أحمد أنيس الحسون
لعّلّ أبرز ما يميّز توغل الأنساق الثقافية في الشعوب العربية هو نموذج الفحل، وقس على ذلك أدبيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيّاً، وهذا الأخير ما يعنينا في هذا المقام في تقصٍ موجز لتشريحًه وتبيانً تغلغله وفًعله القبيحً الطاغي وما ساقه طغيانه إلى ثورات شعبيّة نبذت القيود وتطلعت لحياة كريمة لا مكان فيها للطغيان والفساد.
لقد وقعت الشعوب العربية في ظل استعمار يجسد المركزية العليا في الدولة، واعتادت لزمن طويل العيش في ظّلّ الإقطاع، وبدأ الاستعمار التدريجي بأشكال وصور مختلفة حتى بات العيش في ظّلّ الاستعمار فكريا كان أو سياسيّا أو ثقافيّا واقعا يعيشه الشعب العربي إن لم نقل اعتاد عليه ،وتاقت الشعوب للتحًرر من نير الاستًعمار ولم يًخالطً هذا التوق – إلا ما ندر – الريبة والتوجس من أوساط ادعت كذبا أنها نضالية ونشرت المفاهيم الإنسانية وأخفت في دواخلها مفاهيم لا تقّلّ شئناً عن مفاهيم الاستعًمار من حيث الطغيان والنهب واحتكار الناس وعقولهم وحياتهم، وذلك نظراً لانغماس تجار السياسة في العملية السياسية والتوغل ببطءٍ في شريان الحراك السياسي للشعوب المقهورة، وسرعان ما اعتلى الطغاة عروش الطغيان باسم الثورة تارًةً وتحت مسميات مختلفة فكانوا الورثة الشرعيين لأسلافهم )أسيادهم ( من زعماء الاستعمار وتجار الحروب.
عرفت الشعوب أنها ترزخ تحت وطأة استعمار من نوع جديد هو الاستعمار الوطني، ولكن تمّ تغييب الصفة الاستعماريةّ عن هذا الاستعمار المشكَّل من الحكّام وإعطائه طوابع نضاليّة وثوريةّ تندرج فيما تندرج تحت شعار القائد الرمز، أي ما كان الوطن ليوجد لولا وجود هذا الرمز )الفحل( ،وأسُقطت هالة تقديسيّة عجيبة على هذا الفحل القائد واستخدمت المؤسسات الترويجية لهذا الفحل شتى الوسائل لغمسها في العقول من خلال الكتب والإعلام وبث الأفكار والتلاعب أو إيهام الجماهير بانتصارات وإنجازات وهميّة للقائد الفحل، حتى بات الولاء للفحل وإنجازاته ضرورة وطنيّة ودينيّة وأي شك في ذلك فإنه خروج عن جمهورية الدين والتربية والوطن وعقوبة الارتداد أقلهّا أقبية تحت الأرض لعقود وأفضلها وأرحمها للمرتد حبل المشنقةِ، فقد وظفَّ الطاغي الفحل المؤسسات التربوية والثقافية والدينية وعلى رأسها المؤسسة العسكريةّ المخابراتيّة الإجراميّة في
الثورة السورية والانتفاضات العربية من منظور نقدي
مضمونها وشكلها، وكّلّ ذلك لخدمة مشروعه السياسي القائم على الاحتكار والطغيان، وعلى الرغم من أنّ هذه السياسية الترويضيّة استمرت وحققت نجاحا وهميّا مفترضاً خلال عقود من الزمن إن يكن كرها أو صمتا أو بأي شكل كان، فإنّ التوق للتحرّر مًا زال مًوجودا عند الشعوب، ولا يختلف في حقيقتهً عن التوًق القديم المتمثل في التحرّر من الاستعمار، وعاد الشًوق للتحرر من العبودية ،وهذا التحرّر طريقه شاقٌ ولكنّه ضرورة لا بدّ من تحقيقها على الرغم من كّلّ التخريب والطغيان الممتد عبر عقودٍ، فالزعماء الطغاة ) الفحول ( سيطروا وانتهكوا البلاد ومقدراتها تحت عناوين وأسماء عريضة، فالوطن ماعاد الشعب والشعب ماعاد الوطن، فكّلّ أولئك مفردة من مفردات الزعيم الفحل، حيث تجسدت قيم الوطنية والوطن بشخص الطاغية الذي يحدد ملامح الوطنية والسلام والتعايش بمفردات لا تنتمي إلاّ إلى قاموسه السياسي تماما كالكتاب الأخضر الذي ابتدعه القذافي واختصر فيه مفاهيم الثورة والنضال والقيادة وما إلى ذلكً من مصطلحات بات المواطن العربي يشمئزّ منها لكثرة ورودها وانتشارها في الصحف والمهرجانات الخطابيّة وعلى جدران الأزقة التي لم يصل لها حتى التيار الكهربائي، وأصبحت الكذبة حقيقة نعيشها ونعرف أنها كذبة، ومع مرور الزمن تستشري في عقول الأجيال كمسلمّة يجب التسليم بها جنبا إلى جنب مع المسلمّات العقائدية إن لم نقل قبلها، لذلك فإن استئصال هذه الأمراض والخبائث يحتاًج لثورة عظيمة، فهي ستواجه رداً شرسا من مؤسسات الزعيم وعلى رأسها المؤسسة العسكرية المخابراتيّة القمعيّة المهيئة لتدمير البلاد في حاًل تعالت الأصوات ضد الفحل الطاغي، إلا أنّ الشعوب خاضت هذه الثورة ولن تحيد عن رفع رايتها ولو كان ذلك على الحطام.
ومع بداية الربيع العربي بدأت هذه الرمزية الفحوليّة للحكّام تنهار، وبات من الممكن فضح الممارسات والأكاذيب ورفع الغطاء عن الصمت الكبير الذي أعطى شرعيةً للطغيان، فمن كان يعتقد أنّ أصنام حافظ الأسد تنهار بين أقدام الشعب وهو أكبر طاغية استحوذ على رمزية الفحل السياسي لما كان يمتلكه من حنكة سياسية متوازية مع البطش والإجرام الممارسين بحق الشعب السوري لمدة عقود، هذا الطاغي الذي زوّر المفاهيم واعتلى عرش الفحولية بالأوهام السياسية والبطولات الزائفة والانتصارات الوهميّة غير الموجودة إلا في مهرجانات حزب البعث الخطابيّة والتي عبر عقود تروّج للقائد المناضل الزعيم البطل المنتصر ) بالأوهام (، والأجيال تصفق دون أن تعرف ماهية هذا النضال والانتصارات والبطولات المزعومة، هذه الأوهام هي عينها التي زرعت وهم الوراثة للطاغية، فالفحل كّلّ مايبدر عنه هو فحٌلٌ بالضرورة لما يمتلكه من مسحة تقديسية لا تتوفر إلاّ في شخصه، وعليه كان لابدّ في عُرف البعثيين وحراّس الطاغية الأوفياء أن يؤسسوا لمفهوم ابن القائد الفحل، ولا أحد في زعمهم يصلح لقيادة البلاد إلاّ ابن الطاغية، فكانت عملية توريث ابنه بشار يدرجونها في قواميسهم السياسية والتربوية على أنها ضرورة دينية ووطنية وسياسية، فهو الابن للقائد الفحل وأكفأ الناس
الثورة وانهيار رمزيّة الفحل السياسي
لوراثة البلاد باعتبار هذه البلاد تم تطويعها على أنها هي من تنتمي للطاغية حافظ الأسد وليس هو من ينتمي لها،كيف ولماذا لا يجوز السؤال عنها والسؤال عنها بدعة سياسية أقّلّ مايقُال عنها خيانة عظمى وعقوبتها الإعدام، وظّلّ الكبت يختلج في الصدور حتى انبثق الربيع العربي وأصبح أداة للتحرر من عبودية الطغاة العرب الذي ورثوا الاستعمار ولم يقلوّا عنه شئنا في الإجرام والسلب والنهب وتشكيل المافيات والميليشيات المساندة لطغيانه، ومع أوّل مظاهرة شًعبية بدأت تتلاشى هيبة الفحل الذي يعيش في عوالمه الخاصة وما يعتريها من خيالات توهمه بأنه المقدّس وهذه القداسة ضرورة حتميّة لحفظ البلاد وكرامتها، لقد عاش الطاغي فيها على