أحمد برقاوي
منذ أن تحولت أوربا إلى مركز العالم وعقله،وهي تفكر بذاتها على إنها العالم،بل إن ورثة مركزية الإنسان صاروا محتلين ومستعمرين،انطلاقاً من أن مركزية الإنسان لم تكن تعني لأغلب فلاسفة الغرب سوى مركزية الأوربي.فرنسا بنت الثورة الفرنسية صاحبة شعار الإخاء والمحبة والمساواة ولا ئحة حقوق الإنسان تقتل مليون جزائري في سبيل بقائها دولة مستعمِرة،الإستعمار الإنكليزي لنصف العالم لم يكترث بمصير المستَعمر،وعنصرية الأبيض في جنوب أفريقيا لم ترى سوى الأبيض مركز الإنسان.الصهيونية الأيديولوجيا التي نشأت في أوربا لم تكترث بالآخر الذي يعيش في وطنه،الأمريكي الذي أعاد العراق إلى ما قبل عصرنا مازال يفكر بمركزية أمريكا بوصفها مركزية الإنسان.
لأول مرة تستيقظ البشرية على خطر يداهم الإنسان في كل أنحاء الكرة الأرضية،ولأول مرة يحمل الخطر الكلي على الإنسان،من جراء وباء الكوروناالعام،العقل البشري أينما كان ليفكر بمصير الإنسان.بل لقد أيقظ الكورونا الضمير الذي نام في سرير العولمة.
فالعقل العام الذي أرعبه خطر الموت لا يفكر بأسباب الخطر ونتائجه الذي تهجس به عقول النخب بكل أنواعها.فالنخبة وهي تطرح الأسئلة الصحيحة لا تطرحها من أجل تفسير الواقعة العالمية هذه،بل من أجل تغيير العالم الذي نبتت في أحشائه الفيروسات القاتلة.
دعوني أطرح الأسئلة تباعاً،والتي أراها قمينة بالإجابات الفلسفية الكلية،التي قد لا يفكر بها العالِم أو رجل المال والإقتصاد بل ولا رجل السياسة،وهذا يقودنا إلى أجوبتهم أو بعضها،والنظر فيها من منطلق الخطر الكلي على الإنسان.
1-كيف ظهر فيروس كورنا ولماذا ومعنى الأجوبة:
سؤال كيف ظهر الفيروس من حيث طبيعته ليس سؤالاً فلسفياً،ولا أحد يستطيع الإجابة عنه سوى عالم البيولوجيا،والعامل في المختبرات العلمية المتعلقة بعالم الفيروسات.ولكن دعونا نمتحن الإجابات المتداولة عن هذا السؤال.فالأجوبة تضعك مباشراً في معناها.
الإجابات العلمية الإحتمالية عن هذا السؤال هي:
1-طفرة طبيعية في حياة فيروس السارس،وانتقل إلى الإنسان عن طريق الحيوان.وبالتالي الطبيعة وحدها مسؤولة عن هذا الفيروس وخطره
.2-هو ثمرة أبحاث مقصودة وتسرب من مخابرها بشكل غير مقصود،وبالتالي فالخطأ العلمي هو السبب.
.3-إنه انتاج مخابر علمية أمريكية أو أوربية أو صينية لإحداث كارثة في الإقتصاد العالمي.
إذا قلت الطبيعة ذهبت إلى العلم مباشرة،لكن واقعة الكورونا تعيدنا إلى سؤال مهم في مبحث الأخلاق والقيم،سؤال:هل يمكن أن نفكر بامتلاك الطبيعة علمياً دون أن نفكر بالإنسان ومصيره؟إذا كان الفيروس طفرة فسؤال العلم ما هي الشروط الطبيعية وراء هذه الطفرة،وكيف يمكن مواجهة خطرها.سؤال المواجهة مرتبط مباشرة بمصير الإنسان الذي يهدده الموت المحتمل جراء الإصابة بالفيروس.
