د. عبد الرحمن بسيسو
ليس لأي جردة حساب مُدققة، موضوعية وصادقة، لبلوغ الحرب العدوانية الإبادية الصهيونية ضد الشعب الفلسطين في قطاع غزة المائة يوم من عمرها، إلا أن تَُتوِّجَ كل ما ستخلص إليه بخلاصة جوهرية تقول إنَّ ما قبل السابع من تشرين الأوَّل (أكتوبر) 2023، ليس كالذي بعدهُ؛ إذ لن يبقى شيء مما كان قائماً قبل اندلاع “طوفان الأقصى” الموسوم بالمقاومة الباسلة والنبل الإنساني، في مواجهة العدوان الهمجي الصهيوني الأوروأمريكي الإبادي التَّوَحُّشي الشرس الذي ستأتي حلقته الأخيرة، المزعوًم أنها ردة فعل على طوفان الأقصى، محمولة على “سيوف حديدية” مُحَمَّاةٍ بنيرانِ العنصرية المتوحشة والجشع الرأسمالي الغرائزي، والغرور الاستعلائي المُحفَّز بغشامة القوَّة، وإنما سيتغير كُلُّ ما كان قائماً قبل اندلاع ثنائية الطُّوفان المُقاوم والعدوان الهمجي الصراعية تغيراً جذريَّاً ليتساوق، على نحو منهجي مُنَظمٍ ومنشودٍ، مع كل هذا الذي توالى تشكله على مدى الأشهر التي أعقبت اندلاع العدوان الصهيوأمريكي، وتصاعد وتائر المقاومة الفلسطينية الباسلة التي لا تملك من خيارٍ إلَّا صدَّ هذا العدوان وإفشاله، وإلَّا العمل الحثيث على إملاء لحظة توقفه النهائي الحاسم.
ولعمليات المقاومة الفلسطينية الناهضة بتكبيد العدو الصهيوني أفدح الخسائر، وتلقينه أقسى الدُّروس والعبر، أنْ تُفصح عن حقيقة أنَّ الهزيمة، والرحيل عن قطاع غزة، ومن ثم عن فلسطين بأسرها، هي خيار جيش إسرائيل الأوحد، وأنْ لا مندوحة عن قرب قدوم لحظة توقف العدوان الصهيوني كلحظة غير مرفوقة بأي صورةٍ نصرٍ قد تتيح لجيش العدوان الإسرائيلي المُمَوَّل، والمدفوع الكُلْفَة والأجر والثَّمن، من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوروبي الرأسمالي المتوحش، أو الخانع، أو المنافق، أن يزعمَ أنه قد التقطها لنفسه، أو أنّ المتوحشة العُظمَى “أمريكا” قد التقطها له عند فوَّهات المحارق الصهيوأمريكية الإبادية المنصوبة في قطاع غزة الفلسطيني الأبي المُقاوم، بقصد تدميره تدميراً شاملاً، وإبادة أصحابه الأصليين، وبناة حضارته، وقاطنيه الأزليبن، الفلسطينيين، إبادةً جماعيةً، مُتقَصَّدةً، ومُخَطَّطاً للشُّروع الفوريِّ في اقترافها، في سياق جرائم حربٍ، وجرائم ضد الإنسانية تواصلت على مدى أيام حرب الإبادة الجماعية المائة، ولم تزل مستمرةً حتى الآن على نحو يستعيدُ، في تصاعد ذرويٍّ محمومٍ، كل ما سبقها من تدمير حضاريٍّ شامل، وإبادات جماعية، وتطهير عرقيٍّ، اثنيٍّ وقوميٍّ، كانت العصابات الإرهابية الصهيونية الغربية الأوروأمريكية، وصنيعتها المجرمة “إسرائيل”، قد واصلت اقترافها على مدى يربو على قرن من الزمان، في كل أرجاء فلسطين التي أُريدت إبادتُها عبر تهويدها، وإبدال اسمها، وتزييف هويتها، لتكون، زُوراً وبهتاناً وإرهابا وتعسُّفاً توحُّشيَّا، “إسرائيل” التي سيُعلنُ قيامها، في منتصف أيار من العام 1948 فوق أنقاض فلسطين، وركام معالمها الحضارية، وخرائب بيوت أهلها؛ أصحابها الأصليين؛ بناة حضارتها وصُناع تاريخها، ومانحيها الإسم، والهُوِيَّة الثقافية السياسية الوطنية الجامعة: الفلسطينيين!
