات لجلب اللّحم، فيمر بشوارع عديدة إلى شمال المدينة ومن وسطها حيث المسجد الكبير، والسوق المسقوفة ذات الدكاكين والمساطب والأكشاك الواسعة والسينما المسقوفة. كما يصف لنا حركة الأشخاص في وصف يستغرق مساحة هائلة دون أن يكون مفيدًا داخل الدائرة السردية أو حتى دون أن ينمّي الحركة السردية أو يساعد على تطور الأحداث، على نحو ما نرى في مشهد وصف إشعال السيجارة بالقداحة، المشهد الذي يأخذ مساحة كبيرة دون أيّ فائدة تذكر إلا إذا رأى هو.
إلى جانب الوصف هناك أيضًا الحوارات التي يزدحم بها النص، فلا توجد شخصية داخل رواية بركات إلا وقد أجرت حواراً مع كيهات، واللافت أن تلك الحوارات أحاديث شاعرية ثقافية فلسفية لا تشبه الشخصيات التي تنطق بها، ولذلك تبدو مصطنعة غير حقيقية، أقرب إلى مسرح هزلي، يصوّر الأطفال والمراهقين بسيطي التعليم على صورة مفكرين وسياسيين، ويصور الجزارة اليهودية خلف خشبة تقطيع اللحم فيلسوفة إغريقية، أما كيهات فهو من يقوم بكل النقاشات، ويدير هذه الحوارات بدءًا من حواراته مع أخيه موسى عن السينما وتأثير الحرب عليها، إلى حواراته مع أبيه عن اللحم وأسباب شراء الدجاج أو التدخين سرًا، مرورًا بحواره مع رجلي الشرطة والاستخبارات وهو الحوار الوحيد الذي اعتبره مهمًّا، حيث كشف عن التضييق على أصحاب العرقيات الأخرى، ورفض الدولة لها، عبر ممثّليها أو أجهزتها الأيديولوجية، ثم حوار كيهات مع بائعة الدجاج الذي اعتبره نموذجًا للحشو والرطانة التي لا موضع لها. أو كحديث الراوي التعدادي عن أنواع شقائق النعمان الذي يبدو جلياً أنه مقتطع من موسوعة نباتية وملصوق لصقاً في الرواية، حتى أنه لم يكلف نفسه عناء شطب التعدادات الرقمية لتلك الأنواع، بينما بوسع القارئ أن يحصل على تلك المعلومات كما هي حرفياً من أي موقع علمي أو كتاب عن النباتات (راجع رواية ماذا عن السيدة: ص 415 وما بعدها).
يوميات يهودي من دمشق
تستدعي رواية بركات الجديدة هذه من المدونة السردية رواية الكاتب السوري إبراهيم الجبين “يوميات يهودي من دمشق” والتي صدرت طبعتها الثانية عن ذات الدار “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” عام 2017، وكانت طبعتها الأولى قد صدرت قبل ذلك بعشر سنين عن دار خطوات-دمشق 2007، وقد أتبعها المؤلف بجزء ثان متصل بشخوصها وأحداثها جاء بعنوان “عين الشرق: هايبرثيميسيا 21” في العام 2016.
