دمشق-عمّار ديّوب
أحكم النظام الشمولي، الممثل للطبقة البرجوزاية الصغيرة منذ بداية السبعينيات ،السيطرة على المجتمع، عبر الاستفادة من الإصلاحات –الإصلاح الزراعي، التأميم، مجانية التعليم، فرص عمل للفقراء، فتح المجال لزيادة عدد أفراد الجيش والأمن- ما قبل السبعينات ،وعمل على اجتثاث كل مؤسسات المجتمع المدني المستقلة والسياسية كذلك، دافعاً معركته معها إلى النهاية، إما عبر الاعتقال أو التهجير أو الاستيعاب في مؤسساته كالجبهة الوطنية التقدمية وأشباهها. وفي مطلع الثمانينات إثر الحرب ضد حركة الاخوان المسلمين الطائفية، تمت السيطرة الكاملة على المجتمع، وعلى الحياة السياسية، واستمر الأمر إلى بداية الألفية.
ترافق منذ السبعينات مع السيطرة الأمنية، فتح مجال النهب والفساد بأوسع أشكاله، فتشكلت سلطة بيروقراطية وطفيلية، وتم تصفية القطاع العام وتوسعت دائرة القطاع الخاص، وبتحقق ذلك، مع الألفية الجديدة، صار الإصلاح الزراعي والتأميم والتعليم المجاني والصحة، بمهب الريح، فتعمق الفرز الطبقي وازداد اتساعاً فاكتملت بذلك طبقة مافيوية كولونيالية جديدة، وأفقر الملايين وظهرت شرائح المهمشين ودمرت الزارعة.
وبدا أن نظام الحكم يدير الأزمة ولا يحل المشكلات، منذ عام ألفين تقريباً، وبدا أن شروط الثورة تتفاعل، منذ ذلك الوقت.
أزمات بلا حلول.
تراكم الأزمات ذاك، كانت السلطة تضبطه عبر السيطرة الأمنية، وعبر اجتثاث السياسة بدءاً من السبعينيات، وبعد الثمانينيات، فُتح المجال الديني على أوسع نطاق، فاتجه الشعب المتعب والمفقر والمذلول نحو ساقية الايمان مضطراً، كشكل وحيد للفعالية العملية المسموح القيام بها ،وازداد الوعي الديني عند كافة المجموعات الدينية؛ في الدين الواحد وفي الأديان المتعددة. ولكن عراقة المجتمع المدني والسياسي والعلماني واليساري بصفة خاصة، منعت تحوّل الديني إلى طائفي، وبقيت تناقضات المجتمع السوري، تعتمل في إطار المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ككل مجتمعات الأرض، ولم تتحوّل الحساسيات الدينية، إلى طائفية سياسية.
الأزمة الاقتصادية تعمّقت في حقبة الاصلاح والتطوير ولاحقاً في حقبة الاصلاح الاداري التي قال بها النظام منذ عام 2000، فلم تكن لمواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية بل فاقمتها بشكل مضطرد، وكان ِيستبعد الإصلاح السياسي بشكل ثابت، والذي طالبت به المعارضة على اختلاف تياراتها. هذه المشكلات، لم تدفع النظام نحو استبدال السيطرة الأمنية بالإصلاح السياسي، ولا بأي إصلاح أخر لحل المشكلات، وحين كان يظهر وكأنه يتبنى ذلك، كما قرأت المعارضة خطاب القسم، عام ألفين، كانت المعارضة تصدق أقواله وتتعاطى بسذاجة استثنائية، وتدخل بجدال طويل عن الصراعات بين أجنحة وأجيال السلطة، وأن رئيس الجمهورية يريد الإصلاح بينما الجيل الهرم القديم يعاند ذلك، ولكنه سيخرجهم من الحياة السياسية وسيكون هناك تغيير ما عبر السلطة، وعقدت الأمال العظيمة، على ذلك، ولم يتحقق شيئاً يذكر. الحقيقة أن النظام كان يمارس السياسة البراغماتية اتجاه أصحاب النوايا الحسنة، وقد كشفت المعارضة عن نفسها علانية سياسياً وتنظيمياً، وهو ما كلفها غالياً، وبالتالي كان النظام يتابع كل حكايا المعارضة، بل ويشارك معها عبر “سياسييه” في النقاشات التي جرت في سورية، حينما كان ربيع دمشق مزهراً مع بداية الألفية، ولكنه، وبعد عامين صار شتاء قارصاً ولا يزال، ولم تحلّ المشكلات.