وسيكون للتغير الجذريِّ الجاري تَشَكُّل أصلاب مكوناته في أتُنِ حرب الإبادة الإسرائيلية ومحارقها الصهيونية النازية التي تستهدف الكل الفلسطيني دون أدنى تمييز فردي أو جمعي بين أفراده وفئات مكوناته، من جهةٍ، وفي منارات المقاومة الفلسطينية الإنسانية الباسلة من الجهةِ المقابلة، أن يتحرك على أصعدةٍ ومستويات عديدةٍ ومتنوِّعة؛ وسيكونُ لصُلُب أي مُكَوِّنٍ من هذه المكونات أن يًوسم، وعلى نحو جوهري حاسمٍ، بالحقيقة الفلسطينية السَّاطعة، وبالحق الفلسطيني الراسخ، كأساسين جوهريين لكل ما سيجري الإعلان عَنِ الإقرار به، بجلاء ساطع وبلا أدنى مراوغة سياسية، مع انبثاق لحظة “وقف إطلاق النار”، واجبة الوجود، وكذا لكُلِّ ما سيتواترُ تأكيده من قبل إنسانيي العالم من أفرادٍ ومجموعاتٍ وكيانات ومؤسسات ودولٍ، على مدى استمرار أي مساعٍ إقليميةٍ ودولية جَادَّةٍ، وحثيثة، لإدراك حلول سياسية ستكون، هذه المرة، ولأوَّل مرة في تاريخ الصراع الفلسطيني – الصهيوأمريكي، مساعٍ ذات آماد معلومة، وذات غايات سياسية وقانونية ليست محلَّ تفاوضٍ ، أو مساومة وانتقاص، لكونها غايات واضحة وضوح الحق الفلسطيني، والقانون الدَّولي، والقانون الإنساني الدولي، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ومئات القرارات الدولية القاطعة وذات الصفة الإلزامية بشأن هذا الصراع، والتي شكلت منظومة متكاملة اصطلح على تسميتها، مجازاً أو اختصاراً، بـ”الشَّرعية الدولية” بشأن فلسطين.
وأحسبُ أنه سيكون للمكونات الجوهرية المتعلقة بجلاء ماهية الصِّراع الفلسطيني – الغربي الصُّهيوأوروأمريكي، وطبيعته، ومآلاته الطبيعية والعقلانية الإنسانية الممكنة، وهي المكونات الجاري تكشُّفها الآن، أو الجاري رفع ركام الزِّيف والتَّضليل، وسخام التَّزوير التَّاريخي والحضاري الذي ألقته الصهيونية الأمريكية وصنيعتها إسرائيل على وجوه الحياة والناس بإلقائه على وجه فلسطين، أنُ تنهض، كحقائق فلسطينية جوهرية ذات أصلابٍ راسخة في الإنسانية، وفي الحياة، والتاريخ، والحضارةِ، الناهضة جميعاً من أعماق فلسطين: أرضاً، وشعباً، وآفاقَ وجود، لتواصل النهوض والتَّحرُّك الحيوي، والفاعلية الوقَّادة، على امتداد أزمنة وجودية، حياتية وحضارية فلسطينية، ستأتي، وستكون سماتها الجوهرية الواسمةُ مُتَسَاوقةً، من جهة أولى، مع حقيقة فلسطين، ومع حضارتها وثقافتها، ومع حق شعبها في الحرية، والكرامة الإنسانية، وتقرير المصير في رحاب مجاله الحياتي الوجودي الحيوي الوحيد الذي هو أرض وطنه الأزلي الأبدي، المُسَمَّى، مُذْ لحظة انبثاق حضارته وتاريخه، باسمه الخالد: “فلسطين”، وكذا مع بسالة المقاومة الفلسطينية، ونبل