الطاهر لبيب
«إلهي إن كان في سابق علمك أن يوجَد الجحيم فعظمّ خلقي فيه حتىّ لا يسع معي غيري». قال هذا البسطامي، فيضَ غيريةٍّ، في مناجاة، فاستجاب البوعزيزي، في جحيم الأرض، فيضَ معاناة. ما شيّع الصوفيُّ ذو «الشطحات» نحو السماء ردّه البوعزيزي إلى الأرض: جحيم الأرض ليس فيه «إن كان»، وهو لا يؤجَّل إلى يوم القيامة. هو هنا والآن، وهنا والآن صَهْده. لا واصَلَ ولا فاصل بينه وبين المصهود غير جِلده: آخر ما يتبقّى للمعدَم وأوّل ما تمسّه النار.
من المحتمل أن يرد في الذهن هذا المشهدَ، مشهدا أوّل، ولكن بماذا وكيف نحرّكه؟ لم يترك البوعزيزي نصّاً، فحتىّ «رسالته» إلى أمّه استبعدها الشكُّ فيهاً. وهو لم يتكلمّ، محترقا، ثمانية عشر يوما. من أين لنا، والحال هذه، معرفة ما أراد من إسناد المعنى إلى فعله؟ أيةّ دوافع غيًر مرئيّةٍ، غير مروًيةٍّ كانت له؟ ماذا نقُوّله؟ أيةّ أفكار وأحاسيس نحمّله؟ ثم لماذا الإصرار على الاقتراب منه؟ لماذا العودة من أثر الفعل إلى الفاعل، لحظةَ فعله؟ ألَمعرفةٍ أم لتخفيف ذنب؟ كثيرون أحرقوا أنفسهم وغاب ذكرهم في «متفرقات» الصحف، فهل كنّا نعود إلى البوعزيزي لو لم يكن لفعله امتدادُ ثورة؟ وإن أعَرضنا عن هذه الأسئلة وعن التخيّل والاستنباط في الإجابة عنها هل نكون أنصفنا «الإنسان العادي» في إنسانيته؟
«إنسان عادي» ضَديدُ البطل) anti-héros(، بلا ملامح ثورية، «ينُتج»، بلا علم منه ولا رغبة، بطولةً جماعيّة تقود وتنجز ثورة. أسئلته لا تشغل أهل السياسة فهم مدفوعون إلى توظيفه، ولا المحللّين فهم متعالون به إلى «الماكرو»، ولا رجال الدين فهم مكّفّرون أو طالبو شفاعة، ولا المعلقِّون في ثقافة العابر فهم في وقتِ ارتجال. يبقى كبار المبدعين فلهم القدرة على صهرِ الأسئلة وأجوبتها في مفارقات الحالة ونمذجة الشخصيّة. للعمل الدرامي أن يواجه هرج التبشير الفكري ومرجَ المسْرحَة السياسية المملةّ. للرواية أن «تروي» ما وراء ما يرُوى. للشعرِ أن يهرب بالرمز من عَراءِ المباشر إلى حيث التضمين والتكثيف. كبار المبدعين هم العارفون المعترفون بأن نصوصهم ليست فضاءً لتسطير الحقائق، فالمعنى فيها مفتوحٌ، وإنما هي فضاء للإسقاط: بناء نص عن البوعزيزي، متخيَّلاً، يعبّر عنّا نحن ولا يعبّر عن حاله إلاّ في حدود ما يتحقّق منها فينا وما نسُقط عليها منّا.
)١( أحرق محمد البوعزيزي نفسه، أمام مقر ولاية سيدي بوزيد، يوم 17/12/2010، وتوفيّ )رسميا( يوم 4/1/2011.
)٢( الضَّديد، استعمالاً، أقل التباساً من الضدّ والمضاد، وفيه «الخلاف والمثِل»، كما يقول «اللسان ،»وهو المعنى المطلوب.
