أبو بكر العيادي
يقف الإنسان اليوم في منعطف خطير من وجوده، ليس بسبب فيروس الكورونا وحده، وإنما أيضا بسبب نهم النيوليبرالية التي استباحت كل شيء. فالأنموذج الليبرالي كان من نتائجه تفجُّرُ التحركات، وتسارع الوتائر، والتنافس المحموم على الموارد، إضافة إلى شتى العوامل التي أدت إلى تدمير المنظومات الصحية والتربوية والاجتماعية وإصابة الكائنات الحية والنظام البيئي. كل ذلك كان يُعَدّ محرّكَ تنمية وتقدّمٍ وطريقةً للدلالة على أن عالمنا أفضل من عالم الأمس، حسب منظّري الليبرالية، أولئك الذين قال عنهم بورديو إنهم يخلطون بين أشياء المنطق ومنطق الأشياء، لا يملكون في عمومهم تجربة عملية، وكلُّ زادِهم تكوينٌ ثقافي فكري نَهَلوه من الكتب، وتنظيرٌ مجرّدٌ بعيد عن العالم الاقتصادي والاجتماعي كما يتجلّى على أرض الواقع. فالنظرية النيوليبرالية تعارض تماما ظروف الحياة والحاجات الأساسية للأحياء، ليس في مجال الصحة فقطـ، بل في مجالات البحث والتعليم أيضا. وبإرساء العولمة التي أرادت جعل العالم قرية كونية، توسّعت النيوليبرالية، وحوّلت البشر إلى مجموعات استهلاكية، وغزت العقول بفضل وسائلها الدعائية واستيلائها على أهم وسائل الإعلام في العالم، فضلا عن رباعي غافا (غوغل، آبل، فيسبوك، أمازون) ما جعلها حاضرة في كل مكان، فهي لا توجد في الساحات المالية والمؤسسات فقط، بل توجد أيضا في كل واحد فينا، في أنماط عيشنا.
أما الكورونا، هذا الكائن الحيّ اللامرئي الذي شلّ الحضارة الإنسانية الأكثر تطورا وتجهيزا من الناحية التقنية، فهو نتيجة طبيعية للجشع النيوليبرالي الذي دفع أصحابه إلى تدمير البيئة في شتى أبعادها، من جوف الأرض وسطحها إلى بحارها وأجوائها، متناسين أن ثمة كائنات حيّة نتقاسم معها هذه الأرض، وأننا كلما دمّرنا الغابات دفعنا الحيوانات التي تسكنها إلى البحث عن مأوى، ما يجعل الفيروسات التي تحملها تتنقل من حيوان إلى آخر حتى تصيب الإنسان. وغاب عنّا أن الإنسان جزء من العالم الطبيعي، وأن وجودنا مرهون بوجوده، فإن دمّرناه فتحنا الباب أمام كل الكوارث الممكنة. والعلماء يؤكدّون صباح مساء أن كل قَطعٍ للغابات، كما هو الشأن اليوم في أمازونيا وحوض الكونغو رئتي العالم، يحرر كمًّا هائلا من الفيروسات لا تلبث أن ترتد على الإنسان في شكل أوبئة قاتلة.
لقد دأب الإنسان على الإخلال بالتوازنات الطبيعية، وهو لا يدري أن قوة التدمير تلك، شأنها شأن قوة التوليد، موزعة بالتساوي بين سائر الكائنات، فكل بكتيريا أو فيروس أو حشرة، يمكن أن تحدث آثارا واسعة في العالم. بالفيروس ندرك أن تلك القوة الهائلة ليست رهينةَ ميزةٍ جسدية أو طاقة ذهنية، فحيثما وُجدت حياة، أيّا ما يكن موقعها في شجرة النشوء، نجد أنفسنا، كما في حالة الفيروس هذه، إزاء قوة قادرة على تغيير وجه الأرض. وإذا كنا نريد البقاء، وتسجيل وجودنا على هذه الأرض بشكل دائم، ليس في قلب تاريخٍ اجتماعيّ فحسب، وإنما في صميم تاريخ تكنولوجي وجيولوجي أيضا، وجب علينا إعادة النظر في موقعنا في سلّم الكائنات الحية، لنصنع معًا سبل المستقبل في تناغم مع الكائنات الأخرى.