الاستدعاء هنا ليس سببه أن الروايتيْن تتعلّقان بيهود سوريا وحسب، والعلاقات السائدة التي كانت بين الطوائف المختلفة في مجتمع كان سمته الأساسي تقبُّل الآخر والتعايش معه، إلى أن فرّقت السياسة بين جيران الحي وبين الأحبة كما في حالة المراهق كيهات الذي أحب لينا ابنة راحيل بائعة اللحم. فصارت الحدود بين الطرفين بتعبير إبراهيم الجبين “أكثر من مرئية وثقيلة وحادة”، التعايش الذي وصل مداه إلى أن سمى الأب ابنته اليهودية باسم مسلم “زينب” كما جاء في “يوميات يهودي في دمشق” تيمنًا بابنة تاجر مسلم أعجب الأب بأخلاقه، وإنما يعود ذاك الاستدعاء إلى التقاطعات بين الروايتيْن، التي لا تنكرها عين ولا يغفل عنها قارئ، سواء في استدعاء بعض الأحداث، أو على مستوى الثيمة نفسها “اليهود السوريون” وكذلك المكان الروائي الذي دارت فيه الروايتان (سوريا بصفة عامة) وإن كان بركات قد قام بسحب المكان إلى القامشلي بدلاً من دمشق التي تركزت فيها الأحداث عند الجبين، وكذلك سحب الزمان إلى زمن الهزيمة عام1967، في حين أن زمن “يوميات يهودي من دمشق”، جاء ممتدًا يتصل بزمننا الراهن، إلى أحداث الـ11 من سبتمبر 2001، وما تلاها من مآسٍ في عالمنا العربي، بل إن أبسط هذه التقاطعات الواضحة في تطابق اسم الشخصية الرئيسة راحيل التي ترد بذات الاسم في الروايتين، أو حضور الأسماء بدلالتها الصوتية، فاسم “إخاد” عند الجبين يُقابله “كيهات” عند بركات، في تقارب صوتي مباشر، و”ليندا” عند الجبين يقابلها “لينا” عند بركات. وأيضًا لدى الجبين بطل اسمه “إبراهيم” ولدى بركات بطل اسمه “إبراهيم” ومن ثمّ فالأحرى استعادة تفاصيل الروايتيْن لتكون الصورة واضحة في ذهن المُتلقي لهذه التقاطعات والتماثلات.
تدور”يوميات يهودي من دمشق” في الحي اليهودي في دمشق وتسرد عن علاقات الشخصيات بالمكان كما تُقدّم صورة عن دمشق المدينة الرحبة التي تتّسع ولا تضيق بالآخر، فالجامع الذي أسّسه عثمان أغا التركي على مقربة من حارة اليهود، ويتردّد منه الأذان في داخل المدينة حيث الأكراد الذين يعيشون في حيّ ركن الدين، ويُمارسون حياتهم ولغتهم وتقاليدهم بحرية، والفلسطينيون تُجاور بيوتهم بيوت اليهود المميّزة بنجمة داوود على أبوابها، والأطفال يعيشون معًا والعشاق يلتقون سرًا.
وكأن الراوي يريد أن يقدّم لنا شكلاً من أشكال المُعايشة بين الطوائف الدينيّة في إهاب المدينة، وهو ما يعدُّ سمة من سمات المدينة التي رحبّت بكافة الأطياف وانصهرت في بوتقتها. ولم تقتصر المعايشة على الإطار الشكلي فقط بل تجسّدت في ممارسة حيّة، فالأب اليهودي يُسمي ابنته “زينب” على اسم ابنة جاره وصديقه المسْلم، في صورة باذخة من حالات التسامح والتسامي التي كانت تسود المدينة التي في أحد مراحلها طردت اليهود كما في حالة والد إخاد الذي دفعته السُّلطة السياسيّة إلى الرحيل، وامتثل رغم رفض الأبناء لهذا القرار وتشبثهم بالبقاء، كما أن الأب نفسه مع يهوديته رفض مغالاة اليهود، فكان يرفض احتكاك ابنه بالحاخامات و”يبقيه بغير الثياب السوداء، ودون ضفيرتين تتدليان بالقرب من طرفي أذنه”، على نحو ما وصف الجبين في “يوميات يهودي من دمشق”.
