دمشق-العدد 4-5-إبراهيم الجبين
استعير عنواني مقالي من مصطلح إخواني يعرفه «الإخوان» جيدا، وقد ورد لدى محمود الصباغ ضمن نصوص لائحة الجهاز الخاص في كتابه «الجهاز السري لجًماعة الإخوان« :»إن أية خيانة، أو إفشاء سر بحسن قصد، أو بسوء قصد يعرض صاحبه للإعدام وإخلاء سبيل الجماعة منه، مهما كانت منزلته، ومهما تحصن بالوسائل، واعتصم بالأسباب التي يراها كفيلة له بالحياة» … وقد أخلت مصر سبيل الإخوان اليوم سياسيا وعسكريا بعزل الرئيس المنتخب محمد مرسي بعد تدخل الجيش.
أسئلة عدًةً تقفز إلى ذهن المتاًبع لما جرًى ويجري في مصر، أسئلة عن الإسلام، أسئلة عن السياسة ،أسئلة عن التاريخ، طوفان لا ينتهي من الأسئلة. على أن تلك الأسئلة لا تلبث أن تجد إجاباتها في المتابعة ذاتها، وفي تقليب الحدث ذاته، إذ لطالما نظرنا إلى الإخوان المسلمين في مصر وسوريا، كحافظين للدين الإسلامي ورسالته التي تعرضّت للتهديد لحظة لمعت في عقل حسن البنا فكرة تأسيس جماعة تحفظ الدين، وكان معظم أساتذتنا في المدارس والجامعات من الإخوان المسلمين، ورأينا المستوى العلمي الذي تمتع به هؤلاء، من مهندسين وعلماء وأطباء وباحثين.
ولكن خلال سنة كاملة مضت، وبينما كانت مصر الكبيرة، تسلمّ قيادها لفكر الإخوان وطريقتهم في إدارة الملفات، كانت مراجعتنا لملف الإخوان المسلمين ذاته، أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، فتلك الجماعة التي بدأها حسن البنا بستة أفراد من عامة الشعب، بنيت وتبلورت على فكرة أن الدين في خطر، وأن الإسلام محاصر، وأن الخلافة التي سقطت في إستانبول لا بدّ وأن يعاد إحياؤها بشكل أو بآخر في مكان ما من العالم، بصيغة مؤسسة، منظمة، طالما أن المسلمين لم يتفقوا على رجل واحد يكون الخليفة ،هذه هي الإشكالية الأولى.
فأنشأ حسن البنا جماعته، على فكرة الخطر المحيق، وأحاطها بكل آليات العمل المركزية، التي استقاها من التاريخ العربي والإسلامي، ولا شكّ أنه كان مثقفا كبيرا، ملمّا بأدق التفاصيل التي حصلت عبر القرون، ولم يخطئ سيد قطب حين أطلق على حسنً البنًا وصفًا ما يزال يتردّد في جنبات مصر ومكتباتها، لمن يعرف ولمن يريد أن يعرف، ولم يكن سيد قطب معًجبا بالبنا يوماً، رغم انخراطه في صفوف الإخوان فيما بعد، لأسباب تتعلق بجوهر الخطر المحيق بالإسلام اًلذي قدّمنا له، فقد كان يسأل أخاه محمد حين يعود من الاجتماعات قائلاً: إزّي الحسن الصباّح بتاعكم؟! مشيرا بتهكّمٍ إلى حسنٍ آخر عرفه التاريخ، هو الحسن الصباح مؤسس حركة الحشاشين الإسماعيلية في قلعة أًلموت في إيران، وكان حسن البنا من أشد المعجبين به وبقيادته.
ليست إشكالية الإخوان إشكالية أفراد، بل هي إشكالية تنظيم واتباع، يمنع أعضاء التنظيم من التفكير عائدين في كل شأن إلى المرشد العام، أو المراقب العام، أو الحلقات التي تنشأ عن تلك السلطات المركزية، وهم وفق تلك الآليات العميقة لا يغادرون الفكر الباطني قيد أنملة، وإن كانوا يحملون الفكر الإسلامي الظاهري، وهذا ليس أمرا عارضا، بل إن منعكسه الخطير للغاية يرى وبوضوح حين يختبر الإخوان تجربة الشراكة؛ الشراكة المًجتمعيةً، الشراكة الوطنية، الشراكة السياسية .. الخ، فليس بمقدور الإخوان منح الثقة للآخرين. من غير الإخوان ـ مما يتسبب في هدم أية جسور قد تنشأ ما بينهم وبين أولئك الآخرين، فالآخر مغاير، ومختلف، وقد يبتعد تدريجياً حتى يصبح بالضرورة عدواً. وهذه هي الإشكالية الثانية.