ولكن ماذا لو كان فيروس الكورونا ثمرة خطأ مخبري؟لا شك إن إنتاج العلم فيروس الكورونا لأغراض الشر،كجزء من انتاج الأسلحة البيولوجية يشير إلى انحطاط الوعي الأخلاقي للدول ذات التقدم العلمي والنازعة إلى الهيمنة،وتحويل العلماء إلى أخدام لسياسة الهيمنة.إن إنتاج هذا الفيروس لا يختلف عن انتاج القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما وناكازاكي.لقد طرحت مشكلة العلم والأخلاق،فلسفياً،من أمد بعيد،غير إن توظيف العلم في النزعة التدميرية مازال مهيمناً.ولا يمكننا أن نضيف جديداً على الخطاب الأخلاق المرتبط بالعلم والسعادة البشرية.
أما أن يكون إنتاج الفيروس مقصوداً بنزعة مالتوسية،أو نزعة ذات بعد إقتصادي،وهو ما لا أميل إليه،فان ذلك يشير إلى عدم الثقة بسلوك الرأسمالية تجاه الإنسان.فبمجرد أن يُطرح رأي كهذا،حتى ولو كان ضعيف البرهنة،فإنه يشير إلى الإحتجاج على غياب الإنسان وموته في الحضارة المعاصرة.وموت الإنسان لا يعني فقط غياب إرادته في تشكيل العالم،وفقدان حريته فحسب،وإنما فقدان قيمته ومركزيته كما سأفصل لاحقاً.
2الكورونا بوصفها فضيحة:
ساهمت خطابات النخبة التي انطلقت من دق ناقوس خطر العولمة على البشيرية ومكانة الأنسان في رأسمالية لم يعد أمامها خطوط حمر في فضح الشر الناتج عن موت الإنسان.لكن فيروس الكورونا جاء خطاباً فاضحاً جداً جداً لاستهانة الدولة المعبرة عن مركزية الثروة بالجنس البشري.فتغول الرأسمالية المتعولمة لم تكن سوى التعبير العملي عن نهاية عصر التنوير والتسامح والمجتمع المدني والحزب والحرية والديمقراطية كنظام كلي.
فدول العولمة اليوم وهي عاجزة عن الحفاظ على حياة الإنسان من خطر فيروس قاتل،عجزاً عبر عنه واقع المشفى،تؤكد بأن مكانة الإنسان في عالم العولمة لم تعد تعني شيئاً.
لقد أعادت العولمة التفكير بكل المفاهيم الدالة على تعين مسار الحرية وانتصار مركزية الإنسان وإلى دائرة اوالمراجعة.
العولمة اليوم تعين خاص للرأسمالية كمتحكمة بمصير العالم اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. إنها إمبريالية جديدة وليست تشكيلة اجتماعية اقتصادية وليدة،لكنها إمبريالية ما بعد الدولة الإحتكارية،والسيطرة المطلق لرأس المال المتعدد الجنسيات الذي لم يعد يحفل بالحدود القومية والدولة القومية،، وبالتالي لا نجد هذا القطع التاريخي الذي تم عبر الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، بل استمرار في الرأسمالية عبر تحولات داخل الرأسمالية العالمية.
فالعلم الذي كان منذ نشوء الرأسمالية يقوم بدور انتاج أدوات الإنتاج ا تحول إلى خادم أمين في تراكم الثروة لدي أفراد يمثلون السيطرة على السوق في ظل الثورة التكنو-إلكترونية، والرأسمال المصرفي الذي كان مندمجاً بالرأسمال الصناعي الاحتكاري، مازال ولكن مع استقلال القوة المهيمنة له عبر المصرف.والثقافة نفسها تحولت إلى سلطة بيد الرأسمال المتعولم،وإشغال البشر بالتسلية.
