ماجد كيالي
منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، قبل عامين، ونزول الشعب الى شوارع وميادين مدن عديد من الدول العربية، بدا واضحاً من الشعارات التي رفعتها هذه الثورات، والهتافات التي رددتها حناجر المتظاهرين، أن ثمة تحول أساسي ونوعي في الادراكات السياسية للشعوب العربية، من القضايا العامة، أو من القضايا “القومية” إلى القضايا الخاصة، أي القضايا التي تهم المواطنين في بلدانهم، وتضعهم على سكة التطور.
في حقيقة الأمر فإن هذا التحول لم يكن شيئا عرضياً، ومفاجئاً، إذا أردنا ان نؤرّخ للإدراكات السياسية التي وسمت التحركات السياسية للجماهير العربية في بلدان هذه المنطقة، حيث كات قضايا فلسطين والوحدة العربية والاشتراكية ومقاومة الأمبريالية تحتل المكانة المركزية في سلم اولويات القوى المحركة للأحداث السياسية التي عصفت في البلدان العربية، لاسيما في المشرق العربي، طوال النصف الثاني من القرن العشرين.
فمن تفحّص أحوال المجتمعات العربية، طوال الفترة الماضية، يمكننا ملاحظة أن هذا التحول حصل نتيجة اختبارات عديدة، ومتوالية، للنظم السياسية القائمة، إن في مجال عمليات التنمية وبناء الدولة، أي دولة لمؤسسات والقاننون، او بالنسبة لتحقيق الاندماجات الوطنية والتحول الى مجتمع مواطنين أحرار ومتساوين، وأيضا بما يخص مواجهة التحدي الذي يفرضه وجود اسرائيل على النظام الرسمي العربي، لاسيما بالنسبة للدول العربية المجاورة لها.
لم تنجح الوحدات السياسية المشكلة للنظام الرسمي العربي في تلك الاختبارات، بل انها بدت مع اخفاقها في كل الاختبارات التي تعرضت لها، بمثابة عقبة كأداء امام امكان تطور البلدان والمجتمعات العربية، باتجاهات الدولة والمواطنة والديمقراطية والحداثة ومحاكاة العالم. وفوق هذا وذاك، فقد ظهرت النظم السياسية المهيمنة في تلك الوحدات باعتبارها مجرد سلطات شمولية، يقع في مركز اهتماماتها ترسيخ هيمنتها على البلاد والعباد، والتحكم في مواردهما، أكثر من أي شيء، وعلى حساب أي شيء، أخر.
انكشاف التغطية بإسرائيل
هكذا انكشف النظام السياسي العربي على حقيقته، ولم تعد تنفع محاولات بعض الأنظمة التغطية على واقع الاستبداد والإفساد، بقضية فلسطين، أو بدعوى مواجهة التحديات الخارجية.
ومعلوم ان تلك النظم ظلت، طوال العقود الماضية، تبرر اخفاقها في عمليات التنمية أو حجبها الديمقراطية وانتهاكاتها حقوق الانسان، كما مبالغتها في العسكرة وتغوّل الأجهزة الأمنية،بدعوى مواجهة اسرائيل، ملوحة بشعار: “لاشيء يعلو فوق صوت المعركة”. وفي غضون كل ذلك ،اكتشفت الشعوب العربية، وبثمن باهظ، دفعته من عمرها ومعاناتها، وقهرها، بأن إسرائيل هذه إنما استقرت وتطورت، وواصلت تحديها للواقع العربي في مختلف المجالات، بالذات في ظل هذه النظم التي تحكمت في بلدانها، وهمشت مجتمعاتها، لاسيما أن ذلك لم يقتصر على الجانب العسكري وإنما شمل نظام الحكم والإدارة والتنمية البشرية والاقتصاد.