كما أن اليهود أنفسهم، في رواية الجبين، كان منهم من رفض السياسة الصهيونية وسَعى لمحاربتها كما تجلّى في صورة شخصية اليهودي المصريّ شحاتة هارون، الذي كان ينتمي لحزب سياسي مُعارض ويتبنى سياسات ضدّ اليهود، فعارض اتفاقية كامب ديفيد 1979، وعندما زار رئيس الوزراء الإسرائيلي الكنيس اليهودي في القاهرة اعترضه وأبدى حنقه، ورغم خروج اليهود من مصر إلا أنّه رفض وقال «لن أتركَ مصر ولو قطعوا رقبتي إنّها وطني»، بل انخرط في التيارات السياسية المعارضة في ذلك الوقت وتمّ القبض عليه أكثر من مرّة، كما خضع مكتبه للحراسة، ثم خضع هو للاعتقال في مرحلة لاحقة، وعند وفاته رفض أن يُصلّي عليه السّفير الإسرائيلي واستأجرت أسرته حاخامًا من فرنسا.
أما الجزء الثاني من “يوميات يهودي من دمشق” والذي اختار له الجبين عنوان “عين الشرق”، فهي رواية أشبه ما تكون بسيرة للأشخاص، “صُور المدن” كما وصفهم راوي الجبين، الذين قطنوا المدينة، مِن أهلها ومِن جنسيات مُختلفة أيضًا؛ مصرية وعراقية وإيرانية وموريتانية وفلسطينية وأوروبية وأميركيّة. شخصيات عشقت المدينة، وفي هذه المدينة كما يقول الراوي في “عين الشرق” تختلط الهويّات والأخلاق والأهواء والأعراق والطبقات. شخصيات أصابها مرض المدينة فلم تبرحها كما هو حال الرسّام ناجي، واليهودي إخاد الذي ظنّ أنّه هاجر منها إلى أميركا “إلا أنَّ جسر الرحيل والعودة عن دمشق وإليها، لا يتوقف” كما يقول الجبين. وأيضًا تلك التي أعادت المدينة كتابة سيرتهم من جديد كما في نموذجي ابن تيمية والأمير عبدالقادر الجزائري الذي “عجز عن العيش في مدن عديدة قبلها”. وكذلك تلك التي لعنتها المدينة لِمَا قامت به من أدوار وصفها البعض بالخيانة كما هو حال شخصية الجاسوس إيلياهو كوهين “كامل أمين ثابت” أو إلياهو ساسون “مؤسّس جريدة الحياة”.
بينما يبدو المناخ العام في رواية بركات مناخ الاستبداد البوليسي العربي، في دولة يهيمن عليها حزب وحيد، يرفض الأقليات التي تتعايش داخله، وهو ما كان مؤشرًا إلى دفع الجميع إلى الرحيل، وهو ما أسهم في خلق وظائف جديدة قائمة على تسهيل هجرة اليهود من مدينة القامشلي، التي عاشت فترة تعايش بين هويات متعددة داخلها؛ أكراد أرمن، يهود، مسلمين؛ بترحيلهم إلى تركيا ولبنان وقبرص ومنها إلى الدولة الصهيونية وأميركا التي استقرّ الكثير منهم في حي بروكلين، وهو ما يرد عند الجبين أيضًا.
وقد تجلى هذا الاستبداد القومي العربي في قهر الآخر الذي لم يقف عند عدم الاعتراف بالعقيدة الدينية المغايرة لعقيدة هوية الدولة، على نحو ما حدث مع الأكراد واليهود والأرمن، وقد تجلت صورته الأبرز بوضع الدولة اسم القادسية، وهي معركة شهيرة هزم فيها الفرس على يد العرب على مدرسة كانت للراهبات المسيحيات.
وأيضًا جاء القهر عبر وسيلة أكثر استلابًا للهوية والسعي إلى طمسها، باعتبار أجهزة الدولة ليهود سوريا “نوعًا ثالثًا” فلديها “هم مواطنون بامتيازات ليست لغيرهم” (ماذا عن السيدة: ص367)، فلا حق لهم في قيادة السيارات، أو الخدمة في الجندية، وكذلك لا حق لهم بالانتساب إلى مؤسسة من مؤسسات الجيش، وغيرها من حقوق شرعية بسيطة ممنوعة كتحويل مال إلى أيّ مصر في الأرض، حتى أنهم ممنوعون من بيع أملاكهم، وبالمثل ممنوعون من مغادرة الأمكنة التي يسكنون، وعليهم إثبات وجودهم في منازلهم إلا بالرجوع إلى فرع الاستخبارات فترة بعد أخرى. وهو ما جعلهم دومًا تحت مراقبة أجهزة الدولة الأمنية والاستخباراتية، وهو ما عبر عنه كيهات عندما رأى اندهاش أخيه موسى لما رأى سيارتين جيب لرجال مخابرات في حي اليهود، فقال كيهات “هذا عادي في حي اليهود”(ماذا عن السيدة: ص 318).