إن أهم ملمح من ملامح التغير الطبقي للعولمة هو اتساع الطبقة الهامشية التي انحدرت إليها فئات من الطبقة العاملة التي وجدت نفسها بلا عمل، وفئات من الفئات الوسطى. وهذا انعكس على الوضع السياسي الداخلي في العالم الذي أنتج العولمة أصلاً.
لقد كانت الفئات الهامشية موجودة دائماً وقد أشار إليها هربرت ماركوز في حينه، كما أشار سارتر إلى اغتراب الإنسان في عالم الرأسمالية، وكانت الحركات اليسارية تستند إلى نقابات وأحزاب شيوعية واشتراكية في مواجهة اليمين الرأسمالي التقليدي.
في هذه المرحلة ذاتها أعلن الوعي الأوروبي موت الإنسان. وكأن الروح-العقل-الحرية في حال اغتراب.
أجل في ظل العولمة،كما قلنا، لم يعد موْت الإنسان صرخة فيلسوف يعي العالم بل واقعة تودي بالإنسان إلى حال اليأس. اليأس الذي عبر عنه المجتمع الرقمي بكل وضوح حين أعلن موْت الحزب والنقابة وموْت اليسار واليمين التقليدي. عقود من الزمن كان اليسار واليمين التقليدي يتناوبان على سلطة الدولة ولم تكن الفروق بينهما واضحة في حل معضلات المجتمع الأوروبي والأميركي. وحين وصلا في العولمة إلى مرحلة التشابه في العجز تفتقت المجتمعات عن الشعور العملي لموت الإنسان، الموت بوصفه يأساً. وعن اغتراب الروح بوصفها تشيؤاً، وعن مأزق الحرية بوصفها تغولاً للرأسمال، وهزيمة للحقيقة بوصفها مأزق العقل.
لقد طرح فيروس كورونا علينا،على جميع نخب العالم التي مازالت تفكر بمركزية الإنسان السؤال مرة أخرى ما هو العالم الآن؟بل ما هذا العالم الآن؟السؤال الأول معرفي؟فيما السؤال الثاني هو سؤال تأففي احتجاجي يتطلب رسم صورة لكفاح الإنسان في مواجهة أسباب موته التي خلقتها العولمة المتوحشة.
ماهو العالم الآن؟
لم تعد إجابات التي قيلت سابقاً إجابات صالحة عن هذا السؤال. فالعالم اليوم ليس عالم صدام الحضارات، على غرار ما قاله هنتنجتون في كتاب يحمل هذا المصطلح.
وليس العالم اليوم عالمان: عالم ما بعد التاريخ كعالم أوروبا وأميركا وما شابهها من دول ديمقراطية، والعالم الغارق في وحل التاريخ، الذي يعيش صراعات إثنية وطبقية ودينية، كما عبر فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ».
ولا هو بعالم الإنتقال من الرأسمالية إلى الإشتراكية كما توهمت اللينينية وأحزابها.
ولا هو عالم المركز والأطراف،كما عبر في حينه منظرور أمريكا اللاتينية وسمير أمين.
إن عالم اليوم هو عالم عالم سلطة أخطبوطية ذات عدة رؤوس ورأسها الأساس هو الرأسمال الذي يتحكم بالبشرية من وراء كوة البنك والذي لم يعد له وطن محدد،ولا مجال حيوي واحد لممارسة سلطته.
فلأول مرة في تاريخ البشرية يجري تحالف على مستوى العالم بين أثريائه،فأثرياء دولة تعاني حرباً مدمرة،وأثرياء دولة فقيرة نصف سكانها تحت خط الفقر،وأثرياء دولة في ذروة السيطرة المالية تجدهم كتلة واحدة.أجل العالم صار واحداً في العبودية المعاصرة.
لقد ظن ماركس بأن العبودية،مرحلة مبكرة من مراحل تطور التاريخ البشري، وبوصفها تشكيلة اجتماعية – اقتصادية، تقوم على وجود طبقة أسياد مالكة لكائنات بشرية، بوصفهم أدوات إنتاج للخيرات المادية، وتكون السلطة حينذاك سلطة الأسياد المالكة للعبيد وللأرض، فالدولة العبودية هي دولة الأسياد الأحرار،وقد زالت من التاريخ.