«الإنسان العادي»، من أمثال البوعزيزي، لا يمرّ من العادي إلى الاستثنائي إلا بصعوبة، وإن مرّ بقي مهدَّدا بالإرجاع إلى العادي. لهذا أسباب كثيرة، أوّلها جاذبيّة الأصول الاجتماعية حيث لا تميّزَ يعوّل عليه، وًثانيها كره النخب لكّلّ منعطفٍ لا ينعطف بهدْيٍ منهم، وثالثها ما يعاد رسمه من حدود بين المقدّس و»المدنسّ»، بين البديع والبدعة. وراء هذا وأقدمُ استبطانُ الثقافة العربية الإسلامية لانسداد رافدينْ كبيرين من روافد الترّميز: التراجيديا التي لا عناصرَ تبنيها، إذ الحياة «ممرٌّ» لا يواجَه القدر فيه، واللاوعي الذي قد يرُى في التسليم به تبريرُ أفعالٍ ومواجهةُ أحكام.
بدءا، إذا، تتبيّن صعوبة الترميز لمن أراد بناء شخصيّة استثنائيّة في النص العربي. لم يجرؤ على فتح ما انسدًَّ منً روافد الترميز إلاّ ما ندر من كبار المبدعين، في مرحلةٍ يبدو، الآن، أنها كانت غفوًةً أو غفلةً قبل «صحوة»! اليوم تبُدِّل حملات التفتيش عناوينَها لتدُخل الرمّز في أفقر أياّمه. والمفارقةُ، اليوم ،هي بين تكاثر الترميز وتفرّعه وانتشاره في المعارف وفي حياة الناس اليوميّة وبين تشديد الرقابة عليه ،شراسةً إلى حدّ التكفير، وامتدادا إلى حد التسلط عليه من كل حدب وصوب، يفُتي فيه كلُّ من هبّ ودب. تحدّي البوعزيزي، شخصيًةً تبُنى، هو هنا: هو يتحدى الثقافة السائدة، لا في نقل أخباره، وهي قليلة، ولا في التعليق عليها، وإنما في قدرتها على ترميزه. الترميز –مهما سطحّته ثقافة الدوتْ كومْ الفايسبوكية- هو رؤية ومعرفة وآليات، وهو أيضا، هنا، موقف فكري سياسي تجاه فعل «الإنسان العادي». في كل حال، لن يبقى من البوعزيزي ومنً أمثاله غير ما رُمّز وانبنى نموذجا.
مهما يكن، ليس لنا من البوعزيزي وعنه غير الصور، وهي تلك التي أراد الناس أنً تكون صوره .صورتان وحيدتان، لا يشُكّ فيهما، يتداخلان، تحت عنوان «صور البوعزيزي» مع صور أخرى كثيرة ليست له، قطعا. بعض «صوره» مركّّب وبعضها متخيَّل، فقد «التقط» الناس صوراً له، غيابيّا. عندما نحوّل الواقع صوًرًةً تصبح الصورة، في الذهن، أكثر واقعيّةً من الواقع. وبقدر ما يلتبس الوًاقع أو نجهله يسهل، بالإسقاط، تعويض الحال التي أرُيد تثبيتهُا، لحظة التصوير، بحال أخرى نريدها أن تكون. الإسقاط بالتماهي يعدّل الصورة، «يسوّيها» لتعادل صورًةً أخرى هي في الذهن، بحسب «ما قام في النفس أنه مستقيم» كما يقول «اللسان». هكذا يصبح الواقع هامشاً للصورة تطُرِد إليه ما لا تتحمّله.
صورة البوعزيزي المعروفة لا نرى فيها ما كان يرَى، لا نعرف وجهةَ نظرته. نرى ذراعيْن ترتفعان وتنفرجان. قيل إنه كان يصّفّق في عرس، ولعله يغني. في الصورة، خلفه، ما يوحي بذلك، ومن التعاليق ما ذهب إلى أنه فيها «مُقبل على الحياة». ليكن! ولكن، بعد أن حدث ما حدث، ترُى الصورة من خلال ما حدث، وهذا ينقلها إلى زمن غير زمانها: البوعزيزي، رافعاً ذراعيه، لم يعد يصّفّق وإنما «يتشّفّع». لم يعد يغنّي وإنما يردّد ما يقول التونسي حين يشتد به ضيقُ الحال: «ما عندي غير جلدي.»