السياسات الليبرالية وبدء الثورة
الأزمات التي تكرست، بعد نهب الدولة والفساد، أصبحت مع السياسات الليبرالية الجديدة ،المحمية من قبل أدوات النظام السياسية والإيديولوجية، أكثر كارثية وهو ما أشعل الثورة السورية في منتصف أذار عام 2011، وقد تفاعلت بشكل واسع مع ثورات العالم العربي، ومع انتصار الثورة التونسية والمصرية وبدء الليبية وقبلها جميعاً الثورة البحرينية، فانفجرت الثورة السورية، في دمشق ودرعا بداية ولاحقاً عمّت سورية، وخلال شهر أو شهرين، كانت سورية كلها تغلي، واشتعلت الثورة وتعاظمت منذ ذلك الحين وإلى الأن، وأخذت أشكال عدّة ولا تزال تتمظهر بأشكال جديدة.
إذن الشرط المحدّد للثورة هو الاقتصادي بالتحديد، حيث الإفقار الواسع والتهميش الكبير ودمار الزراعة والصناعات المتمركزة قرب العاصمة وفي مختلف المدن السورية وانهيار في قطاعات الدولة الانتاجية وفي الأجور، والشرط السياسي يتمثل بنظام سياسي تسلطي شمولي بالغ البطش، ومعارضة سياسية ليبرالية وشعب مفقر بوعي ديني سائد. إضافة لكل ذلك همجية مواجهة النظام للثورة؛ فشدة القمع اعتقالاً وقتلاً وطائفية، كلها ساهمت في تمدّد الثورة وتوسعها بشكل كبير. ولكن كل ذلك، ما لم يكن هناك شرط اقتصادي محدد للثورة، لاستطاع النظام حصرها في تمردات جغرافية معينة ولاندثرت.
غياب الصراع السياسي وتفرد الثورة الشعبية
في هذه المعطيات علينا تحليل الثورة الشعبية، وتعقيدات مساراتها وأهدافها والتداخلات الدولية والإقليمية فيها، وبالتالي فإن بدأت الثورة سلمية، وعمّت المظاهرات البلد بطوله وعرضه ،فإن النظام لم يستثن منطقة واحدة من الاعتقال والقتل وملاحقة الثائرين عبر قواه الأمنية ولاحقاً عبر” فئة الشبيحة”، بل وأقحم الجيش في معركة ضد الشعب، وهو ما أظهر مكوناً جديداً في الثورة، مكون المدافعين عن النفس وعن الثورة من المدنيين والعسكريين المنشقين.
إذن ،الثورة بدأت سلمية وكان سقف مطالبها منخفضاً، وكانت أهدافها تنحصر في إصلاحات جزئية ،تطال محاربة الفساد وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية ومحاسبة بعض رؤوسها، وفصل السلطات ،وإنهاء احتكار الاعلام، والسماح بالمظاهرات، ولكن عنف النظام، دفع الثورة لرفعها سقف مطالبها من تقاسم السلطة إلى إسقاطها، ومن إصلاحات عامة، إلى تغيير كامل لبنية السلطة، وبالتالي تصاعدت الشعارات نحو إسقاط النظام وإعدام الرئيس.