مثلاً، وعلى رغم أن الدول العربية تقوم على مساحات واسعة، وتحوز موارد طبيعية هائلة، وثمة فيها كتل بشرية كبيرة، فإن إسرائيل المحدودة والصغيرة، والتي تضاعف سكانها اليهود بعد 64 عاماً 9 مرات 1948) ـ 2102(، من 700 ألف إلى ستة ملايين، تضاعفت قدرتها التصديرية أكثر من 11 ألف مرّة من 6 ملايين دولار فقط )8491( إلى 69 بليون دولار )1102(. وقد تضاعف الناتج المحلي السنوي لها حوالي 60 مرة من 4 بلايين دولار )0591(، مع حصّة للفرد قدرها 3100 دولار، إلى 242 بليون دولار )1102(، مع حصّة للفرد قدرها 31 ألف دولار، ما جعل إسرائيل بين الدول الخمس عشرة الأولى في العالم على صعيد دخل الفرد. فوق ذلك فإن إسرائيل لا تعاني من البطالة 6.5) بالمئة(، بل إنها تستقبل عمالة من الخارج، وتنفق حوالى 5 بالمئة من ناتجها السنوي على البحث العلمي )الأول على مستوى العالم(، وتخصّص 8 بالمئة من ناتجها للنفقات العسكرية، وقد بلغت نسبة العلماء فيها 135 عالما لكل 10 آلاف إسرائيلي.
وكما قدمنا فإن إسرائيل هذه لم تتفوق على العالم العربي بقدراتها الاقتصادية والتكنولوجية فقط، فهي إضافة إلى ذلك تفوقت أساسا في مجال التنمية البشرية وادارة المجتمع ونظام الحكم. فقد نشأ النظام السياسي الإسرائيلي على قواعد ديمقراطية وليبرالية، وعلى أساس النظام الحزبي، وفصل السلطات، وضمان الحريات الشخصية، وتداول السلطة، والانتخابات وفق القائمة النسبية على الصعيد “الوطني”، ما يتيح لكل فرد التعبير عن رأيه، والمشاركة في السياسة، وما يمكن كل قوة سياسية، مهما كان شأنها، من التمثل في الكنيست، إذا استطاعت تأمين الحد الأدنى اللازم للعضوية فيه.
ومعلوم أن النظام السياسي في اسرائيل يعمل على رغم التناقضات في المجتمع الاسرائيلي بين المتدينين والعلمانيين، والشرقيين والغربيين، والمهاجرين الجدد والقدامى، واليسار واليمين ،على اساس ضمان استمرار التوافق والاجماع بشأن القضايا الاستراتيجية والمستقبلية، التي تمس وجود اسرائيل ومستقبلها وامن الاسرائيليين؛ بحيث تختفي او تتراجع التناقضات الجانبية، لصالح الأولويات العامة. وسبب ذلك يعود إلى حقيقة بسيطة مفادها أن اسرائيل هذه ،المصطنعة وغير الشرعية، أثبتت نجاحا في ما يتعلق بتحقيق ما تسميه بمصطلحاتها “بوتقة الصهر” إذ أنها نجحت في تحويل اليهود المهاجرين اليها من كل انحاء الدنيا، على اختلاف لغاتهم وخلفياتهم الثقافية والحضارية إلى “شعب”، على رغم كل التحفظات حول هذا المصطلح أو هذه العملية، وكلمة السر هنا هي دولة المؤسسات والقانون والمواطنين والنظام السياسي المتأسس على قواعد الديمقراطية الليبرالية.
أما في ما يخصّ الحديث عن الحروب العربية -الإسرائيلية، وادعاء أنها شغلت البلدان العربية عن التنمية والتحديث، واستنزفت قواها ومواردها، فقد بينت التطورات الأخيرة بأن الإنفاق العسكري للنظم العربية لم يكن له علاقة بالحروب مع إسرائيل، فحتى الجيوش لم تؤهّل لذلك، لا من حيث التدريب والأهلية ولا من حيث العقيدة العسكرية، فضلاً عن أن التاريخ يفيد بأن حرب 1973، التي مضى عليها أربعة عقود، كانت آخر حروب الجيوش العربية مع إسرائيل. وهذا يبيّن بأن قضية فلسطين، بالنسبة للنظام الرسمي العربي، لم تـكـن حـقـاً على رأس الأجـنـدة، بـالـقـدر الذي يتناسـب مـع ادعـاءات الأنظمة المعنية بـذلـك، بقدر ماكانت قضية استخدامية، او كوسيلة للمزايدة والابتزاز.