هناك صورة احتراقٍ أولى مقمحةٌ في «ألبْوم» البوعزيزي يبدو فيها المحترق هاربا من النار بالنار. ما شكّله اللهّبُ منه له «وجهان»: أعلى يبدو آتيا وسفلي يبدو ذاهباً. لعلهّما ارتسًما في الأذهان كما ارتسم وجها الاله جانوس الموهوب إليه والمشتقّ منه شهر جانفي: إله خرج من خَواء العالم، ناظراً بوجه إلى الماضي وبالآخر إلى المستقبل، في آن واحد. أين كان يتجّه هذا المحترق؟ إلى باب مفتوح ،لخروج بلا رجعة، أم إلى باب نجده؟ هل سبق المرادُ الإرادة؟ لا ندري، ولكنّ أغلب الظن أن المقبل على قتل نفسه –مهما كان عزمه- يبقى فيه بعض رغبةٍ في إنقاذها. هو لا يصدّ من أراد خلاصه وإن لامه إن نجا. لكأن الإقدام على الفعل هو المراد، لذاته، وليس الموت.
ما استحضر البسطامي، بدايةً، صورٌةٌ ثالثة من «الألبْوم» يبدو فيها المحترق جاثما على أربع، يصعد اللهّب إليه، من تحته، يرفعه ويأكل منه: حالة من الاسترفاع أو «الجذب» يحاصِرً فيها لهبا لا يمتدّ أبعد منه. ما يتآكل من اليدين والرجلين يعلن انهيارا وشيكا. التآكل فعُلُ عبور: يتآكل الجلًد فيمرّ الداخل إلى الخارج والخارج إلى الداخل. للجلد، هذًا الواصًل الفاصل، رمزيةٌّ قويةّ، منذ أساطير الإغريق، فهو فيها حامٍ ومهلكٌ، إلى التحليل النفسي فهو فيه واسع الدلالات. هذه الرمزيةّ ضعيفة في ثقافتنا العربية الإسلامية. مكر الجِناس، في العربيّة، جمع بين الجِلد والجَلدْ والجَلدَ، ولكنه مكرٌ تأرجح، في الثقافة، بين الخير والشر، خارج الجهاز النفسي ومفاهيمه. الأحلام التي كانت أوسع الطرق إلى اكتشاف اللاّّوعي لم ينجُ «تأويلها» من هذا التأرجح الذي مسّ مصير الأموات أيضا: «إن رؤي الميْتُ، في المنام، حسنَ الجلد فقد دل هذا على أنه في نعيم»! وللجلد، في صيغة الجمعً، في القرآن تحوّلات قويةّ الإيحاء: «تقشعرّ» جلود الذين يخشون ربهم و»تلين»، و»تصُهَر»، و»تنَضج» و «تبدَّل» جلود الذين كفروا، وهي، كالسّمع والأبصار، شاهدٌةٌ على أعداء الله يوم القيامة. لقد عرفت الثقافة العربية الإسلاميّة، وخاصة متصوّفوها، البواطنَ والسرائر، والضمائر والخواطر والهواجس ،وعرفَّت الرمز بما هو «معنى باطنٌ مخزون تحت كلام ظاهر لا يظفر به إلاّ أهله»، ولكن معياريةّ الخير والشرّ حاصرت الرمزَ، وتخصيصا في الإبداع الذي لا يكون من دونه .