ولعمري بأن روح العبودية لم تغادر الحضارة البشرية أبداً،بل ليمكن القول بأن العبودية الآن في هذه الحضارة التي نعيشها أشد قسوة من العبودية في عصر سبارتاكوس.وآية ذلك إن العبد المعاصر يشعر بعبوديته ويحب حريته،لكنه غير قادر على التحرر منها.على النقيض من العبد الذي لا يشعر بعبوديته ولا ليس لديه وعي بالحرية.
غير أن التاريخ، وقد تجاوز مرحلة العبودية كتشكيلة اجتماعية – اقتصادية، أبقى بهذا الشكل أو ذاك على روح العبودية في أي مجتمع طبقي،وهبي عبودية الأجر.فالأجر من حيث هو ضروري للحياة ليس سوى ثمن قوة العمل التي يأخذها للبقاء حياً،تماماً كالعلم الذي كان يبقى الثور على قيد الحياة كي يستمر في جر المحراث.
لقدصارت العبودية نمطًا من الوعي بالذات، ليس أهم معالمه الخضوع بدافع الحفاظ على الحياة.هذه الكائنات –العبيد- في علاقتها بسيد العمل،شخصاً كان أم دولة لا تسأل، لا تناقش، لا تُحاور، لا تقول لا، فمهمتها أن تكون صاغرة ومنفذة، من أعلى رتبة إلى أصغر درجة، وهكذا تنشأ في في علاقات العمل المتعولمة العبودية في أجلى مظاهرها،حيث تخلق هذه العبودية ذاتًا مشوهة.
فهي تشعر بفقدان حريتها، وتكره سيدها وتحتقره، لكن عبوديتها توفر لها وجودًا ماديًا زائفًا، فتعيش ازدواجية العبودية واحتقار ذاتها المعبرة عنه باحتقار سيدها، وهناك الذات التي لم تعد تشعر بعبوديتها وتعلن خضوعها المطلق لسيدها، وليس لشعور الحرية في حياتها أي حضور.
لقد جاءت الكورونا لتذكر الناس بعبوديتهم،ها هو الحظر يقول لهم ليسوا لكم ما يكفي من الأسِرة،ما يكفي من أجهزة التنفس،لا ليكفي لآلات اكتشاف مرضكم.فموتوا في بيوتكم.وإذا كنتم في الرمق الآخير قد ننقذكم.أما ثمن قوة عملكم،فلربما لن يكون بمقدورنا أن نوفرها لكم.
إن الكورونا وهي تعيد للوعي نشاطه في التفكر بالحاضر والمستقبل،بعبوديته المعيشة،أعادت في الوقت نفسه السؤال الوجودي حول الإنسان واغترابه،فظهر السؤال مرة أخرى.هل يمكن أن نترك عبودية عصر العولمة دون شبح يخيفها،دون يسار يدافع عن مركزية الإنسان؟
أي يسار نريد:
وصار العالم في ظل العولمة وغياب قوة لجم يسارية للرأسمالية خراباً اجتماعياً وأخلاقياً وسياسياً وانحطاطاً أخلاقياً وما مازال بعض اليساريين في العالم يلبسون طاقية لينين ومعطف ستالين وتلامذتهم المخلصين..