وبعد عرض الجوّ العام للروايتيْن نتوقف عند التماثلات والتقاطعات التي من إمكانها تثير التساؤلات عن حدوث مثل هذه التناصات، وهل هي من باب المصادفة البحتة، أم هو نوع من التلاص الخفي، والذي لا يمكن كشفه بسهولة؟
التماثلات على مستوى الشكل
تتخذ الروايتان شكل اليوميات، وهو ظاهر في رواية الجبين بصورة لافتة، منذ عتبة العنوان، كما تتجلّى داخل المتن عبر الأحداث التي تتقاطع مع شخصية محورية هي الراوي إبراهيم، وعلاقاته بليندا اليهودية، وإخاد اليهودي الذي التقاه إبراهيم مصادفة، وكان قرأ له كتابه “لغة محمد”، وتعرّف عليه في البار واصطحبه معه إلى لا مكان. ثم شخصية محمد شوق نيازي الذي يقدّم لنا صورة لصعود التيارات الإسلامية المتشدِّدة، وكيف أنها صارت لُعبة في يد الأجهزة الأمنية والاستخباراتية.
بنية اليوميات ظاهرة أيضاً من خلال علاقة إبراهيم بالشخصيات التي يلتقيها، إخاد وليندا ومحمد شوق نيازي، ثم أخيرًا نور التي تحضر قرب نهاية النص. كما يكشف الجبين عن علاقة الآخرين باليهودي من خلال نظرة الناس لإخاد وعلاقة إبراهيم وإخّاد، التي يراها الأخير تختلف عن علاقة الآخرين فعندما يعرفون أنه يهودي، ينظرون له من خلف زجاج واق، وكأنه “سلاح قد ينفجر في أية لحظة” (يوميات يهودي في دمشق: ص 51).
في رواية الجبين ثمة مسارات ثلاثة تسير بالتوازي، إبراهيم مع ليندا، وإبراهيم مع إخاد، وإبراهيم مع محمد شوق نيازي، الذي كان صديقًا له يعيش معه في غرفة واحدة في حي اليهود، ثم وصل به الحال إلى أن يراه يخطب في مسجد، وخلفه آلاف المريدين، ويترك له السرد ليحكي بنفسه عن رحلته التي بدأت من كلية الشريعة ، ثم وراثته لحميه الذي ترك لابنته عدة ملايين، وصولا إلى تحوّله إلى الشخصية المثيرة للجدل أبو المحجن المطلوب من أميركا؛ لأنّه يدعم الإرهاب والجماعات المتطرفة في العراق، وأيضًا لأنه مساهم في تأسيس تنظيم القاعدة في بلاد الشام، ونواة الدولة الإسلامية في العراق التي تطورت لاحقاً إلى “داعش”.
قد يبدو نص بركات “عن السيدة اليهودية راحيل؟” نصًّا روائيًّا، فيُقسّمه المؤلف إلى فصول خمسة، ويهيمن عليه راوٍ غائب يدير حركة السرد، إلّا أنّ البناء الداخلي لهذه الوحدات المنفصلة المتصلة لا يخرج عن قالب اليوميات، فالأحداث التي يسردها الراوي الغائب عن بداية الحرب وأثر الهزيمة الموجعة وما تلاها من إجراءات بوليسية قمعية وصلت إلى إقصاء الآخر الكردي، بل وفصله من العمل كما حدث مع أوسي الكردي، حتى صارت أمنية ابنه كيهات أن يعود أبوه إلى عمله الذي فصل منه. وهكذا يهيمن طابع اليوميات على الوحدات السردية، فترد عبارات مثل “مرّ يومان من مطلع الحرب خاملين”، أو “في اليومين الأولين”، أو “في اليوم الثالث اتضحت صورة الأوامر” ، وغيرها من عبارات تؤكد الامتثال للتسجيل اليومي.