هذه القوة والجرأة الثوريتان، خشيهما النظام خشية عظيمة، خاصة وأن مدينة )حماه( المدماة منذ الثمانينيات، لم تذهب نحو السلاح بداية، وبقيت ثورتها سلمية بالكامل ولم تظهر ميلاً طائفياً أبداً، بل إن دخولها الثورة تأخر قليلاً عن بقية المدن السورية. فهم النظام منذ الاندفاعة الكبيرة للشعب إلى الثورة، إنها ليست تمردات يمكن تطويقها، كما طوّق أحداث سابقة مناطقية في مدينة السويداء ومنطقة القدموس وحتى انتفاضة الأكراد عام 2005 فاستطاع قمعها وإنهائها حينذاك ،وبذلك رفع من حدّة الموجهة والقتل والدمار، فبدأت الدبابات تجتاح المدن والقرى بعد الأشهر الأولى، وراح منسوب القتل يتعالى ويرتفع.
إعلام النظام وإعلام المعارضة
الثورة هذه، واجهها النظام إعلامياً عبر بث برباغندا متكررة، عن جماعات سلفية وإرهابية هي وراء كل ما يحدث، ومدعومة من الامبرياليات العالمية والدول الخليجية، ومرّر هنا حكاية )بندر بن سلطان( عبر خطة نشرتها مؤسسات الدولة وأعيد تكرار فحواها عبر الاعلام الرسمي والخاص” الرسمي”، بل وأرسلت أجهزة الأمن بعض عناصرها لتوزيعها في شوراع سورية، ليعطي لنفسه شرعية المقاومة والممانعة بين أوساطه ولدى تابعيه، وحتى في أوساط المؤسستين الأمنية والعسكرية، وهو الموضوع الذي لم تواجهه المعارضة السورية، بل تلاقت تصوراتها عن الثورة برباغندا شبيهة بما يقوله النظام، وصنفتها بأنها ثورة شعبية”سنية” وهو استبدادي ويحمي الأقليات أو يحتمي بها، وبالتالي استطاع النظام أن ينجح في تحييد كتل بشرية كبيرة عن فعل ،لنكون أمام ثنائية العنف اللامحدود وأيديولوجيا تشدد على الطبيعة الاسلامية للثورة والغزو الخارجي الإمبريالي والخليجي، هذه القضايا كما أشرت لم تفككها المعارضة المكرسة! بل هي من كرسها، عبر دعواتها ولا سيما “المجلس الوطني” حيث الحماية الدولية فالحظر الجوي فالغزو الخارجي، وبالتالي صار للكتلة المحيدة والصامتة أسباب حقيقية في الابتعاد عن الثورة، بل وفي الوقوف إلى جانب النظام لأسباب متعددة ومنها غياب المسألة الوطنية ومنها الخوف من الدما والخوف من دولة إسلامية قادمة.
جدل السلمية والعسكرة في الثورة
إن تصاعد همجية النظام وممارسته كل ما أشرنا له، وبشكل متكرر ودون توقف، ودون أية توسطات بل وتجاهل كل مطالب الشعب، وعدم سوق أي رأس من رؤوسه إلى المحاكمة ،والاستمرار بإذلال الأهالي والتنكيل بهم بمختلف أشكال القمع، دفع الأهالي لرفع مستوى الرد ضده، فكان المكون العسكري للثورة، ونشأ اضطرارياً وبإمكانيات بسيطة وبهدف محدد هو حماية الأهالي والمحافظة على التظاهرات السلمية، ولكن استهتار النظام بالأهالي وممارسة كل أصناف الهمجية، من قتل وطائفية وتعذيب وتنكيل بالقرى والمحاصيل وحتى الاعراض حيث الاغتصاب كما ذكرنا، نقل العمل العسكري من مرحلة الدفاع عن النفس، إلى مهاجمة المراكز الأمنية والمواقع العسكرية التي كانت وعلى مدار أشهر تخوض الحرب ضد مناطق الثورة السلمية، وبذلك صار للثورة مكوناً شعبياً عبر التظاهر ومكوناً عسكرياً عبر المنشقين والمدنيين المسلحين، ومكوناً سياسياً عبر مختلف القوى السياسية، وهو الأسوأ في صيرورة الثورة، وصار مع تطور الثورة يشكّل إعاقة حقيقية في انتصارها.