الأنكى أن النظم التي ادعت بأنها انظمة “قومية”، ومقاومة وممانعة، لم تستطع تحقيق الاندماجات المجتمعية في بلدانها، بتحويل شعبها الى شعب حقاً، إذ ظلت الانتماءات القبلية، أي الدينية والمذهبية والاثنية والعشائرية والمناطقية هي السائدة، والسبب في ذلك مصادرتها للدولة ،أي دولة المؤسسات والقانون والمواطنين، وتغوّلها كسلطة، وحرصها على التلاعب بالمكونات المجتمعية وتوظيفها لصالحها، ضمن لعبة الهيمنة والسيطرة. وقد نتج عن ذلك أن إسرائيل نجحت في تحويل ذاتها إلى “بوتقة صهر” لليهود المهاجرين إليها من اصقاع الدنيا، وبينما كان المجتمع الإسرائيلي حاضرا مع دولته في معادلات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، كانت المجتمعات العربية غائبة، وعلى الهامش، في تلك المعادلات، بل إنها كانت خارج كل الحسابات، ما يكشف الخداع والتلاعب والمواربة في الادعاءات المتضمنة في خطابات نظم الممانعة.
بالمحصلة فقد تبيّن بكل جلاء بأن النظم السائدة اخفقت، ليس فقط في معركة استعادة الأراضي المحتلة من اسرائيل، ومواجهتها على الصعيد العسكري، والحدّ من غطرستها، وانما هي، أيضا ،اخفقت إزاءها في مختلف المجالات: السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، كما في بناء الدولة والمجتمع والمواطن.
غياب فلسطين وحضورها
على أية حال فإن مجرد اندلاع الثورات الشعبية العربية، التي تركزت شعاراتها على حاجات المواطنين، أثار التساؤلات بشأن مكانة قضية فلسطين في الواقع العربي الجديد الذي يتشكل ،وانعكاس هذه الثورات على معادلات الصراع العربي الإسرائيلي، كما بشأن كيفية تمثل الفلسطينيين لمعاني هذه الثورات الديمقراطية في كفاحهم ضد عدوهم، وفي شكل وجودهم في تلك البلدان.
معلوم أنّ البعض كان قد أخذ على هذه الثورات استغراقَها في الشأن الوطنيّ )الداخليّ(، بتركيزهاِ على تغيير النُظُم التسلّطيّة السائدة، وعدم التفاتها إلى ما وراء حدود مواطنها الجغرافيّة، وعدم رفعها شعاراتٍ تخصّ قضيّة فلسطين ومعاداة إسرائيل.
***
وفي الواقع فإن هكذا نظرة متسرعة تنم عن تعسف، ومصادرة على المستقبل، لأن الثورات الشعبية التي اندلعت مازالت لم تعبر عن ذاتها بما يتعلق بالشؤون الخارجية، هذا فضلا عن أن هذا السؤال، الذي ينطوي على تشكك بالثورات، يغفل، أو يغطي على النظم التي تمت الثورة عليها، والتي كانت تتعايش مع وجود إسرائيل، وتتلاعب بقضية الفلسطينيين.
وعلى العموم فإن الثورة التي اندلعتْ من أجل تمكين المواطنين، في البلدان المعنيّة، من وعي ذاتهم، واستعادةِ حقّوقهم المسلوبة في الحريّة والكرامة والعدالة، لا بدّ أن تنجم عنها سياساتٌ خارجيّةٌ تنافح، أيضًا، عن هذه القيم، كتحصيل حاصل، وإن اقترن ذلك في المراحل الانتقالية ببعض الثغرات او التقصيرات واٍلمشكلاتٍ، لأن هذا من طبيعة أي مرحلة تاريخية انتقالية.