وثمة صيغة أخرى لليوميات تظهر عبر رصد تسجيل تأثير الحرب على الحياة داخل الحي، وكأنه يقدم صورة يومية لما يحدث، فقد أقفلت الحوانيت في الحي اليهودي، والإجراءات التي صارت أشبه بأوامر جميعها تحمل صيغة ممنوع، وحيالها لازم اليهود بيوتهم لا يبارحونها وهي “بيوت وحوانيت من عمر المدينة، تراصت متجاورة بقاطنيها من الدين الواحد” وما تبع هذا من ملاحقات أمنية، وانتشار الشرطة ورجال المخابرات في الحي، وغدر الحرب بإغلاق السينما الذي لم يفهمه موسى الصبي العنيد ذو الثلاثة عشر عامًا، وحوارات السينما بين الأصدقاء، وما يحدث في بيت أوسي وزوجته هدلا، ثم رحلة شراء اللحم من السيدة راحيل، التي لا تبيع لحم البقر أو العنز، فاختصاصها من الذبائح الضأن، إلى علاقة كيهات بلينا ابنة راحيل، وهناك بعض من يوميات كيهات وأصدقائه نعيم سامح وسمير إسحق وبوغوس الأرمني الذي سيهاجر إلى أرمينيا. بإلاضافة إلى رحلة كيهات إلى بيت راحيل والأعمال التي يقوم بها من عجين، وغيرها.
وثمة صورة كاشفة لهذه اليوميات في مشهد إجهاض هدلا زوجة أوسى، فيحدد الراوي وقت الإجهاض بيوم الثلاثاء، ثم يقول الراوي “يومان أعقبا الحادث مكمّما الفميْن في بيت أوسي” وبعدها يقول “حل يوم الجمعة” (ص 325).
تماثلات وتقاطعات مثيرة
أما بالنسبة إلى التقاطعات على مستوى الثيمات والمكونات الداخلية، فالنصان، نص الجبين ونص بركات، يتقاطعان في قصة الحب المنبوذة وفقا لحسابات اختلاف الهويات والأعراق، في رواية إبراهيم الجبين راحيل كانت تعشق نجيب المسيحي، وقد ذهب إلى الحرب ولم يعد، ومن ثم فضّلت البقاء في المكان ولم ترحل، حيث رحل الكثيرون إلى سيرانهم الجديد. إلى أن هربت إليه صوب الدير القديم الذي يعيش فيه.
وهنا في رواية بركات، شخصية إستير أخت لينا ابنة راحيل هربتْ مع أشوري مسيحي تزوجته ولم تعد إلى عائلتها (ص 119)، كما أن ثمة قصة حب آخذة في التشكل بين كيهات الكردي المسلم ولينا اليهودية عند بركات، كما هي قصة الحب بين إبراهيم المسلم وليندا اليهودية عند الجبين.