قد يضع هذا الوباء حدّا للسياسة الرأسمالية الشرسة التي دمّرت منذ أعوام أسس الدولة الراعية أو دولة الرفاهية، أي الصحة والتربية والعدالة والبحث والتقاعد، وما زالت تدمّر البيئة. ورغم ارتفاع عدد الضحايا منذ ظهور الفيروس، فإنه لا يساوي شيئا أمام عدد ضحايا الكوارث القادمة التي سيتسبب فيها الاحتباس الحراري إذا تواصل تدمير البيئة، فالخبراء يتوقعون ما بين مليار ومليارين في نهاية القرن وربما نصف البشرية. بعضهم يرى أن ليس أمامنا لتخفيف عنف الأزمات القادمة سوى إعادة بناء الدولة الراعية وخلق تضامن عالمي متين وفعّال، وإلا فسنكون مقبلين على عصر ينكفئ فيه كل طرف على نفسه بحثا عن سبل البقاء، والتسلح لمقاومة الطامعين في أبسط الممتلكات حين تصبح شحيحة نادرة، ما قد يؤدي إلى حرب الجميع على الجميع. فتفاقم الجائحة معناه إفلاس مؤسسات وتزايد البطالة، وربما انقطاع سلاسل التموين الغذائي، وفقدان المواد الغذائية، إضافة إلى أزمة مالية عالمية بدأت تتّضح ملامحها. قد نكون أمام سيناريوهات كساد سوداء تعقبها أزمات اجتماعية وسياسية، وانتفاضات وفوضى، وقد تصاب أغلب المنظومات الصحية بالعجز عن أداء دورها بالكامل.
بعضهم يعتقدون أن الخطاب النيوليبرالي سيفقد بعد الجائحة صداه وتأثيره، بينما يقترح غيرهم ضرورة إعادة تأميم بعض الصناعات الأساسية للاستقلالية الذاتية وإعادة توطينها بعد تهجيرها في أقطار ذات عمالة رخصة. فالغضب ما انفكّ يتضخّم ويحتد منذ سنوات ضدّ النيوليبرالية في صفوف اليمين واليسار على حدّ سواء، والدعوة إلى حضور أكبر للدولة، دولة مسؤولة ومهتمة بالتربية والصحة لا تنقطع ولا تفتر.
وكما هو الشأن في كل أزمة كبرى، يسارع بعضهم إلى التصريح بألا شيء سيكون كما كان من قبل، وبأن العالم سيدخل مرحلة ما بعد الأزمة، ثم يتراجعون، بعد الانفراج، في أقوالهم وأفعالهم، ويستمر الوضع كما كان، لأن التغيير الحقّ لا يكون على مستوى النية، وإنما على مستوى أيديولوجيات التسيير وتصورات الإنتاج وملاءمتها للبيئة. ولنا في ما حدث عند اندلاع الأزمة المالية العالمية 2007-2008 كسبب مباشر للتغول الاقتصادي والعولمة المسعورة خيرُ مثال، فقد ساد الظن أن قادة العالم سيبحثون عن سبل أخرى لإعادة بناء الاقتصاد العالمي على قواعد جديدة تراعي حق الإنسان في حياة كريمة، من خلال كبح جموح الليبرالية وتوزيع الثروات توزيعا يحفظ للشعوب حقوقها، ولكن الحكام سرعان ما هبوّا لنجدة البنوك بأموال دافعي الضّرائب، في تناقض صارخ مع تنظيرات النيوليبرالية، التي ترفض أي تدخل للدولة في الحياة الاقتصادية، وكلنا نتذكر قولة الرئيس الأسبق رونالد ريغن: “الدولة ليست حلاّ لمشكلنا، الدولة هي المشكل.”
بيد أن الحكام هذه المرة أظهروا قدرة غير مسبوقة على فرض قراراتهم ضدّ منطق الأسواق المالية والمجموعات الكبرى ومصالح المؤسسات، وحتى ضدّ حقوق المواطنين. وهي مفارقة إذا ما قورنت بما كان سائدا حتى تلك اللحظة الفارقة، ونعني به عجز الدول أمام الأزمة المناخية، وعجزها على كبح جماح النيوليبرالية والقضاء على التفاوت في توزيع الثروات. أي أن الفرضية التي تقول إن السياسة لا تستطيع شيئا أمام منطق الفصل بين التمايز الوظيفي اتّضح أنها خاطئة.
ولئن احتج بعض المفكرين أمثال جورجو أغامبين وتريستان غارسيا ومارسيل غوشي وأندري كونت سبونفيل على الحجْر، ورأوا في فرضه مصادرةً للحريات وتمهيدا لإقامة اشتراكية استبدادية، وعبروا عن خشيتهم من أن يصبح الطارئ معياريّا، والمؤقت نهائيّا، خصوصا إذا لجأت الحكومات إلى أجهزة مراقبة فردية دائمة على غرار الصين الشعبية بدعوى المحافظة على صحة المواطنين، فإن الحكومات أظهرت أنها تملك القدرة على الفعل، إذا رامت اتباع طرق غير الطرق المعتادة في رسم سياسات اقتصادية وتربوية وصحية تصالح الإنسان مع بيئته وتضمن بقاءه في هذا الكون.