ولتحليل الإشكالية الأولى، يظهر جليا أن التعاطي المجتمعي مع الإسلامي على أنه تحت النار والخطر ،يستفز شعور المجتمع، ويدفع به إلىً الاستنفار المستمر دفاعاً عن الإسلام، بدلاً من الدعوة إليه وعيشه ومحايثته، فيضعف الإسلام أكثر بتصويره ضعيفا مستهدفا، مما يفسح المجال واسعا لخلق بيئة مناسبة لنمو التطرف والفكر المتوثب لإنقاذ الإسلام، وًهو ما يجًعل الحياة في المجتمع تًنشطر بالفعل إلى مسلمين هادئين ومسلمين متوترين ويمعن في تقسيم الناس وتجزئتهم ومحاسبتهم.
أما الإشكال الثاني، والذي لا حّلّ له مع الأسف، فيتصل بطبيعة تكوين التنظيم ذاته، فمن ينطلق من الباطنية في حفظ عقيدته، وكأنها عقيدة سرية أو ديانة لا يجب أن يطلع عليها الخلق، سيرتدّ عليه وعيه هذا في صورة تنظيمية، فعلية واقعية. ومن غير المعقول ألا يكون حسن البنا قد تنبّه إلى هذا حين قام بإنشاء البنية التنظيمية للإخوان، ولذلك فإنك بالبحث تجده، لم يغفل ما الرد على مسألة ما يجب فعله بالتنظيم في مراحل متقدمة من العمل، فقسّم مراحل دعوته إلى التالي:
)مرحلة الدعاية والتعريف، مرحلة الإعداد والتكوين، مرحلة العمل والتنفيذ، مرحلة الدولة، مرحلة التمهيد للخلافة، مرحلة استعادة الكيان الدولي أو الخلافة، مرحلة الأستاذية وإقامة النموذج.
(ما يهمني هو المرحلتان الرابعة والخامسة من مراحل حسن البنا، وقد قال فيهما البنا نفسه« لابد من تعاون تام ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها، يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات وعقد المجامع والمؤتمرات، ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية، ثم إذا تم لها ذلك نتج عنه الاجتماع على )الإمام( الذي هو واسطة العقد، ومجمع الشمل، ومهوى الأفئدة».
وإن تغاضينا عن الكلمات الأخيرة في السطور السابقة، والمتعلقة بالإمام الذي هو واسطة العقد، وعدنا إلى أول الكلام، سنجد أن حلم البنا لا يستقيم، ولا يمكن أن يحصل، إلا في حال وافقت جماعة الإخوان المسلمين على حّلّ ذاتها، وتفكيك منظومتها، كي تتمكن من تحقيق ما يرسمه البنا ذاته في مرحلة الدولة، فكيف يتم التعاون الثقافي والاقتصادي وتعقد المؤتمرات وتكوّن العصب في ظل انغلاق فكر الإخوان تنظيميا؟ً!!.
ما أفهمه من كتابات حسن البنا ورسائله، أنه صمّم جماعة الإخوان المسلمين، كي تقوم في فترة ما ،بحّلّ ذاتها، بعد أن يتم لها ما تريد، وهو الوصول إلى حكم دولة، بعد هذا يمكنها أن تتطوّر وتصبح جزءا متماهياً مع المجتمع، لا نقيضا دائما له، وحارسا لدينه، وكتيبة ساهرة على إسلامه، ولكن هذا التفكًيك، كان صعبا على ورثة فكر حسًن البًنا، عبر الأجًيال، فمن منهم يجرؤ على تحليل خطاب البنا ،واستخلاص نتيجة كًهذه يمكن لها أن تهدم الصرح الذي تعيش فيه خلايا الجماعة؟! ومن يجرؤ منهم على اتخاذ قرارٍ كهذا؟ بينما التنظيم هو شركة استثمارية كما جاء في توصيف حسن البنا الأساسي، تلبي مصالح المنضوين تحت رايتها، ولا ينبغي أن نغفل عن قول البنا:« نحن دعوة سلفية، طريقة صوفية ،
هيئة سياسية، جماعة رياضية، رابطة ثقافية، شركة اقتصادية، فكرة اجتماعية» وهو من قال« إننا قد تأثرنا إلى حد كبير بالنظم المائعة التي يسترونها بألفاظ الديموقراطية والحرية الشخصية».