ومن المشتركات بين النصين، الحديث عن السينما، ففي نص بركات تبرز هذه العلاقة عبر ولع موسى شقيق كيهات بالسينما وشعوره بالضيق حين قامت الحرب وتوقفت العروض في السينما، واستمرار العروض بعد توقف الحرب، لكن تأثرت بالسياسة الجديدة التي فرضت، كما كانت الرغبة لدى موسى للذهاب إلى مصر فترجّى أباه قائلاً “أنا طرزان. أرسلني، يا أبي إلى مصر حيت أكبر قليلاً” (ص 133) حين سأل الوالد: ماذا ستفعل في مصر؟ أجاب “يصنعون أفلامًا في مصر، يا أبي” فهو يريد أن يصير ممثلاً بل يصفه أبوه بأنه “طرزان قامشلو”. وفي نص الجبين “يوميات يهودي في دمشق” تبرز العلاقة مع السينما ذاتها، في علاقة الراوي بسينما يوسف شاهين، وعلاقته بخالد يوسف، وعن حلمه بالقيام بفيلم يسرد فيه حكاية الفيلسوف العربي ابن رشد، وهو ما حقّقه له يوسف شاهين (يوميات يهودي من دمشق ص ص 36، 37)، ومثلما غَبط إبراهيم شاهين على فيلم المصير، غبط التونسي ناصر خمير صاحب أهم أفلام السينما العربية على الإطلاق “طوق الحمامة المفقود”. وفي رواية “عين الشرق” ولع الراوي بالسينما لا يقف عند كتابته لفيلم عن الأمير عبد القادر الجزائري، ولفيلم آخر عن الشاعر السوري الرائد إسماعيل العمود. فالسينما تتغلغل في داخله، وبطل الرواية عندما يصف صديقته سلمى يعكس ملامحها على “مونيكا بيلوتشي” و”روزموند بايك”، إذ يقول الجبين في روايته حرفياً “كنت أعيش سينمائيًا، في الصورة والمشاعر والأصوات”.
كوهين الجاسوس
يستحضر بركات في روايته شخصية أثارت الجدل من قبل، هي شخصية الجاسوس إيلياهو كوهين الذي صار صاحب نفوذ واسع بين القادة الكبار، وقد ذكره بركات هكذا “الجاسوس الإسرائيلي الذي مرّغ طبقة الحكم السورية قبل حرب الأيام الستة في سهولة محتقرة… جاء من الأرجنتين ثريا يحفظ آيات من القرآن، ويتحصن بتعاليم الدين الإسلامي”(ص 328). ومن الأخطاء التي وقع فيها بركات أنه ذكر أن كوهين أعدم في العام 1966، بعد ثلاث سنين من إقامته في سوريا، وعمل مستشارا لوزير الدفاع وبالبحث والتحري يتضح أنه أعدم في العام 1965، كما أنه لم يعمل بهذا المنصب وإنما كان على علاقة بالقيادة القطرية لحزب البعث، ومقرّبٌ من دوائر القرار.
في الحقيقة إن هذه الشخصية التي جاء ذكرها عابرًا في رواية بركات، تمثّل إحدى الشخصيات الأساسية التي سعى الجبين إلى تفكيكها في روايته “عين الشرق”، فيأتي ذكر كوهين من خلال محاضر التحقيق معه التي منحها المحامي العجوز هائل اليوسفي لبطل الجبين. لذا تأخذ الشخصية في رواية الجبين مساحة كبيرة، تتوزع على المتن كله، فيتتبع الراوي نشأته في الإسكندرية في مصر، ثم هجرت عائلته إلى إسرائيل بعد إعلانها كدولة، وتنقلاته بين مصر وإسرائيل، بل يتتبع رحلاته بين مصر وإسرائيل وقبلها إلى بوينس آيريس يوم التقاه الرئيس السوري الأسبق أمين الحافظ في مكتبه في السفارة السورية، وصولاً إلى قدومه إلى سوريا في العام 1962، بعد أن عبّر عن “اشتياقه الكبير للعودة إلى وطنه سوريا، ورؤية شعبها الطيب، ورؤية شوارعها وتلالها وسهولها” (عين الشرق، ص 90) إلى تخفّيه تحت اسمه الجديد، ودخوله النسيج الاجتماعي، وصعوده المريب بين القيادات، وصولاً إلى اكتشافه وبدء محاكمته، وإعدامه في ساحة المرجة في دمشق، بل ويذكر الكثير من وقائع هذه المحاكمة وأقوال كوهين اعتراضًا على وصف هيئة المحكمة له بأنه جاسوس (ص 125).