صورة أخرى، أخيرة، لا لبس في أنها للبوًعزيزي: حفرٌةٌ في الوجه، في موقع الفم وتخومه، فارغةٌ، فاغرة ،غائرة في السواد، لا يرُى غيرها من الجسد المضمّد على السرير. يقول العرب: «إذا سقطت الجبهةُ نظرت الأرضَ بإحدى عينيها». هل هذه الحفرة هي هذه العين؟ وإن نظرت فماذا رأت؟ أما الأنابيب المشدودة إلى الجسد فلا نعرف إن كانت لا تزال تصل داخله بالخارج أم كانت مماّ يبقى على الركُّح بعد نزول الستار. تعاليق الناس ترجّح المسرحة وترى في ساديةّ السلطة ما يكفي من الجبن لإظهار الميتْ حيا، خوفا من الغضب المشهد مشهد دفنٍ: هُيئّ الجسد لعين السلطة، مرفوع الرأس والصدر قليلاً، وغُطًيّ أغلبه بغطاء مزركش خالط ألوانهَ لونهُا الرسمي البنفسجي. مَن الناظر ومن المنظور؟ تلك الحفرة الفارغة في الوجه هي المحدّقة في الواقفين حذو السرير، تحاكمهم، تربكهم، ترعبهم ،تجمد نظراتهم، تربط أياديهم، مضمومةً، على البطون أو الصدور، تبتلعهم. «الزين» المشدوهُ، بفمه نصف المفتوح، لا نراه يقول: ماذا فعلتَ بنفسك يا بوعزيزي؟ وإنما: ماذا فعلتَ بي؟ «السيدّ» أصبح عبدا ل «عبده.»
)1( قًد يكون فيها دِرعا واقيا، وقد يلحقه العطب، منذراً بسوء المآل، وقد يكون الموت في نزعه: زوسْ، رب الأرباب، جعلً من جًلد العنز التي أرضعته غِمدَ سلاح عجيب. أخيْلْ، بطل الإغريق الذي غطسّته أمه، عند ميلاده، في ماء نهر يجري تحت جهنّم، سعيا إلى خلوده، قتله سهمٌ في الكعب الذي شدّته منه فلم يمسسه التخليد. أبولون، إله الفنون، نازعه خًصم على جائزة فنزع جلده، حيّا…
)2( مما شاع من رمزية الجلد صلةُ المجاز بالأم: الإبعاد عنها صورته انتزاع الجلد. والتحليل النفسيً ،كما يرى بعضُ أهله، يتجه، منذ خمسين سنة، إلى أن يكون «أكثر جلديةًّ». وقد راج فيه مفهوم «الأنا-الجلد.»
)3( سورة الزمر، الآية 23
)4( سورة الحج، الآية 20
)5( سورة النساء، الآية 56
)6( سورة فصّلت، الآيات 21-22-23.
لا نعرف في أية لحظة فارق البوعزيزي الحياة. السلطة وحدها تعرف ذاك، فهي تابعت أنفاسه ،نفساً نفسا، من دون شك. وإذا كنا نريد أن نعرف هذه اللحظة فلِنتخيَّ مواجهةَ الموت كيف كانت .يقُال إن المًحترق لا يفقد وعيه وإن طال ألم احتضاره. هو لا يرى الموت ولكن يسمعه في امتداد صوت اللهب فيه. حدَّثونا عن نزعات الموت وسكراته، فهو مثل «غصن كثير الشوك، أدُخل في جوف رجلٍ، حتى إذا أخذتْ كلُّ شوكة بعرق ثم جذَبه رجٌلٌ شديد الجذب قطع ما قطع وأبقى ما أبقى .»ماذا أحسّ البوعزيزي حين تجاوزت جلدَه النارُ إلى جوفه، حين دخله جحيم الأرض؟ ماذا رأى: ما ترك أم الآتي؟ هل رأى العربة وأمّه والشرطية؟ هل رأى نفقا أسود أم بؤرة ضوء؟ هل رأى ملكَ الموت ،قابضَ الأرواح؟ هل حاوره؟ هل ترامت إليه، في غياهب صًمته، أصداء ما كان يحدث؟ إن وصلته ،هل اندهش أم سار مع الثائرين؟ هل ضحك أم بكى؟ ما أصعب السيناريو على السيناريست إن أخذته هذه الأسئلة.