بداية لا بد من القول وبعد تأمل في التجربة المعيشة،وزوال الدول الإشتراكية من الوجود دفعة واحدة بعد البريسترويكا،والتأمل في التجربة الصينية والكورية الشمالية وما شابهها،فإن على حركة اليسار العالمي،إذا ما أريد لها أن تنهض بمهام إنسانية دفاعاً عن الحق الإنساني ومركزية الإنسان في مواجهة مركزية الثروة،مركزية الثروة التي تشكل ماهية الرأسمالية بكل أشكال تطورها من الرأسمالية التنافسية إلى الرأسمالية الإحتكارية إلى الإمبريالية إلى العولمة، أن تهيل التراب إلى الأبد على اللينينية ولينين والستالينية وستالين والماوية وماوتسي تونغ،لقد أعاق هؤلاء الثلاثة اللاهوتيين حركة التطور الطبيعي لليسار كحركة ضرورية تنشأ في قلب الرأسمالية،في ظل الكفاح الديمقراطي المدني الحر.وإذا لم يتخلص اليسار من هذا الإرث الدكتاتوري المقيت فإن لن يكون باستطاعته مواجهة التوحش الرأسمالي العولمي أبداً.
الرأسمالية المتعولمة تحرق الحياة وتسعى لأن تحطم الإرادة الإنسانية، تعلن موت الإنسان حقاً. ولهذا فإن مهمة اليسار الآن أن يعلن مرة أخرى ولادة الإنسان، ويجب أن يعلن ولادة الإنسان.والعودة إلى مركزية الإنسان لتنتصر على مركزية الثروة كسلطة مطلقة.
الرأسمالية المتعولمة ظاهرة عالمية ويجب أن يكون اليسار عالمياً، يجب أن نعود الى وحدة اليسار في العالم، التظاهرات التي تقوم الآن ضد الأكباش الثمانية حيث تتداعى جماهير التمرد من كل أنحاء العالم شكل من وحدة اليسار، شكل من ولادة اليسار..
نعم انهزم اليسار العالمي، ويجب أن نعود لقراءة تجربة اليسار ناقدين من موقع إعادة الحياة لليسار، لا من موقع قراءة الفاتحة كفاح الإنسان لاستعادة حضوره في هذا العالم.
اليسار وحده يعطي للصراع مع لصوص العالم معنى حقيقياً، لأنه يحمل هموم البشر، هموم الفقراء، هموم المضطهدين، هموم المغتربين، الذين غربتهم همجية الرأسمال.
أي فجيعة إنسانية هذه أن نترك الرأسمالية من دون ردع، أي كوميديا بشرية هذه أن يكون العالم بلا يسار.
لا تنفع العودة إلى الدولة التسلطية في الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية الأخرى، لا إلى سلطة أبوية متخلفة كالسلطة في كوريا الشمالية،ولا إلى التجربة الصينية التي لا مكان للإنسانعند حزبها الوحيد الحاكم
ما ينفع الآن يسار بلا يوتوبيا،بلا مادية جدلية،يسار يطرح أهداف البشر انطلاقاً من مركزية الإنسان حيث الحق والحرية والإنصاف،قوة تخيف زعماء اقتصاد السوق، وبالتالي زعماء الحروب من أجل السوق.والنكوص إلى الرأسمالية في توحشها الأولي.فالنكوصيون الحقيقيون هم الذين يعيدون الرأسمالية إلى بداياتــها المتوحشة جداً، بعد أن تحولت إلى متوحـشة فقـط في. والدعوة إلى يسار جديد دعوة للدفاع عن مركزية الإنسان واستعادته بعن إعلان موته.
لم تكن ولادة الذات في التاريخ أمراً سهلاً، بل الولادة مخاض مليء بالدماء والعذاب والاندحار والانتصار، الذات أصل وفصل معاً، مركز العالم والعالم معاً. مسؤولة عن مصيرها ومصير الوجود -بوصفها ذاتا لاشيء يتحكم بمصيرها إلا ما صدر عنها وصار غريباً عنها. ولهذا فتحرير الذات من اغترابها بما فاض عنها تحرير ما
فاستعادة مركزية الذات عبر استعادة وحدة الوجود الإنسانية، لا وحدة الوجود الإسبينوزية، ولا وحدة الوجود الصوفية، ولا وحدة الوجود المادية، ولا وحدة الوجود الروحية، وحدة الهم البشري هي وحدة الوجود الحقيقية.
