غازي دحمان
حتى لا تكون الثورة السورية مرثية أولها يشبه آخرها
تكمن إحدى إشكاليات الثورة السورية وإستعصاءاتها الراهنة، بصيغة خطابها السياسي
والإعلامي الموجه للداخل السوري وللعالم الخارجي، والذي، أهم مما سبق، يعبر عن واقع قوى الثورة وطبيعة رؤيتها وتصوراتها للسلطة ومتطلباتها، سواء ما خص الشأن الداخلي «للسلطة »بوصفها عملية ضبط للصراع الإجتماعي، أو فيما يخص شقها الخارجي، علاقاتها الإقليمية والدولية.
ولعل أهم ما تميز به هذا الخطاب في الفترة السابقة، منذ تاريخ إنطلاق الثورة في مظهرها الإحتجاجي العفوي في درعا وحتى هذه اللحظة الدامية، وما مر بينهما من مظاهر وتعبيرات ثورية، تأثره الكبير بمجريات الحدث وتبعيته له، وإستغراقه في عملية وصف دائم لمظاهر الثورة وتعبيراتها، دون أي مساع لإمكانية الخروج من حالة الصدمة هذه، وما فرضه الحدث من متغيرات هائلة في الذهنية السورية عموما، والإنتقال بالتالي إلى موقع المبادرة والقيادة واستثمار اللغة السياسية وممكناتها ،لإمكانية تحويلً هذا الخطاب إلى إضافة مهمة ترفد الثورة وتعزز من مكاسبها. من هنا كانت، ولا زالت، غلة الدم كبيرة وفاقت فاتورة الدم كل تصوراتنا، لأن الثورة لم تكن تملك من الأدوات غير عنصرها البشري الجريء، بالطبع هذا الافتراض لا يلغي حقيقة أن سورية مبتلية بنظام مختلف عن سواه من الأنظمة السياسية المعاصرة، وقد تبين أنه تجهز جيداً لمثل هذا اليوم بذخيرة كافية لقتل روح السوريين ومنع أي إمكانية للثورة عليه.
ومن نافلة القول هنا، أن جذور الأزمة تكمن في حالة الفطرة السياسية السورية وما أفرزته من قلة خبرة ومراس سياسي، انعكس بشكل واضح في العملية السياسية عموما وفي المستويات الحركية والايديولوجية، فضلاً إلى مستوى الخطابين السياسي والإعلامي للحراك الثوريً، الذي تولى صياغتهما كتاب ونشطاء سياسيون جاءوا من حقول الثقافة والأدب والفن، وعملوا على ترحيل أدواتهم ومقارباتهم للتعبير عن حالة الحراك، فظهر هذا الخطاب بشكل رومانسي ومثالي خال من الصنعة السياسية وتقنيات المهنية الإعلامية. فضلاً عن حقيقة كون هذا الخطاب أخذ وقتاً طويلاً قبل أن يتبلور ويظهر بشكل واضح، لتأخر ظهور التكوينات السياسية المعارضة، فقد انتظر السوريون أكثر من ستة أشهر قبل ظهور أولى البنيات السياسية، وحتى هذه فقد ظهرت بشكل مرتبك لا برنامج
الملف الفكري الثورة السورية والانتفاضات العربية من منظور نقدي
سياسي لها ولا تمتلك رؤية سياسية واضحة لصيرورة الثورة ومألاتها، إضافة إلى عدم وضوح خريطة الثورة وتحديد أماكن الزخم بها والأماكن المترددة وتلك التي لاتقف مع الثورة، وتالياً العمل على صياغة خطاب سياسي وإعلامي يأخذ كل هذه الوقائع بعين الاعتبار .