المكون العسكري، ليس هو الثورة، ولا يمكن حصر مكوناتها المتعددة فيه، فهو جزء منها وهو ما يجب التركيز عليه، وهو مكون موضوعي في سياق الثورة، وليس أمرأ يمكن تجاوزه، أو رفضه كما يقول دعاة “السلمية” ممن لايعون جيداً طبيعة النظام كنظام شمولي تسلطي، ويقدمون رغباتهم على الواقع، وليست حجتهم في أن النظام لديه خيار الحل السياسي سليمة، فالبشر ليسوا ملائكة حتى يصمدون أمام كل الوسائل الجهنمية التي ووجهوا بها، وهي ليست ثورة سياسية يمكن التحكم بها عبر قوى سياسية معنية. فهي ثورة شعب لطالما مورس عليه كل صنوف الاستغلال والقهر والعدوان، لذلك كان ذلك المكون موضوعياً في نشأته وصيرورة تطوره. قد يكون هناك تداخلات دولية وإقليمية ولكنها ليست خارج الأسباب الموضوعية، بل ولا تزال الأمور في هذا الإطار، وما وجود تلك التداخلات الخارجية سوى ظواهر جزئية، يمكن فهمها تماماً نظراً لحاجيات الثورة المتعددة، وتبقى في إطار مضامين وأوجه الثورة الشعبية الغنية ،لهذا فإن المكون العسكري بالتأزر مع بقية مكونات الشعب هو من قاد إلى تطور الثورة ووصولها إلى انقلاب موازين القوى لصالحها، وما استخدام النظام لأعلى درجات العنف، إلا علامة واضحة على ضعفه وتقهقره المستمرين.
مشكلة الوعي في الثورة
من خصائص الثورة الشعبية، أن قارعت النظام ٍّبوعي تقليدي غير المطابق لأسباب الثورة، أي أن الوعي المطابق لها، لم يتشكل عبر الاحتجاجات والمظاهرات، حيث أن النظام مُحكماً قبضته، على المجتمع، وملغياً كل نويات الحياة السياسية، وقد دفع الناس دفعاً نحو الوعي التقليدي ،الذي قدم إجابات دينية على المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.. وبذلك انتقلٍ الناس من وعيهم الاجتماعي والسياسي والوطني إلى وعي ديني يمايز بين الأفراد وفق هويات دينيةٍ، وطبعاً لم تكن المعارضة تستطيع مد الجسور نحو الشعب؛ فالنظام اجتثها كلية بممارساته القمعية على مدار عقود متتالية، وكذلك هي لم تبذل أي جهد حقيقي في إعادة مدها من جديد.
ولكن، تكمن أهمية الثورة في أن لها أسباباً اقتصادية بالدرجة الأولى وسياسية بالدرجة الثانية ولاحقاً أصبح العنف اللامحدود عاملاً ثالثاً وأحيانا يصبح عاملاً أولاً، وهو الأمر الذي منعها من أن تأخذ أبعاداً طائفية رغم أن وعي الناس العام وعياً دينياً كما أشرنا، فقد قام الشعب أثناء الثورة ،بممارسة الحصار ضد المجموعات المتشددة دينياً، عبر معالجات أهلية ميدانية، رفضت تلك المظاهر، مع الحرص على إشراك هؤلاء المتشددين بالثورة وحضهم على الابتعاد عن الطائفية السياسية، وأقصد أن الثورة الشعبية عملت على احتضان كافة شرائح المجتمع، رافضة تقديم العامل الديني على العامل السياسي والاقتصادي، لأن تثويرالدين سيكون عامل تفرقة وهو ليس سبباً للثورة، سيما وأن الناس لا تعادى الدولة لهذا السبب. ولأن الدولة ذاتها رعت الدين ورجال الدين وبنت من دور العبادة أكثر مما بنته أية دولة عربية في الفترة نفسها!