لكن، لمَ الموت احتراقا، هذا الموت الجامع لكّلّ الموتات؟ هل هو الّشّوق إلى تخلصّ علني ومطلق من شروط الوجود على الأًرض؟ إن كان هذا الّشّوق ففيه، نهايةَ مطافه، صورُةُ ما تأتي عليه النار، ما يترمّد.
في تخيّل الترمّد انفصالٌ لا رجعةَ فيه. هو، بهذا المعنى، تطهّرٌ وتطهير كاملان منتهيان. أما العلنيّة فهي في الإشهاد: إضرام النار في الجسد يكون، كما جرت به العادة، في فضاء عام، لكي يشاهده الناس ويخُبروا بما شاهدوا. هذا الإشهاد لا يطلبه من قتل نفسه في حيّزٍ خاص. أن يكون هذا أمام واجهة السلطة، أمام مؤسساتها، كما فعل البوعزيزي ومن تبعه، فهذا إعلانُ مواجهةٍ، إعلانُ اتهامٍ ومحاكمة ينزاح بالغضب من الخاص إلى العام. المشهد «سوسيودرامي»، والبوعزيزي –وسيطا ومنّشّطا- يدعو فيه إلى التطهّر الجماعي، إلى «الكاتارسيسْ». لم يحترق البوعزيزي في ساحة واحدًة من سًاحات سيدي بوزيد وإنما احترق، في اللحظة نفسها، في ساحات عديدة من ساحات تونس. المشهد جوّالٌ والنار انصهار: انصهار الجماعة في حال واحدة. من هنا كان التماهي، بدايةً، على وجه التطابق والتوحّد: «الشعب يحترق»، و «كلنّا بوعزيزي.»
هناك موتاتٌ أقل ألما من موتة الاحتراق بالنار. هذه الموتة هي من أقدم وسائل القربان، ولكن أثرها في نفوس الأحياء ليس من جهة التضحية بقدر ما هو من جهة الألم الذي فيها. هذا الألم هو الذي يهبه المحترق إلى الأحياء. الإحساس بهذه «الهبة» جعل البعض يشبّه البوعزيزي بالمسيح. وراء هذا شعور غامض بالذنب يدفع إلى الاعتذار على تقصيرٍ ما. حتى طلب الغفران للبوعزيزي هو، في بعض حالاته، اعتذارٌ له. وحدهم من تملكَّهم النصر أو تملكّوه لا يعتذرون. المنتصرون لا يعتذرون عماّ فعلوا والثوار يعتذرون عماّ لم يفعلوا.
هناك من صنع بطولته أو صنعت له، وهناك من قضّى العمر في طلب بطولة لم يدركها، وهناك من أبُطلت بطولته بعد أن امتلأت بها الطبول. لكل زمن نماذج بطولته، والبطولة، في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، شجاعةٌ تتزعّم مواجهة الخارج، معتديا أو محتلاً. مواجهة الداخل لمَْ تفرز، في التسمية، أبطالاً وإنما معارضين ومضطهدين وضحايا، ومنهم ثوريون بلا ثورة. اليومَ، قد لا تحتاج البطولة لغير التميّز في ما يشدّ الناسَ في فرُجة: للفرد أو الفريق أن يفوز بالبطولة –هكذا تسمّى عربيّا- لانتصاره في مسابقة رياضيّة. قد يكون الانتصار بفارق «ركلةٍ» أو بعضِ ثوانٍ من الركض، وهو مؤقتًّ إلى أن يسُحب «لقب البطولة». ثم هل البطولة حاجة اجتماعية؟ إن كان ذلك فأي بطل ولأي مجتمع؟ عندما استسلم غاليليو لتهديد محاكم التفتيش، في مسرحية بريخت «حياة غاليليو»، قال له أحد طلُابه: «شقي هو البلد الذي لا بطَلَ له» فكان ردّ غاليليو: «شقيّ هو البلد الذي يحتاج إلى بطل». أين مجتمع البوعزيزي في هذا؟: بعضه جعل منه بطلا بلا بطولة وبعضه جعل منه بطولةً بلا بطل.