الغريب أن الجبين اعتبر كوهين صائدًا للنازيين الهاربين إلى دمشق سعياً إلى محاكمتهم كما عبّر في حوار بطله مع صديقه إخاد، حتى أنه يراه ضحية، فعنده يبدو كوهين ذلك اليهودي العربي الذي تمت التضحية به “مثله مثل بقية الشرقيين يهودًا ومسلمين ومسيحيين. السكان الأصليون الذين تمت وتتم إبادتهم بهذه الصورة أو تلك” (عين الشرق، ص 132).
التهجير والسبت والفطير
من التماثلات أو التوازيات بين العملين، ما جاء عن اختفاء اليهود السوريين، فبركات على لسان راويه يقول “لن يتمكن التاريخ الشفهي من رسم معالم للوقائع في اختفاء يهود من مدينة قامشلو…” (ص، 328)، وهذه الاختفاءات ناتجة عن إكراهات مارستها السلطة، واستغلها التجار، وفي “عين الشرق” ثمة إكراه مماثل تمثل في أن مسيحيي “دمشق وجدوا أبواب بيوتهم معلّمة بالصلبان” (عين الشرق، ص 316) وهو ما عرف بطوشة النصاري، وما أعقبه من تهجير قصري لهم، وهو ما استغله العالم ففتح “باب الهجرة لهم، سفن فرنسية وبريطانية، رست على الشواطئ اللبنانية لترحليهم بعيدًا عن الحرب الطائفية”، لولا تدخلات سليم العطار والأمير عبدالقادر في حماية مسيحيي الشام (ص، 322)، وهو الأمر الذي لم يتحقق للطوائف الأخرى في رواية بركات.
يعرض سليم بركات لعادات اليهود من خلال شخصية السيدة راحيل بائعة اللحم، وعادات يوم السبت، حيث يتجنب اليهود الأعمال فيه، وهو المدخل الذي يلتقطه كيهات من زميلين له عربي وأرمني، فيسعى لعرض خدماته على أسرة راحيل في بعض الأعمال التي يُحرّم على اليهود القيام بها في يوم السبت. بينما نرى ليندا في “يوميات يهودي في دمشق” وقد “طلبت من صديقها أن يساعدها بإدخال الخيط في ثقب الإبرة، وعندما سألها قالت: أرجوك لا أستطيع فعل ذلك اليوم،… إنه السبت” (ص، 36).
وهكذا نرى أن يوم السبت اليهودي كان في رواية الجبين مفتاحاً للحب، وهو في رواية بركات مفتاح للحب أيضاً، يستعمله البطل للتسلل إلى عالم الحبيبة. في رواية بركات حوارات عن اللغة العبرية، على نحو ما جاء في حوار لينا وكيهات عن تعليمه اللغة العبرية، فقد ذكرت، أنه لا يوجد عندهم كتب بالعبرية، أو أنها تكتب رسائل إلى أمها بالعبرية، وبتأكيدها “ليس عندنا إلا التوراة في البيت” (السيدة: ص ص 341، 342)، وفي رواية الجبين حوارات عديدة عن تلك اللغة التي يقول بطله “إخاد” إنهم لم يكونوا يستعملونها في البيت. “فهي لغة الصلاة وحسب، والعربية هي اللغة الأم”.
يصوّر بركات في روايته العجين اليهودي، وكيف تقوم راحيل بتعليم كيهات طريقة صنعه، وفي رواية الجبين يبرز العجين اليهودي حتى يتألق في حادثة “فطير صهيون” الجريمة التي نفذها عدد من يهود دمشق بقتلهم الراهب الكبوشي “توما” وكيف أنقذتهم القنصليات الأوروبية ونقلتهم ليحاكموا في مصر قبل أن يتم العفو عنهم.