بمعنى أخر، لم يجد الشعب المنتفض أبداً سبباً لأن يكون الدين من أسباب الثورة، ونزعم أن الشباب المتدين بثقافة عالية دينياً لم يكن له دوراً أساسياً في بداية الثورة، وأن الفاعل الأساسي كان أقرب للشباب العلماني والليبرالي واليساري، ولاحقاً ومع دخوله لم يقدم رؤيته الدينية، بل دخل كثائر يريد إسقاط النظام، والتخلص من مشكلات الاستبداد والنهب والفساد وتحكم الأمن بالناس. يكمل الشرط الخاص بالوعي هذا، رؤية الشعب لثورات الشعوب العربية وهي تنتصر ،وما شكلته من حافزٍ ٍّعربي فاعلٍ للثورة، وثقة كبيرة بإمكانية الشعب على التغيير. تزامن هذين المعطيين هما ما دفعا الشعب إلى الثورة السورية.
قضية الحرية في الثورة.
إحتفى الإعلام العربي والدولي بمفردة الحرية وألصقها بالثورة السورية، وكرّر أنها ثورة حرية ولها طابعاً إسلامياً ما، ليسهل عملية الربط بين الحرية و”الأغلبية السنية” ويحولها إلى ثورة إسلامية، بينما الحقيقة، أنها تكرست واقعياًَ كثورة ضد النظام بكليته، أي ضد الوضع العام في البلد وبالأصل هي نتاج شرط اقتصادي طاحن، لتكون الحرية تماثل رفض السياسات الليبرالية والنهب والافقار والتسلط بكل أشكاله، وتسعى لتحقيق مطالب الشعب في العيش الكريم بلا نهب ولا فساد ولا سرقة، إضف لذلك عدم ارتفاع الأهداف والشعارات الطائفية في سماوات الثورة، بل ولا حتى الدينية رغم أن الوعي دينياً.
النظام يتهاوى.. والثورة لا تنتصر
الثورة التي تطورت في ظل هذه المناخات من همجية النظام ورداءة سلوكات المعارضة وغياب أهداف محددة للثورة، واجهتها مشكلة عدم انهيار النظام، كما جرى في مصر وتونس، ووجود كتلة محيّدة ومتردّدة وكتلة موالية له، وفي ظل هذا الاصطفاف السياسي، واستمرار استخدام النظام أدوات عنف لا محدودة لا تستخدم إلا في الحروب الخارجية)دبابات، طائرات، مدافع( دخلت الثورة بإرباك الاستنزاف يرافقه تقدم بطيء لصالحها، وبالتالي تعاظمت حاجياتها للدعم الواسع، مالياً وأدوية وغذاًءً وسلاحاً. العبء الأكبر قدمه الشعب المفقر وبعض الشرائح من الأثرياء، وتصيّدت دولاً وجماعات خارجية هذا الواقع لتؤثر به، وتصفي حساباتها مع النظام، أو لتساهم في صناعة النظام القادم في سوريةعبر أشكال من الدعم الهامشي.
واحدة من مشلاته الثورة الكبيرة في أنها لم تستطع، تجسّيرالهوة بين الموطنين، ولم تدخل فيها أقسام جديدة في الثورة، وبقي توسعها في المناطق الأشد تضرراً والأبعد عن مناطق الأقليات الدينية، وهو ما استفاد منه النظام وما تضررت منه الثورة في السنة الأولى، ولكن ومع ارتفاع كلفة إسقاط النظام عبر تدمير الأخير لمناطق بأكملها وقتل المئات كل يوم، فإن الثورة تقدمت كثيراً، وأصبحت الفئات المترددة والصامتة والمحيدة بل وحتى الموالية، أقرب لتقبل فكرة رحيل النظام… أي أن فشل المعارضة في تقديم خطاب وطني وأهداف وطنية واضحة للثورة، أبقى تلك الفئات بعيدة عن الانخراط في الثورة، الأمر الذي أدخل البلاد باستطالة زمنية لعمر النظام، ولكن ومنذ أيلول عام 2012 ودخول حلب المعركة بقوة لم يبقى له سوى الرحيل، فما يفعله من دمار وقتل وقصف بالمدفعية والدبابات للمدن والبلدات والقرى، لا يمكن أن يصنف إلا في إطار حرب النهاية، أو حرب ما قبل الرحيل النهائي، وقد رفع الشعب من سوية المقاومة العسكرية، وتوسعت الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها، والتي تصل لسبعين في المائة، وتتمايز بين الليل والنهار، وبين مدينة وأخرى.