لكن، وللإنصاف، فإن هذا الخطاب، وبرغم نقاط ضعفه تلك، ورغم افتقاره للأدوات وللظروف المساعدة، ومحاولاته اللاهثة التكيف مع الواقع الجديد تحت ضغط وزخم الثورة وعنف النظام المتمادي، استطاع قدر الإمكان التعبير عن ثورة عاطفية ومباغتة وخارجة عن طبيعة السياق السوري الساكن لعقود، ثورة فاجأت الإنسان السوري نفسه بقدر ما فاجأت العالم كله، إضافة إلى ذلك ،فقد تصدى هذا الخطاب للقيام بوظائف ومهام كثيرة، في سعيه لمواكبة الحدث الطارئ والمستجد في الوعي والسلوك السوري المعاصر، تركزت في سعيه لتوطين الثورة في البيئة الإجتماعية السورية ،ومحاولة قومنتها» على المستوى القومي السوري»، من خلال التركيز على قضية الوحدة الوطنية وتصوير الثورة بمظهر وطني خالص، في مواجهة خطاب النظام الذي حاول إغراق المشهد الثوري بتفاصيل طائفية مؤامراتية، وفضلاً عن وظيفته» خطاب الثورة» كشف بشاعة سلوك النظام الحاكم ومماراساته القمعية تجاه الثورة وأنصارها وتظهير سلمية الثورة وأحقيتها، ونجح هذا الخطاب في بعض هذه الوظائف وفشل في جزء منها.
غير أن تطورات الثورة السورية وانتقالها من حال إلى أخر، بات يتطلب إعادة صوغ الخطابين الإعلامي والسياسي بمفرداتهما وألياتهما وأنساقهما وحمولاتها السياسية وأخيرا وظائفهما الايديولوجية، بما يتناسب والمعطيات المستجدة في الواقعين السوري والدولي، فعلى سبيلً المثال لم يعد مجديا التركيز على مسألة التأليب على نظام الأسد والتأكيد على أحقية الشعب السوري في الثورة، إذ بعد عامًين على الثورة فإن هذا النمط الخطابي قد جرى استهلاكه إلى أبعد الحدود وتحولت مقولاته إلى بديهيات ،إضافة إلى فقدانها الفعالية المطلوبة لتأييد الثورة داخليا وخارجيا، والأخطر من كل ما سبق، إمكانية تحولها إلى قوالب وصيغ نمطية غير مجدية، أو حتى ذاتً أثر سلبيً. فإذا كان هذا الخطاب قد فشل في زحزحة مواقف بعض الأطراف الموالية للنظام، وتعامل مع هذه القضية باعتبارها مسألة محسومة لا تستحق عناء العمل عليها، فإنه تحول بعد تاريخ طويل على انطلاق الثورة إلى عامل طارد لإمكانية كسب هذه الاطراف بصيغته الوثوقية والمتعالية على لسان بعض رموزه.
فوق هذا وذاك، فإن هذا الخطاب بات اليوم يواجه تحديات عملية على الأرض، منها ما يتمظهر في سياسات الدول وطبيعة مقاربتها للثورة وللأوضاع السورية عموما، ومنها ما تشهده الحالة السورية من انزياحات ذات طبائع متطرفة أو انفصالية، صحيح أن هذه التحًولات هي نتاج ظروف ومتغيرات خاصة كمثل أن سياسات الدول تقررها مصالحها وتحولات المجتمعات تحكمها وقائع بيئتها وأحوالها ،لكنها بالمحصلة تقع في نطاق المجال التأثيري للخطاب وتلامس مهمته في التأثير بالتوجهات والأدوار.
حتى لا تكون الثورة السورية مرثية أولها يشبه أخرها
على سبيل المثال، ورغم صلافة المواقف الروسية والصينية، وتأسيس مقارباتهما للحدث السوري بناءً على إعتبارات قد لا يكون بمقدور الثورة تغييرها، لاندراج هذه المواقف في إطار الصراع الجيوسياسي العالمي وتعقيداته، لكن إن لم يكن للدبلوماسية «بخطابها السياسي» القدرة على التأثير في مواقف الأطراف، فلماذا يصار إلى تشغيل هذا العنصر في العلاقات بين الأطراف؟، يذكر، ناحوم غولدمان ،رئيس المؤتمر اليهودي في الأربعينيات من القرن الماضي، في مذكراته كيف أنه استطاع إقناع النخبة السياسية الأمريكية بتأييد» دولة إسرائيل» واحتضانها، وكيف كان يستخدم لغة عاطفية ولغة مصالح ويعزف على وتر القيم الأمريكية ويستشهد بالإنجيل والتوراة ويسرد قصة عذاب موسى وتيه اليهود في الصحراء وصولاً إلى محرقتهم في ألمانيا .