لنفرض أن عالم الغد لن يكون صورة سالبة لعالم اليوم، وأنه قد يقع التفكير في إقرار قنوات توزيع محلية، وإعادة تثبيت المصانع الأساسية وطنيّا، وإيجاد علاقة متوازنة مع الطبيعة، وتمكين الشعوب من سيادة حقيقية، ووضع سياسة وقاية وتأمين صحّي بتعزيز الإنتاج المحلي وتخزين المواد الضرورية للصحة العامة، وتوفير مراكز تزويد آمنة، بعيدا عن مضاربات المحتكرين… فإن ذلك يتطلب دولة قادرة على التخطيط المحكم بدل الاتكال على خبراء، دولة تضع في الحسبان تواشج الغايات الإنسانية والإيكولوجية والاجتماعية. بيد أن ذلك لا ينجم إلا متى أعيد النظر في موازين القوى بين المهيمِنين والمهيمَن عليهم. فالسلطة بأيدي الساسة، الذين ربما كان انتخابهم بنسبة طفيفة، ولا يمثلون الشعب كله، بل قد يتنكّرون لوعودهم الانتخابية فلا يلبّون مطالبَ الشّعوب الأساسيةَ، كحماية البيئة والحدّ من التفاوت الاجتماعي وعدم الخضوع لضغوط الدوائر المالية. والذين رفعوا أفكارا تقدمية أو مدافعة عن البيئة، وتكتلوا في تنظيمات سياسية، غالبا ما تمّ إغراؤهم بمناصب في السلطة، ثم تهميشهم وإزاحتهم كما حصل للخُضر في فرنسا مثلا. أما الذين اختاروا أن يكونوا حرابا حرّة free lance ضدّ مختلف رموز الهيمنة والاستغلال أمثال الأمريكي نعوم تشومسكي والسويسري جان زيغلر والفرنسي روني دومون، فإن أصواتهم لم تلامس سوى قوى اليسار، ومؤلفاتهم، على أهميتها، لم تحدث التغيير المنشود.
وبناء عليه، واستئناسا بما قاله جورج كليمنصو في نهاية القرن التاسع عشر (1887): “الحرب مسألة خطيرة كي نعهد بها للعساكر”، نقول إن مستقبل البشرية أمر خطير كي نعهد به للسياسيين وحدهم. ومن هنا جاءت هذه الدّعوة إلى خلق جبهة فكرية عالمية تعوّض فشل الأحزاب في استقطاب الفئات المجتمعية الفاعلة، جبهة كوسموبوليتية تترفع عن الهويّات والمعتقدات والأيديولوجيات لتعانق قضايا الإنسان، حيثما كان، لا تكتفي بالتصدّي للسياسات النيوليبرالية المغامرة بمصيره ومستقبله ومستقبل الكون كلّه، بل تستهدي بالأنوار لنشر القيم الإنسانية، فلا خير في فكر لا يتعدى أسوار الجامعة والجدل الأكاديمي، ولا يبسّط مصطلحاته ومفاهيمه لعامة الناس على نحو يضيء لهم الطريق.
لقد كان المفكر في عصر الأنوار مثقفا له وظيفة اجتماعية يُعمل عقله في شتى المجالات كي ينير الضمائر، ويحض على جملة من القيم، أهمّها العقل والحرية والتقدّم والسعادة والتسامح، ويجهد في الكشف عن الأخطاء، ويعلي صوته لفضح الممارسات المناهضة لإنسانية الإنسان. ولكن رغم المعارك التي خاضها بعضهم، لم يكونوا في موقف قوة لتغيير واقع لا يرتضونه، فقد أدان عدد منهم الاسترقاق والاستعمار بشكل مباشر أو موارب ولم يستطيعوا منعهما، لأن الحل والربط ليسا بأيديهم، بل بأيدي السلطة السياسية، ولأنهم، وهذا هو الأهمّ، لم يؤلفوا كتلة موحّدة كان يمكن أن تشكل قوة ضغط. صحيح أن أفكارهم لم تؤت أكلها في عصرهم، لأسباب كثيرة منها تواضع وسائل النشر والتوزيع، وقلة اهتمام الناس بالمطبوعات، وانحسار القراء في دوائر ضيّقة فضلا عن قبضة السلطة، ولكنها انتشرت من بعدهم عبر العالم، واتخذت أسسا لدساتير وقوانين، وغيرت نظرة الإنسان إلى الوجود والميتافيزيقا وعلاقته بالطبيعة.