عندما نتحدث عن وحدة الوجود الإنساني لا نشير أبداً إلى تشابه الوجود الإنساني، بل إلى وحدة الهم الذي يفرض ولاد اليسار العالمي.
لاهوتيون يستيقظون
من الصعب أن تعاني البشرية من خطر كلي دون تدخل الخطاب اللاهوتي بخطاب ينطوي على فكرتين:
فكرة سببية ترد الكارثة إلى غضب إلهي بسبب ابتعاد البشر عن الإله،وفكرة خلاصية ومافادها ضرورة عود البشر إلى الإلتزام بالأوامر الإلهية اتقاء شر الخطر.
إن فكرة الإله الذي يغضب ويعبر عن غضبه بكارثة تصيب البشرية فكرة قديمةجداً،والحق بأن يهوه،إله اليهود،آكثر الآلهة غضباً.
وما من متدين إلا وهو مقتنع بقصة نوح وغضب الله الذي دمر الحياة على الأرض،باستثناء من أنقذهم نوح في سفينته.
لكن الإله الآن لم يرسل منقذاً كنوح،ينقذ السالكين سلوكاً يرضيه من فيروس الكورونا.فمصاب المغضوب عليهم من هذا الفيروس يمتد لينال من غير المغضوب عليهم.ولهذا فإن سلوك القائلين بفكرة غضب الله لاتقاء شر كورونا لا يختلف عن سلوك مخالفيهم في الممارسة العملية الوقائية. وليس هناك إجابة لدى القائلين بالغضب الإلهي عن سؤال:لماذا هذا التعميم للغضب الإلهي على جميع البشر دون استثناء.لا سيما أن تعميم الغضب الإلهي يتناقض مع فكرة العدل الإلهي.
الكورونا جائحة مرضية معروف سببها الفيروسي سواء كان طفرة لفيروس أو خطأ مخبري،ومعروفة طرق الوقاية منها،والعلم يشتغل على إيجاد دواء لها.
أما نتائجها السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأخلاقية وأثرها على الوعي فهذا شغل مباحث المعرفة الإنسانية.وقد تدخل الأيديولوجيا طرفاً في النقاش.
كل تناول لاهوتي -ديني يهودي ومسيحي وإسلامي بوذي الخ لهذه الظاهرة الفيروسية، من حيث ردها إلى غضب إلهي،أو مناعة المؤمنين من الإصابة بها،أو التوسل من التمائم والنصوص والأئمة والقديسين وما شابه ذلك للشفاء منها أو الوقاية،فهذا نوع من الجهل المقدس والهراء المعيب،ومعلم من معالم الغباء التاريخي.
وبعد:
إن هناك أربع حالات إحتمالية ستشغل البشرية بعد غمة الكورونا:
1-ظهور مد يساري ضد الرأسمالية،بعيداً عن التجربة الشيوعية السابقة.فلقد أظهرت الرأسمالية المتعولمة كل بنيتها الأخلاقية المعادية للبشر،وإهمالها للحياة حتى بالمعنى البيولوجي للكلمة..
2- تأكيد الوعي المناهض لبقايا الدكتاتوريات الأيديولوجية كالصين وسوريا وكوريا وإيران.حيث الفساد والعنف وفقدان الإنسان لأية قيمة فضلاً عن الطبيعة العدائية للحقيقة الواقعية في ظل هذه الدكتاتوريات.
3- بدء القطيعة مع الخزعبلات الدينية اليهودية والمسيحية والإسلامية التي اتحفنا بها أصحاب العمائم واللفات والقبعات والطواقي وما شابه ذلك من أزياء،وتحرير الله من أخلاق الغضب والانتقام والثأر، والعودة إلى الدين الشعبي ذي الماهية الأخلاقية..
4- تأكيد سلطة العلم باتحاده مع الطبيعة الأخلاقية الإنسانوية له. ففصل العلم عن ارتباطه بسعادة الإنسان من أكبر الجرائم ضد الإنسانية.