وإستتباعاً لكل ما سبق، فقد بات مطلوباً صناعة خطاب جديد للثورة، على المستويين السياسي والإعلامي، خطاب يكون أكثر عملية وأقل عاطفية، يراعي المعطيات المستجدة والحاصلة ويقوم بعملية هضم لها بقصد تحقيق الجدوى المطلوبة في رفد الثورة وتحريكها في المواقف الدولية والداخلية، وفي الشكل، فإن عليه ان يتخلى عن اللغة الوصفية، وصف الأحداث وعدها، لأنها إستدعت نمطا مقابلاً يقوم على توصيف سلوك المعارضة وتلقط أخطاءه ما أعطى لهذا النمط شرعية وأحقية لدى جًمهور واسع من السوريين وفي الخارج.
ربما كان على الخطاب الجديد أيضا أن يتخلى عن استراتيجية التوليد التي ظلتّ تنتج نمطا شاعرياً وسرديا عن الثورة وصل في نهايته إلًى دائرة مقفلة، صارت بموجبه الثورة السورية عبارة عنً مرثية أولها يشًبه أخرها، والإنتقال بدل ذلك إلى إستراتيجية تطويرية أكثر ثراءً وقدرة على قراءة الواقع السوري والتأثير به والاستجابة لمتطلباته والتعبير عن هواجسه، وفي سبيل ذلك يتطلب صياغة الخطاب الجديد بطريقة أكثر مرونة وعمليه، بحيث يستطيع تقبل وهضم الرؤى والأفكار التي تقع خارج نسق الخطاب الثوري، او تلك الأفكار ذات القراءات التي لاتنسجم مع نسق الحماس الثوري ولكنها تحمل منطقا معينا.
ومن حيث المضمونً، فثمةً حاجة لخطاب لايتنازل عن الثوابت ومنظومة القيم المؤسسة للحراك الثوري، ولكن بنفس الوقت خطاب يضيق دائرة الطرد من نواته ويوسع هوامش تخومه، وأن يكون خطاباً لا إنتصاريا يدفع المهزومين « نظريا» إلى قلب الوقائع على الأرض، ولا بكائيا يغري المنتصرين »نظريا» إلى التشبثً بمواقفهم والتطرف فًيها. ويبتعد قدر الإمكان عن المنطق السًجالي الذي نجح خطابً النظام في إستدخاله عنوة في خطاب الثورة وإغراقه بمستنقع لا شواطئ له، ما أظهره كخطاب تبريري إعتذاري يستجدي الثقة والقبول.
والأهم من كل ذلك، على الخطاب الجديد أن لا يسكت على الأخطاء التي تقع في إطار الثورة وضمن تعبيراتها وهوامشها، ولا يسمح، تحت ذريعة الإنتصار للثورة، بأي عملية إختراق لفكر متطرفولا وطني لا يعبر عن الثورة، بل ويحاول سرقتها وأخذها إلى مطارح ليست مطارحها، وبشيء من الوضوح، لقد أضر الخطاب المتطرف، المحسوب على الثورة، بصورة الثورة وسمح للكثيرين بأخذه كحجة وتبرير لتقاعسهم عن تأييد الثورة، بل وتأييدهم للنظام في حالات كثيرة، هذا اختراق ما كان يجب أن يقع، وإن حصل فقد توجب معالجته بطريقة أكثر وضوحاً وحزماً، علينا أن نعترف أن هذا الأمر شجع على قيام تعبيرات موازيه له على الأرض.
أخيراً، على الخطاب الجديد أن ينتقل من خطاب ثورة يمجد جزءا من الشعب ويدين جزءً أخر، إلى نمط خطاب وطن مشترك للجميع ينظر للمرحلة الحالية بقضها وًقضيضها، باعتبارها مرحلة عابرة لن تدوم على شكلها الحالي أكثر مما دامت، وأن القادم هو الأهم والأخطر. ما يتطلب صناعة وعي خاص به. هذا الوعي لابد أن يتم التمهيد له وتهيئة رأي عام قادر على حمله واحتضانه، علينا أن لا نسمح لإجرام بشار وزبانيته بأن يتحكم بشكل إخراج سورية الجديدة، النظام يسير إلى نهايته، كل المؤشرات تدل على ذلك، وسورية باقية وهي تحتاج لمن يعرف إعادة روحها إليها، وبعث قيمها ،وتوحيد مكوناتها المختلفة