أما اليوم، فنحن نعيش في عصر الإنترنت، بفضل هذه الثورة الأنثروبولوجية الثالثة التي ربطت أطراف الكون بعضها ببعض، ويسّرت التواصل الآني نصًّا وصوتًا وصورة، ما يجعل المهتمين بقضايا الإنسان مطّلعين على ما يجري في العالم في التّوّ واللحظة. وبالتالي فإن الفرصة سانحة لبعث ما يشبه كتلة أممية فكرية، في موقع رسميّ على الشبكة، يلتقي فيها كلّ من يأنس في نفسه القدرة على ابتكار أفكار تستهدي بالثوابت الكبرى لفكر الأنوار، وخلق تواصل فكري عابر للقارات، لتكون مرجعية أخلاقية تنبّه صانعي القرار في العالم، وتفضح زَيغ سياساتهم، وتلهم في الوقت نفسه القوى المؤثرة في مجتمعاتها، لبعث حلقات دراسية ومنتديات تساهم في توعية الفرد بما ينبغي القيام به للحفاظ على سلامته وسلامة شعوب الأرض كافة، لأن الفيروسات ما عادت محلية، بل باتت هي أيضا معولمة، تنتأ في مكان ما، ولا تلبث أن تخترق الحدود لتبلغ أقاصي الدنيا. فلا مجال حينئذ، بعد ما تبين من عجز الدول عن مواجهة فيروس طفيف، أن تظل الأوضاع على حالها، وأن تُترك الرأسمالية ممسكة في الخفاء بمقاليد السياسة توجّهُها ضدّ إرادة الشعوب، وممسكة في العلن بأعنّة الكون تسير به إلى فناء محتوم.
قد تبدو الفكرة طوباوية، ولكنّها ممكنة، إذا تضافرت جهود كلّ من يؤمن بأن كوكبنا واحد ومصيرنا مشترك، وأن ترك النيوليبرالية ترتع كما تشاء هو نوع من الانتحار الجماعي. فالكتلة الموعودة مدعوّة إلى الإجابة عن الأسئلة الحارقة التي تشغل إنسان هذا العصر حيثما كان، والنظر في الوسائل الكفيلة بالضغط على الحكومات، واقتراح الحلول الممكنة لتجاوز المشكلات الراهنة، وتوعية الناس بأن الأرض لم توجد للإنسان وحده بل لكائنات أخرى لا تقلّ عنه أهمية في سلّم الأحياء، وأن الإساءة إلى الطبيعة سيعود عليه بوبال ليس أقله كوفيد 19.
لطالما تعالت أصوات تندّد بتلويث الشركات العالمية العملاقة للبيئة، عبر استنزاف الطاقات الجوفية والغابية والموارد البحرية، ونشر المبيدات الحشرية، وفرض البذور المعدّلة جينيّا، وردم النفايات النووية، ولكنها كانت في الغالب أصواتا مفردة لناشطين متفرقين لم تجد آذانا صاغية، لأن الحجة التي لا ترفدها القوة لا يسمعها القوي المتنفذّ، وإن سمع تجاهل واستهان. لذلك ينبغي أن تتشكل هذه الكتلة من شتى النخب في العالم، ممن يضعون الوجود الإنساني فوق كلّ اعتبار، أيّا ما تكن أعمارهم واختصاصاتهم ومشاربهم ومرجعياتهم، لتملك أسباب القوة التي تيسّر لها لاحقا تسجيل حضور فاعل، حتى تغدو بحق مرجعية أخلاقية وازنة قادرة على التأثير في مجريات الأحداث عبر العالم.
لا أحد يستطيع أن يتنبأ بما سيكون عليه العالم بعد زوال الوباء، ولكن الثابت أن المستقبل لن يحدده العلم بل الفعل، كما يُتداول في الساحة الفرنسية اليوم، وذلك من خلال إصلاح عميق للمؤسسات وأساليب العمل الاقتصادي، وبناء نظام اجتماعي لا يكون قانونه الأوحد البحث عن المصلحة الأنانية والشغف الذاتي بالربح، بل يقوم على مجموعات توجه عنايتها إلى التفكير العقلاني في غايات يتمّ إعدادها والمصادقة عليها جماعيّا. تلك المجموعات هي التي ينبغي التركيز عليها حتى تكون همزة وصل بين الكتلة المرتقبة وصانعي القرار، لتوجيه خياراتهم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والبيئة الوجهةَ التي نريد. فالعالم ما عاد يحتمل انهياره المطرد منذ سنين، ولا بدّ من تغيير زوايا النظر إلى مشاكله العالقة.
يقول أينشتاين: “العالم الذي خلقناه هو نتيجة مستوى تفكيرنا، ولكن المشاكل التي يولّدها لا يمكن أن تُحلَّ في هذا المستوى نفسه.”.
كاتب من تونس مقيم في باريس