رسالتها الوجودية، وإنسانيتها الفائقة، إذ سيكون لفلسطين، حينئذٍ، أن تأتي من ماضيها ومن مستقبلها في لحظةٍ متزامِنَةٍ تنفي وجود الاحتلال الصهيوني، لِتَقِفَ شامخةً؛ مُجَلَّلَة ًبالحرية، والكرامة الإنسانية، والجدارة الحضارية التاريخية، والشُّموخ الإنساني، ليس بوصفها مركز حضارة إنسانية جوهريةعلى محورها تدور الحضارات الإنسانية بأسرها، فحسب، بل باعتبارها رمزاً كونياً حضارياً خالداً يُجَلِّي جوهر الإنسانية السامية التي وُلدِت من رحم “فِلَسْطِين”، وفي رحابها نمت وترعرعت وبسقت وسمت: مبادئَ، وقيماً، ودياناتٍ سماويةً، وتجليات وجودٍ حياتيٍّ حضاريٍّ إنسانيٍّ متماسك وأَخَّاذٍ، وذلك على نحو جعلها دُرَّة تاج الأرض؛ وجوهر هُوِيَّةِ كُلِّ إنسانٍ إنسان.
هكذا لا ينبغي للعام 2024 أن يكون إلا عاماً للإنسانية الجوهرية بأسرها، إذْ لم يعد بوسعه وقد انبثقت انفاسهُ المتعثرة الأولى من تحت رماد “المحرقة الصهيونية”، رديفة “الهولًوكست” النَّازية وتوأمها، والتي نصبتها الإرهابية المتوحشة إسرائيل على امتداد “قطاع غزة” الفلسطيني الذي حوَّله الحصار الإسرائيلي الخانق، المُوغلِ في التوحُّشِ والزَّمن، إلى ” معسكر اعتقالٍ وإبادة صهيونيّ”، تفوقُ فظائعُ وحشيته الصهيونية الضَّارية، بصورة مذهلةٍ، الفظائعَ الهتلريَّة التي عرفتها شُعُوبٌ من شعوبِ العالم في “معسكرات الاعتقال والإبادة النازية” خلال الحرب العالمية الثانية وما قبل اندلاعها بقليل، أنْ يَكُونَ إلَّا عاماً إنسانياً هو، في حقيقته الجوهرية الناصعة، عامُ الحقيقة؛ عامُ فلسطين الحقيقية؛ عامُ الحق، والحرية، والكرامة الإنسانية، والعدالة، والسَّلام؛ عام تحرير فلسطين وعودتها إلى شعبها الفلسطيني وعودته، ظافراً منتصراً، إليها؛ عام نهوض الشَّعب الفلسطيني الصابر الصامد، والمقاوم المُثابر الأبي، من قلب رماد جميع المحارق الاستعمارية الصهيوأوروأمريكية التي استهدفته، وأرض وطنه فلسطين، بالإبادة الجماعية على مَدَىً تجاوز المائة عامٍ من الزمان، فيما هو يتهَيََأُ للنهوض، مُجَدَّداً وباستمرارٍ، من قلب رماد المحرقة العنصريةِ الصهيونيةِ المستمرة، والمُلْتَهِبةِ سَعَائِرُهَا الجحيميةَ الآن في قطاع غزة، والضفة الغربية، والقُدس: شعباً فلسطينياً مُوَحَّداً، مُلتَحمَ المُكَوِّناتِ والبنيان، قَوِيَّاً وقادراً، ومُفْعَمَ العقل والوجدان والإرادة برؤيةٍ وطنية فلسطينية إنسانية مستقبلية، شاملةٍ ومتكاملةٍ ومُؤصَّلةٍ، وذات أبعاد استراتيجية، وسماتٍ حضارية تتأسس على أنبل القيم والمبادئ الإنسانية، وأجلها وأسماها.”
د. عبد الرحمن بسيسو هو ناقد وشاعر ودبلوماسي من فلسطين مقيم في براتسلافا