دمشق-العدد4-5-أحمد عيساوي
في الحديث عن الواقع السوريّ المؤلم، لا يمكن للمراقب تسجيل فاصل زمنيّ معيّن ابتعدت فيه المخيّمات الفلسطينيّة عن حاضرها السوريّ، لأنّ المساحة التي تركتها الأحلام الفلسطينيّة في استرجاع الأرض وكرامة الإنسان تلازمت طوعاً مع الآمال السوريةّ الصاعدة بدولة خارجة من وطأة الاستبداد إلى عتبة الحريةّ المنشودة.
سجّلت المخيّمات حضورها الأوّل مع انطلاقة الشرارة الأولى للثورة في درعا، ولم يتأخّر اللاجئ الفلسطينيّ عن نجدة أخيه السوريّ، فدفعا الضريبة نفسها وأسّسا منذ البداية لوحدة المصير. ولم تكن التجربة الدرعاويةّ، في حضورها الفرديّ، سوى مقدّمة لقصص وروايات تتابع أحداثها في مخيّمات اللاذقيّة وحمص وخان الشيح واليرموك.
تعامل النظام مع الفلسطينيّين كما تعامل مع الأقليّات السوريةّ وأوقعهم بين خيارين: إمّا أن تكونوا معنا، أو ستلاقون نفس مصير السورييّن الذين خرجوا يطالبون بالحريةّ.
تجاهل النظام كثيرا أنّ الفلسطينيّ لم يخرج بملء إرادته من وطنه، فقد عمد أبناء المخيّمات لسنوات خلت على التأكيد عًلى أنّ قضية العودة حاضرة بقوّة عبر إحياء ذكرى يوم الأرض ويوم النكبة، والتذكير بقادتهم الشهداء، والذي كان لمخيّم اليرموك النصيب الأكبر في احتضانهم.
أحسّ الفلسطينيّ يوما بعد يوم أنّ ما تشهده سوريا المنتفضة لا يمثلّ إلّا طوق نجاة وفاتحة أمل ضيّقة في زمن تشتتّ فيه الأحًلام وتقلصّت الأماني. وكان على الفلسطينيّ أن يسأل دوماً «لماذا يلاحقنا الموت أينما حللنا؟». رأى أبناء المخيّمات شعبا آخر يخرج من وطنه مرغماً، وشاهدوا عصابات تقتل وتذبح وتهجّر مواطنين عزلّ رفعوا الورود وأغصانً الزيتون لستةّ أشهر متتالية.
كانت الأحداث الممسرحة في سوريا الثائرة أكثر مماثلة، بالنسبة للفلسطينيّين، مع ما عايشوه منذ ستةّ عقود، وغدت الملحمة التي يكتبها السوريوّن تصويراً مستحدثاً لواقع أليم لاحق اللاجئ الفلسطينيّ في كّلّ أرض عربيّة.
سقطت القيادة الفلسطينيّة الرسميّة بفصائلها ومنظمّتها وسلطتها الخانعة في الوحل السوريّ، وتركت شعبا يعاني الأمرّين دون أن تأخذ موقفا يدعم المخيّمات ويحيّدها عن الضربات العسكريةّ. كانت القيادًة الفلسطينيّة في عالم وأبناء المخيمًّات في عالم آخر.
أبى ابن المخيّم أن يكون شاهد زور على الجريمة التي ترُتكب بحقّ شعب تقاسم معه حلو الأياّم ومرهّا ،وأمست حالة الرفض نابعة من ألم معاش يردف ذاكرة صفد وعكا ويافا والجليل.
أذكر جيّدا يوم خرجنا في لبنان للمشاركة في ذكرى النكبة سنة 2011 كيف كان الجانب السوريّ -الفلسطينيًّ مشاركا بفاعليّة، وأذكر أنّ المخيّمات قدّمت شهداء آنذاك على جبهة القنيطرة، كان من بينهم شهيدة فلسطيًنيّة تدعى إيناس شريتح. لم يخطر ببالي يوما أن نسمع خبر استشهاد والدة إيناس بقصف مخيّم اليرموك من قِبل الطيران الأسديّ، ولم أفكّر يوماً أنً يصبح حقّ العودة حقّاً يطالب فيه أبناء المخيّمات للعودة أوّلاً إلى مخيمّاتهم .
لم تبخل المخيّمات في تقديم العون والمساعدة للسورييّن الثائرين، وكان الناشطون الفلسطينيوّن في مجال الإغاثة الصورة الأكثر إشراقا في حاضر المخيّمات، فقدّمت مؤسّسة «بصمة»، على سبيل المثال ،عددا من الشهداء. ولم يوفرّ النظامً أيّ طريقة يمنع فيها تآخي المخيّمات مع سوريتّها، فاعتقل ناشطين )خذلًتهم فصائلهم(، من سلمى عبد الرزاق وعلي الشهابي وهايل حميد ومحمد عمايري وحسام موعد إلى غيرهم كثر ممن يبيتون في أفرع نظام الممانعة.
يسجّل لشهداء اليرموك أنهّم دللّوا الدم، ومنحوه صبغة أعادت للقضيةّ رونقها الغائب. يسجّل لأحمد كوسا أنهّ شهيد نصرة السورييّن والفلسطينيّين على السواء. ويسجّل لأنس عمارة أنهّ استشهد على ثرى الغوطة الشاميّة، الأرض التي احتضنت الفدائيّين بعد الانتداب، واحتضنت شهداء فلسطينيّين انتموا إنسانيّا وأخلاقيّا للثورة السوريةّ.
المخيّمًات أصلً الحكايات، ومن ناسها الطيّبين المناضلين نتعلمّ كيف نحوّل الألم إلى قوّة، كيف نصنع قادمنا المحاصر بذاكرتين: ذاكرة لحارات الشام وزواريبها، وأخرى لبساتين الكرمل وصفد وعكا ويافا .
يبقى أنّ للذاكرتين مفتاح واحد يحتفظ به كّلّ لاجئ إلى حين انتصار الإنسان أولاً.