يعرج بركات على وصف المتطرفين الذين يرون في الفنون أمورًا محرّمة، وفي حديثه عن مطاردات بين الإخوان المسلمين والمخابرات في شوارع القامشلي، وهو الأمر ذاته الذي نجده عند الجبين في تصويره للمتطرفين من القاعدة وسواهم، ومحاولة الاغتيال التي يخشى منها بطله “أبوالمحجن” ويتوقع أن المخابرات ستقوم بها وتنهي حياته. ناهيك عن الوصف المسهب لطبيعة المتشددين وتكفيرهم للآخر وتقلباتهم الفكرية في رواية الجبين، وخاصة في الجلسات التي يقدم فيها مريدو محمد شوق نيازي ويستفتونه في العلاقة مع اليهود والنصارى.
يتبادر إلى الذهن بعد هذه التقاطعات الواضحة بين النصيْن، بعض الأسئلة على نحو: هل اطّلع مسؤولو الدار على النص جيدًا، ولم تستلفتهم هذه التقاطعات، خاصة وأن نص الجبين صادر أيضًا من ذات الدار؟ أم أن الأمر يدعو للرّثاء لحال الناشر الذي تخدعه الأسماء الكبرى من الكتّاب ويُسلِّم تسليمًا بيّنًا بما يكتبون؟ والسؤال الثاني لو حدث العكس بأن تقاطعت أعمال بركات مع الجبين، أو حتى مع روائي آخر غير مشهور ماذا كان رد فعل الدار، وفي نفس الوقت هل يصمت الروائي الكبير أمام هذه التقاطعات ويقول إنها مجرد توارد خواطر؟ أمّا السؤال الثالث فهو: ما حاجة كاتب بحجم سليم بركات إلى استحضار كل تلك التفاصيل من رواية أخرى؟ وهو صاحب منجز كبير ومرموق؟ هل للكتابة غير الواعية دورٌ في ظهور هذه التقاطعات دون أن يكون بركات مدركاً لها؟ أم أنه قرر إعادة كتابة الثيمات ذاتها التي كتبها الجبين في روايته فوقع في التشابه معه إلى درجة لا يمكن لأحد أن يتجاهلها؟
وإذ يبدو عمل إبراهيم الجبين في جزأيه “يوميات يهودي من دمشق” و”عين الشرق” نصًّا لتفكيك الرموز السلطوية التي هيمنت على المجتمع السوري والعربي، فيبقى سؤال أخير عن حالة خطب الودّ التي بدأ عليها كيهات بطل سليم بركات، في استجدائه العمل لدى اليهودي تارة، حتى أن تنافسًا وصراعًا في أحقية الخدمة حدث بين الكردي كيهات والعربي البدوي نبهان (راجع ص 344)، وتارة في اللامبالاة التي وصلت إلى حدّ السخرية في حديثه عن طبيعة الأكراد وتلفيق الكردي التاريخ لنفسه، وتزويرهم للحقائق بغرض الانتقام “فنسبوا إلى عرقهم أنهارًا وبحيرات من مياه التاريخ” (ماذا عن السيدة: ص 266) وأيضًا في حديثه عن لواء الإسكندرونة، فنراه تفلسف على لسان الراوي هكذا يقول “إن الواقع ينسبها إلى تركيا، أما الخيال افتراضيّا بدافع من عصبية العرق ينسبها إلى سوريا” (ماذا عن السيدة: ص، 284).
فهل هذا الانصياع الذي بدا عليه بطل بركات تجسيد لمآل عربي قادم، يُمهّد له أو يروّج له بركات، غايته خطب ودّ الآخر، ومهادنته، والتذلل لإرضائه؟ أم هو نوع من السقوط المريع في بحر التطبيع، ودفع الآخرين إليه؟ الغريب أنه لا بصيص أمل من قبل الآخر المُتهافت عليه في نيل ودّه أو استقطابه على نحو ما مُنِي به بطل بركات، وخرج بعد كل شيء خالي الوفاض، فقد هربت راحيل من المكان كما فعل الكثير من اليهود بعد الحرب!