على ذلك، فإنّ عدمَ رفع شعارات وأعلام فلسطينيّة، والتركيزَ على رفع العلم الوطنيّ والشعارات التي تهمّ المواطنين في كلّ بلد، لا ينبغي النظر إليه على أنه يقلّل من شأن الثورات الحاصلة، من تونس إلى مصر وليبيا وصولاً إلى اليمن وسوريا، ولا من تأثيراتها في محيطها، ولا من أبعادها في المجال العربيّ.
وفي الواقع يجب ان تفهم هذه الثورات باعتبارها تعيد الأمور إلى نصابها، إذ لا تستقيم ادّعاءاتُ التحرير )أي تحرير فلسطٍين( من دون مواطنين أحرار، ولا تمْكن مواجهةُ التحدّي الذي تمثّله إسرائيلُ في ظلّ أنظمة تكبّل شعوبها، وتمتهنهم، وتنهب ثرواتهم، وتبدّد إمكانيّاتهم، وتهدر طاقاتهم.
ولعله بات من المطلوب القطْعُ مع تلك النظرة الخاطئة التي لا تربط بين تمكين المواطنين من الحريّة والكرامة والعدالة في الداخل، وبين القدرة على تحقيق كلّ ذلك إزاء الخارج، لاسيما ان التجارب المعاشة بيّنت، وبثمن باهظ، أنّ حرمان المواطنين من حقوقهم الأساسية، وامتهان كراماتهم، يؤدي بداهة إلى إ ضعاف المجتمع والدولة وانكشافهما إزاء التحدّيات الخارجيّة.
قصارى القول فإننا هنا لا نتقصّد من كلّ هذا الكلام المبالغةَ في انعكاس الثورات الحاصلة على قضيّة فلسطين فما زال ثمّة شوط طويل ينبغي قطعه للتأكد من مآلات ما يحصل، وما زالت موازينُ القوى العسكريّة مختلّة لغير صالح العرب. وإذا كان صحيحًا أنّ هذه الثورات لابد ان تنتصر لقضيّة فلسطين في نواحٍ عدّة، فإنّ ما ينبغي إدراكُه جيّدًا هنا هو أنّ هذه الثورات ينبغي أن تنتصر أساسًا لتصوّرها الجديد عن ذاتها، أيْ عن كرامة دولها ومواطنيها.
الملف الثورة السورية: الواقع والتحديات والآفاق معنى فلسطين في الثورات الشعبية العربية
معنى الثورات فلسطينياً
على صعيد الفلسطينيين فإن هذه الثورات تفيد بضرورة تعزيز ادراكاتهم لحقيقة أساسية مفادها أن هذا الزمن هو زمن الثورات الوطنيّة التي تتوخّى إعادةَ الاعتبار إلى المواطنين بوصفهم ذواتًا حرّة، وإعادةَ صوغ هويّتهم الوطنيّة وتعزيز وحدتهم المجتمعيّة بوصفهم شعبًا )لا عشائر وإثنيّات وطوائف ومذاهب(، والتركيز على استعادة حقوِقهم المسلوبة، في الحريّة والعدالة والكرامة والتغيير الديمقراطيّ وبناء الدولة الحديثة ـ دولة المؤسّسات والقانون والمواطنين.
وربما آن الأوان بالنسبة الى الفلسطينيين، وهم شعب ضعيف الإمكانيّات، ومشتّتٌ، ويخضع لسلطات متعددة، أن يدركوا حدودَ دورهم في المجال العربيّ، بعيدًا عن العواطف والشعارات والإنشاءات، التي جعلتهم مجالا للتلاعب والتوظيف، طوال المرحلة السابقة، وأن يدركوا أيضًا أنّ مساهمتهم الخاصّة في الثورات تكمن في تمثّلهم قيمَها، وهذا يتضمّن، حكًمًا، تطويرَ كياناتهم السياسيّة، واستعادةَ حركتهم طابعَها بوصفها حركة تحرر وطنيّ لشعبٍ يخضع للاستعمار والعنصريّة والقهر.