أنهّ معبود الجماهير وصدّق الكذبة بأن الجماهير تقدّسه بل يجب أن تقدسه، فمثل أولئك الطغاة يعيشون في مزرعة مليئة بالأوهام يصنعها لهم أسلافهم من المجرمين ويؤطرها لهم في مؤسسات البلاد حرّاسهم الأوفياء ،لذلك فإن الزعيم لا يصدّق أنّ أحدا يصرخ في وجهه، وهل يصلح أن يصرخ العبد في وجه الربّ؟! ،هم هكذا الطغاة يفكرون ويعيشونً في وهم القداسة المفتعلة، وعلى الرغم من أنهم يعرفون أن قداستهم مصنوعة بالحديد والنار إلا أنّ الطغيان أعمى العيون والقلوب وباتوا أشبه ما يكون بالمريض النفسي الذي يصدّق خيالاته وأوهامه كطواحين الهواء في رواية دونكيشوت.
فمن يجرؤ على الخروج في وجه الرمز؟. إلا أنّ الحقيقة غير ذلك تماما فقد خرج الناس في وجه الرمز الوهمي وأسقطوا صوره وأصنامه، فكانت التهمة هي الخيانة والمؤًامرة، وأي خيانة أكبر من الخروج في وجه معبود الوطن كما يتخيّل نفسه طاغيتنا المسكين. لذلك عندما يتحدث بشار الأسد عن المؤامرة والخيانة فهذا نتاج طبيعي وطبيعي جدا لأنه من المفاهيم الفحوليّة المريضة التي تربّ عليها ورباّه عليها حراّسه وميليشياته، فهو مقتنع أشًدّ الاقتناع أنّ الخروج في وجهه هو مؤامرة وإلا كيف سيخرج الوطن وهو جزء من القائد في وجه الزعيم المناضل قائد التطوير والتحديث وصاحب الانتصارات الأسطورية والإلهية وما إلى ذلك من خرافات البعثيين وأذنابهم من سّراق الوطن ومغتصبيه؟ من المؤكد أنّ الطاغية الذي يعيش في مزرعة الطغيان ويشرب من لبن الطغيان وطوال حياته يعيش في حظيرة من الأوهام لن يقبل فكرة التحرّر من العبوديةّ لأنه أصلاً لايعرف معنى التحرّر وما التحرّر في عُرفه إلا الانصياع للرمز والرمز هو موّزع الحريةّ وسيدها، لذلك أصيب بشار بالجنون مع أول صرخة حرية في وجه طغيان هذه الأسرة الحاكمة السارقة للبلاد والمخرّبة للمؤسسات، وكان عليه أن ينعتها بالخيانة والمؤامرة وما شابه، واستنفرت مؤسساته التي وظفتها أسرته الحاكمة عبر عقود، فانبرت المؤسسة الدينيّة باعتبارها تخاطب العواطف الدينيّة لعلهّا تفعل فعلها واستخدم فيها موظفيه من مشايخ السلطة، وانبرت كّلّ المؤسسات للدفاع عن المجرم وترسيخ مفهوم المؤامرة مستخدمةً كّلّ الوسائل تماما كما استخدمتها في ترسيخ مفهوم القائد الأوحد والفحل المناضل، ولأن هذه المؤسسات قد لفظتها اًلشعوب وماعادت تكترث في نفاقها وتحزبها للمجرمين
الثورة السورية والانتفاضات العربية من منظور نقدي
فإن الوجه الحقيقي للفحل سيظهر مع تفعيل دور أهمّ مؤسسة يعتمد عليها الطغاة في حكمهم للبلاد وهي المؤسسة العسكريةّ والأمنيّة المنُشئة أصلاً لخدمة الزعيم وحماية حكمه اللاشرعي الذي لا تقرّ به أي شريعة على وجه الأرض إلا شريعة الغاب، وبدأت هذه المؤسسة العسكرية المجرمة تعيث فسادا في الأرض وتنشر الخراب والدمار تحت شعار «الأسد أو لا أحد» أمّا بشار الأسد فمازال يعيش في أوهًامه الموروثة، فالخروج عن القائد الفذّ المقاوم والممانع بالأساطير والثرثرة هو جريمة وخيانة، وفي مقابل هذا الخراب الذي تنشره مؤسساته التدميرية لا يزال الشعب يقول كلمته ولن يحيد عنها: لا مكان لبشار وطغمته في سوريا.