البوعزيزي خارجُ أنواع البطولات. هو نموذج عربي لضَديد البطل: إنسان عادي، مقصيٌّ في أرض مقصيّة، على تخوم حياته، يلتقط العيش من بين أسنان القانون، لم تعُرف عنه مُثٌلٌ رفعها في جماعة ولا شجاعةٌ أبداها لصالحها. لم يتبطلَّ. عرفنا ضدّ ماذا أنهى حياته ولم يظُهر قصَدا غير إنهائها .الحدث المؤسِّس ذاته لا نعرف إن كان من إرادته أو من خطأ اللعب بالنار. خصائصه هًذه غير قابلة للتضخيم البطولي. خصلة «بطولته» الوحيدة، نهاية الأمر، أنه مات: مات نيابةً عمن لم ينُوّبه. ما تبع لا علم له به: أنه حركّ الانفعالات الجماعية ووجّه سلبيتها إلى مبادرة بطولية. بطولته ليست فيه وانما في امتداد فعله، وإن سعى بعض الناس إلى تركيب «ألَبْوم» وعناوين بطولية لم يجدوا لها مادًةً تسندها .
وإذا كان طموح البطل أن يكبر في عيون الآخرين فالبوعزيزي صغُر في عيون الكثيرين. وإذا كانت البطولة فكرًةً أو صورة يجُمع الناس على خصائصها فخصاله موضوع خلاف. للتكبير والتصغير، في حالته، إيحاءات اجتماعيّة أغلبها مضمرٌ، ولا ندري كيف كانت تكون لو كانت له أصول اجتماعية أخرى. ما غلب وانصرح تأرجح بين خير وشر، شغَّل مانوَيةَّ الأخلاق والدين في الثقافة العربيّة الإسلامية. نموذج البوعزيزي، إن دققّنا، لا يكون إلاّ من هذه الثقافة: ضديد بطلٍ مسلوب الخصائص المعهودة في البطل، مقدوح في ماضيه، والغيب، أيضاً، يعرضّه لمآلٍ متنازع فيه.
هناك ثنائيات مانَوَيةّ يكفي فيها للتوضيح اثنتان:
الأولى تقُابِل بين الواقع والتمثلّ: ابن الصبّار، اليتيم الأب، المنادَى محمد بسبوس» لقُربه وحِنّيته ،»الكادُّ في طلب القوت، سندُ عائلته، المضطهَد، المظلوم، يقابله المعتوه، المضطهِد أمَّه، الظالم الشرطيّة ،المنحرف الذي «بسببه أصبح كل المنحرفين أبطالاً». لهذا سُميت شوارع وساحات باسمه، وفي الوقت ذاته نزُعت صوره، في مدينته وشوّهت ب «الانتهازيةّ» عائلته. هذا قبل أن يهدَّم آخر معاقله: تحُاكََم أمّه بدعوى الاعتداء على القضاء. في هذه المقابلة ما ينحو إلى ابطال نسب الثورة: لم لا تكون «الصّفعة»، وإذا الشرطية، هي «الشرارة» الأولى؟ والأهمّ من السؤال، جِدا كان أم لعبا، هو ميل ثقافةٍ إلى قتل الأًب وإحياء الجّدِّ. مهما يكن، فالثورة التي تنازعت أسماؤهاً قبل أن تستقًر «ربيعاً عربياً» لم تتحمّل اسمه فلم تحمله. يوازي هذا نزوح الرمز من الشخص إلى لواحقه: تحّلّ العربة محّلّ صاحبها فتمجَّد وتباركَ ويسُأل عنها، عالميا، ويرغب الاغراءُ في اقتنائها ويتمسّك الورثة بها ل «رمزيتها». أستاذ جامعي سعودي كتب أنه «لا بًد أن تدخل العربة التاريخ من أوسع أبوابه، فقد تغيّر مجرى التاريخ بسببها.»