على أية حال فإنّ الثورات التي تتوخّى إقامة وضع عربيّ جديد، قوامُه صعودُ دور المجتمعات في تقرير مصيرها، لابد أن يساهم في تحرير الفلسطينيّين، أيضا، من إملاءات النظام الرسمي العربي ،ومن وصاية الفصائل القائمة، ولابد أن يحثهم على توليد المبادرات لتطوير نظامهم السياسي.
كذلك فإنّ الثورات الشعبيّة العربيّة، التي رفعتْ شعار “سلميّة… سلميّة” سيكون لها تداعياتها في البيئة الشعبيّة الفلسطينيّة التي كانت تنزع إلى تقديس المقاومة المسلّحة، وتضعها خارج المساءلة. صحيح أنّ الفلسطينيين سبق لهم أن انتهجوا العصيانَ المدنيّ والمقاومةَ الشعبيّة في الانتفاضة الأولى 1987)ـ3991(، لكنّ ذلك لم يَنْفذْ تماًمًا إلى وعيهم الجمعيّ، ولم يترسّخْ في إدراكاتهم السياسيّة الجمعيّة، بدليل تحوّلهم نحو الانتفاضة المسلّحة والعمليّات التفجيريّة في الانتفاضة الثانية 2000)ـ4002(. فعلى رغم الحسم بالوسائل العسكرية في ثورة ليبيا، وبعدها في سورية، فإن الثورات الشعبية العربية عموما أسهمت في طرح تساؤلات بشأن جدوى ثقافة الثورة المسلّحة ،التي مفادُها أنّ “العنف مولّد التاريخ،” والتي استمدّت شرعيّتها من الثورتين الفرنسية والروسية )في القرنين التاسع عشر والعشرين(، لمصلحة الاقتراب من تجربة “اللاعنف” في الهند، وتجربة النضال الشعبيّ والعصيان المدنيّ في جنوب إفريقيا )وهي التجربة عينها التي اعتمدتها الثورةُ الإسلاميّة في إيران وقطعتْ معها في ما بعد(.
أيضًا يمكن تلمّسُ أثر الثورات العربيّة في ما يمكن ان تسهم به في إعادة صوغ ثقافة الفلسطينيين السياسية، وثقافة حركة التحرر الوطني خاصتهم، عبر اضفاء مضامين ومعايير انسانية وعصرية وديمقراطية عن مفهومهم للتحرير، بحيث لا يقتصر فقط على تحرير الأرض/الاقليم، وبحيث يشمل قيم العدالة والمساواة والديمقراطية ونوعية الحياة وشكل النظام السياسي. صحيح أنّ المفاهيم المتعلقة بهذه القيم لم تغبْ تماًمًا عن خطاباتهم، خصوًصًا تلك المتمثلة في خيار حلّ
“الدولة الواحٍدة اِلديمقراطيّة العلمانيّة،” لكنها يبدو اليوم كأنها باتت أرسخ وأقوى، بعد أن تحوّلتْ إلى خطابات شبه شعبيّة، يتمّ تداولُها عبر شبكات التواصل الاجتماعيّ، بين أجيال الشباب، بدفع من الثورات الحاصلة.
***
وفي الواقع فإن المفهوم الإقليميّ )الأرض( للتحرّرٍ الوطنيّ، أي المفهوم الذي يتمحور حول مجرّد الصراع على الأرض، أو على الاستقلال في دولة على جزء من أرض )لجزء من الشعب(، ما عاد كافياً ولا مقنعاً، وربما ما عاد متاحاً على ضوء الواقع الإسرائيلي المفروض في الضفة. فوق ذلك فإن تجربة الاستقلالات العربيّة لا تشجّع على ذلك، فضلاً عن أن ذلك لا يحل كل الأمور، ولا يلبّي مطالب كل الفلسطينيين المتعلّقة بالحقيقة والعدالة والتحرّر والديموقراطيّة والمواطنة.