أمّا مايتعلقّ بثقافة النموذج الفحل فإنهُّ وإن سقطت في شكلها العام إلا أنهّا ماتزال شوائبها تتحرك كرواسب وبقايا في دواخلنا تحتاج قفزًةً نوعيّة للتخلص منها نهائيّا، فهذه الرمزيةّ قد استحكمت عبر عقود في خلايا المواطن العربي، وقد تعددت في شتى أشكال الحياةً، لذا بات التخلصّ الظاهري منها أمرا ممكنا ومتحققا، ولكن انغماسها في باطن المواطن هل من الممكن استئصاله؟ فرمزية النموذج تتغلًغل كالًسم في الجًسد وتستحوذ على الشرايين، ومن المؤكد أنّ نصف قرن من التخريب المفتعل للعقول والمؤسسات – ونخصّ التربوية منها – قد فعَلَ فعله الشنيع في عقولنا، وهذا يحتاج زمناً لاستئصال كّلّ الشوائب العالقة من تربية الطغيان ومؤسساته عبر عقود، وقد بدت تظهر نتائج هذا التخريب من خلال ما نلاحظه من الاختلاف والتحزّب لحزبٍ دون آخر، ومن خلال التقديس لقائمة معارضة دون أخرى وهذا كلهّ من موروثات العقود الماضية ولعّلّ أبرز هذه الموروثات التصنيم والتفحيل لنموذج ما وهذا النموذج ليس بالضرورة شخصاً فقد يكون فكرًةً أو حزباً أو تكتلاً وما شابه ذلك.
علينا نبذ ثقافة التقديس لأنها من المخلفّات القديمة والتي نبذتها مفاهيم الثورة وأخلاقها، لذلك لا بدّ من التخلصّ منها تماما بوصفها لا تتلاءم مع مانسعى إليه، فلا قداسة إلا للمقدّس وماعدا ذلك فإنها مفاهيم تتبدّل فتنمًو وتضعف وتموت وتحيا، والثورة العظيمة التي كتبها الشعب بدماء الشهداء التي روت أرض سوريا كفيلة بنبذ كّلّ الخلافات وطرد كّلّ الأوهام من المؤسسات، وإعادة هيكلة مؤسساتنا كلهّا بالشكل الذي ينهض بالوطن وبالشعب، إنّ هذه الثورة التي تكتسب كّلّ ما من شأنه أن يضعها على عرش أعظم ثورة في التاريخ تستطيع خلق حالة من التوّحد ضد كّلّ من يريدنا أن نعيش على حطامنا يائسين، إنّ الثورة السوريةّ العظيمة منذ اليوم الأول قررت أن تكتب التاريخ من جديد بعيداً عن التزوير والطمس، فالشمس التي أشرقت بنورها على هذه البلد الدامسة منذ حوالي نصف قرن ستنير الطرقات كلهّا ولا مكان لظلمةٍ بإذن الله تعالى، فلا تقديس لأحد إلا للمقدّس وحده سبحانه وتعالى، وسنرمي ثقافات مؤسسات النظام البائدة وراء ظهورنا لنسمو بالوطن وثورته ونرتقي بدماء شهدائنا الأبرار زماناً وماناً جبل الزاوية