وبذلك يصبح التنظيم القائم على البيعة والسمع والطاعة تنظيماً غير قابل للتطوّر، وعليه لا يمكن أن ينّفّذ أحدٌ رؤيةَ المؤسس في التخلي عن ذاته في لحظة تاريخية فارقة، تنقله من خارج المجتمع إلى داخله ،ولو أن إخوان مصر، بعد وصولهم إلى الحكم ومؤسساته، فككوا الشبكة، وانخرطوا في الدولة الحديثة ،محتضنين الفكر الإسلامي وقيمه، دون تنصيب أنفسهم حماة له وقيمين عليه، لكانت تجربتهم نضجت وتعلموا أنه لم يكن من الضروري أن يعبروا هذا المعبر الشاق، طيلة سنين، وأن الدين يحفظ نفسه بنفسه، بقيم أهله ومعاملتهم، كما يقول المؤسس الأصلي للإسلام النبي محمد.
وماذا عن المصداقية التي يتطلبها العمل العلني، ويرفضها العمل الباطني؟! فقد اشتهر الإخوان سياسياً بصفتين ثابتتين، أولاهما أنهم لا يلتزمون بأية اتفاقات أو عهود أو تحالفات، وثانيهما أنهم أكثر الناس قدرة على اتخذا قرارات حمقاء، خاطئة، لطالما أودت بهم في كل موقعة أو منعطف تاريخي. وربما يتساءل القارئ ما الذي قدّمه الإخوان المسلمون لإخوانهم المسلمين في سوريا، ما دام الطرفان ينتميان إلى مشكاة واحدة؟ ولماذا لم يمنع محمد مرسي رئيس مصر المنتخب السفن الإيرانية التي تحمل السلاح إلى الأسد من عبور قناة السويس وهو قادر على هذا؟ ولماذا لم يتم دعم المعارضة السورية بأكثر من استعراضات خطب الجهاد الشفهي في إستاد القاهرة؟ ولماذا لم يفتح مرسي للمعارضة السورية بوابات مصر الدبلوماسية ويدعم اتجاههم بأكثر من إيواء اللاجئين، الذين قدموا إلى مصر قبل وصول الإخوان إلى الحكم، فلم يكن للإخوان من فضل في استقبالهم، وما الذي قدّمه الإخوان بعد إصرارهم على العلاقة مع إيران التي استفزت دول الخليج والشعوب العربية التي تنزف بسبب الهيمنة الإيرانية وتدخل إيران في شؤونها وعلى رأسها الشعبان السوري والعراقي؟.
لا يستطيع أحد الجزم بأن الشعوب العربية والإسلامية كلها كانت سعيدة بالنكبة التي تعرضّ لها الإخوان في مصر، لأن تلك الشعوب لا تريد أن ترى أبناءها يفشلون وينحدرون، ويسقط في أيديهم، ولكن فساد المسألة كامن في فكر الإخوان، الذي أغلق على نفسه دائرة التحوّلات.
والذي يخرج به العرب المسلمون من تجربة الإخوان )في الحكم( أن التجمعات والتشكيلات السياسية التي تقوم على أطر مغلقة لابد وأن تصل إلى طرق مغلقة مسدودة في نهاية الأمر، وهو ما ينسحب على التشكيلات السياسية غير الدينية أيضا، التي طوت على ذاتها حجابا كتيما منعها من التقدّم والتطوّر ،حتى نصل إلى المجتمعات الطائفية في اًلمنطقة التي تغلق الأبواب عًلى ذًاتها، منكمشة في طوائف تنظر إلى العالم بفكر أقلوّي أصم، ولا بديل عن تكسير تلك الجدران الفاصلة بين الأفراد في المجتمع ،ما دمنا ننشد دولة المواطنة والعدالة والحرية.
أما مصر الكبيرة، من فتيانها وفتياتها في الحواري والميادين، إلى نيلها وأهراماتها، فلم تكن يوما على قياس أحد من حكامها، وكانت دوماً أكبر من كل الذين حكموها، من رمسيس وأخناتون إلى عبد الًناصر ومبارك ومرسي، وهي التي صدّرت للعالم قيما ثقافية وحضارية خالدة، جرت وتجري مع مياه نيلها الخالد، فلم يكن طه حسين إخوانيا ولم يكن عًباس العقاد إخوانياً ولا نجيب محفوظ ولا المنفلوطي ولا حافظ إبراهيم وأحمد شوقي ولاً أم كلثوم ولا عبد الوهاب ولا عبد الحليم حافظ ولا أحمد زويل ،فكل أولئك مصريون بعضهم نعرف عقيدته والبعض الآخر لا نعرف ما الذي يحمله في ثنايا صدره، وكان على الإخوان أن يدركوا أن مصر أكبر منهم، وأن زمن الحرية و»الربيع العربي»، لم يعد يسمح بتنميط المجتمع، وسكبه حسب وصفات تتحكم بها البيعة والسمع والطاعة، وما تبقى من أوامر وعتاد الدولة الثيوقراطية.