الثنائية الثانية أرجحته بين الانتحار والشهادة، بين طرفي الحلال والحرام وفي ما بينهما. التكفير، من جهة، فالانتحار من الكبائر والمآل، وهو جهنّم، يثبّته البعض حُكما شرعيا ويضيف البعض ما يتمناه منه للمنتحر ولمن قال باستشهاده: «إلى نارك الثانية يا بوعزيزي، وليْحشُر الله معك فيها من قال إنك شهيد»، إذ «بسببك مات الكثيرون». المنتحر معرّفٌ بمآله لا بأسباب انتحاره، وهو «حالَ ما يرى ملكَ الموت يدرك أنه كان أهونَ عليه أن يبقى حيّا». عجيبٌ أمر الأديان في هذا: لكأنها بقدر ما تعُمِّر تقّلّ حكمتهُا. من الجهة الثانية لفظُ الشهيد يردًَّد، ولو من دون تفصيل أو تعليل، مع السّحب ،أحيانا، في اتجاه المقدّس: «سلام على روح سيّدي الولي محمد البوعزيزي، ومن دخل هذا المقطع )على اًلانترنت( عليه أن يقرأ الفاتحة على روح الشهيد». قناة الجزيرة «الثورية» رأت أنها قالت فيه
«أروع ما قيل فيه على الإطلاق :»
)1( هذه التسمية الهوويةّ العائدة أو المنتصرة لا تنفي اختلاف النظرة إلى فعل البوعزيزي أو
«فعلته» بين من مرجعيتهم العروبة ومن مرجعيتهم الإسلام.
بشّرته بطيب المقام وخاطبته: «نسأل عن الطين الذي خُلقت منه عربتك المباركة…كافرٌ من يدين موتك .»
مفتيها القرضاوي الذي «خرجت الثورات من جبّته» كان بين هذا وذاك: «كان في حالة ثورة وغليان نفسي، ولا يملك فيها نفسه وحرية إرادته». بحثَ له عن عذر وطلب له الغفران. بعضهم جرى هذا المجرى، معتبرا أن «لا أحد يعرف حالته العقلية آنذاك»، ودفع بفتواه إلى عدم دخوله جهنّم: «لعلهّ تاب»، من يدرًي؟
حُوصِر الخيالُ والرمز في ثنائيات من هذا النوع فتحوّلت مفارقات الشخصيّة –وفيها ثراؤها- إلى تناقضات لا سبيل إلى تجاوزها إلى «ما وراء الخير والشرّ»: لا بد أن يكون البوعزيزي انتحر أو استشهد. وإذا كان لم ينتحر ولم يستشهد وإنما قتلته ظروفه وسجَّته واحتارت في الصلاة عليه ثقافة البلد ودفنته السياسة ووضعت على قبره ورودا اصطناعيّة ترُى ولا تسُقى؟ وإذا كان لم يفعل، في يومه المشهود، غير ما كان يفعله طول حياته وًكانت هذه هي سيرته؟ نقول: سيرة، وفي الذهن «تراجيديا» بلا أنصاف آلهة وبلا قدر، لكي لا تشُهِر عليها ثقافة البلد سيف مقدّساتها. ماذا لو كان البوعزيزي شخصيّة تراجيديةّ أخرجتها هذه الثقافة من تراجيديتّها –في المعنى الفنّي الجمالي- ولم تزل تبحث عن مؤلفٍ يعيده إليها؟
لجأ الفلاسفة إلى الميتوس لبناء اللوّغوس. من دون هذا ما كانت تكون جمهورية أفلاطون ولا كان لزرادشت أن يتكلمّ. من دون الأساطير ما كان للمسرح ولا لفنون أخرى أن تتطوّر، بل ما كان لمعارف كالتحليل النفسي أو الانتروبولوجيا أن تبني نماذج تحليلها النظري ومقارباتها الرائدة. هذه الأساطير ليست من «أساطير الأوليين»، والواضح أن العرب المسلمين لم يدركوا كم كانت خسارتهم كبيرة منذ أن غلقَّت ثقافتهُم عليها وعليهم أبواب أساطير الإغريق. هذا حرمهم من معرفة النماذج الأصلية أو «أركيتيبْ» الرؤى واللاّوّعي لدى الإنسان. ليس في هذا دعوة إلى أسطرة الواقع ففيه ما يكفيه