وفي الواقع فإن الثورات الشعبية العربية فتحت نافذة فرص جديدة أمام الفلسطينيين، ما يمكنهم من توسيع خياراتهم، والتحرر من الانحصار في خيار واحد ووحيد، وهو خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، إن بخلقها واقعا سياسيا جديدا في المنطقة، أو بانهائها اسطورة إسرائيل كالديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ذلك ان قيام دول المواطنين الديمقراطية، في البلدان العربية، يسهم بدوره في اضفاء مشروعية على طرح خيار «الدولة الواحدة الديموقراطية العلمانية» للفلسطينيين والإسرائيليين، أمام العالم وإزاء الإسرائيليين ذاتهم.
وربما من البديهي التنويه هنا إلى أنّ هذا المشروع لا يُطرح للتطبيق دفعةً واحدة، إذ أنه سيحتاج ،على الأرجح، إلى تدرّجات وتوسّطات؛ وهو لا يُطرح للتفاوض، وإنّما للنضال الشعبيّ اليوميّ، لاسيما أنه يتناسب مع القيم العالميّة، أيْ قيم الحريّة والديمقراطيّة والعدالة والسلام والمساواة.
أما على الصعيد الداخلي فإن أي تغيير في البيئة السياسية العربية باتجاه الدولة والديموقراطية لا بد أن يفضي إلى تغيير نوعي في النظام الفلسطيني وخريطته الفصائلية، ما يفيد بالتخلّص من هيمنة الفصائل على المجتمع ومن عديد من الاستطالات الفصائلية التي لم يعد لها أية فاعلية في مواجهة العدو ولا تحظى بأي تمثيل في المجتمع، ما يفتح على استنهاض الوضع الفلسطيني على قاعدة الوحدة وعلى أسس وطنية ومؤسساتية وديموقراطية وتمثيلية.
وبالنسبة إلى حال الفلسطينيين اللاجئين، في بعض البلدان العربية، فإن قيام دولة المواطنين الديمقراطية في تلك البلدان، لا بد سينصفهم بحيث لا يعودا مجرد حالة أمنية أو سياسية أو استخدامية يجري التلاعب بها، او استهدافها لهذا لصالح هذا النظام او ذاك.
ومن جهة إسرائيل فإن مجرد قيام دولة المواطنين الديموقراطية ـ المدنية/العلمانية، في عديد البلدان العربية، سيضعها في زاوية جدّ حرجة، إزاء نفسها والعالم، إذ سينهي تبجّحها باعتبارها بمثابة «واحة» للديموقراطية ويظهرها على حقيقتها كظاهرة رجعية في هذه المنطقة، وباعتبارها مجرد دولة استعمارية وعنصرية ودينية، بخاصة مع تمسّكها بتعريف ذاتها كدولة يهودية.الحرية لاتتجزأ
يستنتج من ذلك أن قضية فلسطين تجد تمثلاتها الحقيقية فعلا لا قولا فقط، وبعيدا عن سياسات وخطابات التلاعب والتوظيف والمزايدة والابتزاز، في سيادة قيم الحرية والكرامة والعدالة، في النظم السياسية في البلدان العربية، لا في التسلط والاستبداد والافساد وقهر الشعوب.
ولعله بعد كل هذه التجارب والخيبات والهزائم بات من الضروري إدراك حقيقة مفادها أن لا أوطان حرّة من دون شعوب حرّة ومواطنين أحرار، وأن الشعوب الحرة هي التي تعرف معنى الحرية وتنافح عنها، وهي التي تصمد وتقاوم، بالأفعال وليس بالأقوال فقط.
أيضاً، فقد بات واضحاً ومحسوماً بأن وضع المقاومة أو فلسطين في وجه الثورات ما عاد مقبولاً ولا مقنعاً البتة، ففلسطين ليست مجرد قطعة أرض، وإنما هي أيضا معنى للحرية والكرامة والعدالة. ثم ماهي هذه المقاومة حقا؟ وماهي هذه الوطنية، التي الاستبداد والظلم؟!
وباختصار فإن قيام الشعب في هذه المنطقة لأول مرة في التاريخ ربما هو الذي يفتح على خلق عامل جديد في العالم العربي بإزاء إسرائيل، وهو الذي يغيّر معادلات الصراع العربي ـ الإسرائيلي بصورة جوهرية، وهذا أكثر ما يقلق إسرائيل