من وعي زائف. الدعوة دعوة إلى فسحة الخيال الإبداعي. قد لا يكون هناك إلاّ معطيات واقعٍ ضئيلة ولكن هذا لا يمنع الخيال من أن يكون إعادة بناء أكثر إقناعا وأعمق جماليةً من «واقعيّة »الواقع. مثال واحد من بين أمثلة كثيرة: الشاعر فيرجيل خاب أمله في زًمنه فأراد، في آخر أيامه، حرق «الإيناييد» ملحمته الشهيرة. هذا هو المعطى الذي انطلق منه هرمْن بروخْ، في أربعينيات القرن الماضي، ليكتب «موت فيرجيل»، بنوع من الحلول فيه، بأعمق ما يتخيّل كاتبٌ من إسناد القول والتأمّل ومناجاة الذات إلى غيره. هو فيرجيل، ولكن من قال إن إنساناً عاديا وضع حدا لعبثيّة حياته وحوّل النار إلى فكرة أوقدت في الناس ثورة لا يستفزّ خيال المبدع ولا يناديه لاستكشافً عالمه؟لكّلّ أن يرى في البوعزيزي ما أراد واستطاع. المهم أن يرى. من الصعب أن يرى فيه ما رأت سير العرب في أبطالها القدامى فهي سير خيالٍ شعبي جرحته هزائم العرب، حين تفككوا، فاستحضر من ماضيه لحاضره فرسانا صالوا وجالوا ثم غابوا. قد يرى، بعضا من سيزيف وبعضا من بروميثيوس: قد يرى في الصخرة عرًبةً يدفعها البوعزيزي فتصادَر بضاعتهًُ مرتين في الأسبوع، عًلى ما قيل. ولما كان الموت وقتَ مصادرةٍ فقد أبدّ العبثيّة. بروميثيوس الذي تحدّى زوس ووهب الناس الشمسَ له كنايةٌ في ما قال الناس: «أنت شعلة أنارت سبيلنا» يا بوعزيزي. ولمَ لا يكون طائر الفينيق ينتفض من تحت رماده؟ فالبوعزيزيون –وهم يتوالدون- لا يزالون هنا حيث تركهم، في مواقعهم، عادوا إليها سالمين وغير سالمين.
أربك البوعزيزي ثقافة البلد: لم تعرف ما تفعل به غير أن تؤرجحه في أقدم ثنائياتها. ضربت على رمزه حصارا لا يفكّه، في نصّه، غير من كانت له، مع الفكر والحسّ، صورٌةٌ وعبارة )في قصائد أولاد أحمد والوهايًبي، مثلاً، ما يصدّع هذا الحصار(. وإذا اعتمد القول، هنا، مَثَلَ البوعزيزي فإن ما حدث له حدث ويحدث لأمثاله في كل فضاءٍ ثقافته عربية إسلاميّة. ليس هذا حكما بل معاينة، ولو صيغت على وجه الإيحاء لا التحليل. الحافز أسئلةٌ أثارتها العودة من أثر الفعل –وًقد امتدّ وتشعّب القول فيه- إلى فعل الفاعل، لا في معناه البيوغرافي ولا في معناه السوسيولوجي، وإنما باعتبار قابليّته للترميز: عودة إلى فعل إنسانٍ عادي ينجزه موتٌ استثنائي. أما القصد فإضمارُ الحاجة إلى خيال فنّي يمتدّ، وراء بطولة الزعماء والقادة، إلى ضديد البطل العادي. لهذا فالأسئلة ليست موجّهة إلى من يقتلون الخيال أو إلى الباحثين فيه عن جُنحةٍ وإنما إلى من يتخّذونه أجنحةً: إلى المبدعين