لا يمكن توقع النهاية القريبة، ولا يمكن استبعادها بأن واحد، الاصطفافات التي ذكرتها، أصبحت دون قيمة تذكر، وصارت أغلبية الشعب الثائر أو المحيّد أو الموالي مع رحيله، أو البدء بمرحلة جديدة، يتخلص فيها الشعب من كل هذا الدمار العظيم والقتل المخزي، والبدء بمرحلة جديدة ،أساسها دولة لكل المواطنين.
إذن الثورة الشعبية السورية، ثورة تقودها أحياء مفقرة ومدن منكوبة بالاستغلال والاستبداد والقمع العاري، بل وحتى مدينة كبيرة كحلب، لم يعترف النظام لها بأية قيمة وأهمية، فمارس فيها نفس ما مارس من دمار في مختلف البلدات الصغيرة، لكل ذلك تستمر الثورة وتتصاعد ويستمر النظام في اخفاقاته وتتلاشي الأرض التي يسيطر عليها.
العامل الخارجي وأثره على الثورة
العالم متداخل مترابط متشارط، بعلاقات متكافئة أو بعلاقات تبعية، في إطار نظام رأسمالي تهيمن عليه الشركات العولمية وسياسات المحاور، ويعيش أزمة حقيقية كنمط انتاج رأسمالي وليس كأزمة مالية عابرة، ويشهد منذ عام 2008، مظاهرات ضده في مراكزه، ولا سيما في إسبانيا واليونان وإيطاليا والبرتغال، وما شهدته الدول العربية، يأتي في هذا الإطار. يضاف لذلك ،أن المنطقة العربية، محكومة إمبريالياً بنظام عالمي ينطلق من أبدية إسرائيل كدركي مقاتل في الجبهة الأمامية للإمبرياليات، وبالتالي كل تغيير ثوري في منطقتنا، يجب ألا يطال وجود إسرائيل كقوة إقليمية، وهناك واقع العراق المحكوم أمريكياً وإيرانياً، وبالتالي الثورات العربية متأثرة بقضايا إقليمية شديدة الخطورة، وهي تشكل خطورة حقيقية على تطورها بالتأكيد؛ في إطار هذا الشرط، بدأت الثورة، وتوسعت وطال أمد عدم انتصارها، وهو ما تطلب منها أن تتلقى دعماً من الخارج. ولكن مشكلة الثورة ليس في الدعم بحد ذاته، بل في عدم وجود قوى سياسية تقود ذلك الدعم دون إرتهانات للخارج، وإدارته بشكل يؤدي إلى تجذير الثورة كثورة شعبية وطنية، وقد مورس عكس ذلك، فتم الاعتماد على الثورة وتوظيفها سياسياً لصالح قوى سياسية على حساب قوى سياسية أخرى، ليصار إلى عقد تفاهمات دولية، تخضع لسياسات تلك الدول بدلاً من أن يتم الاستفادة منها لصالح الثورة. وبالتالي صارت الثورة في الميزان الدولي، الذي هو ميزان عاجز، بسبب الأزمة الاقتصادية، وبسبب دعم لا محدود تقدمه روسيا والصين وإيران للنظام، دعماً مالياً وعسكرياً ودبلوماسياً عبرالهيئات الدولية، وبذلك تم تدويل الثورة السورية ،لتصير قضية متاجرة واقتسام دولي على سورية، وهو ما لم تفهمه المعارضة المكرسة، ودخلت كأطراف تابعة للدول العظمى، وكل تفاعلات الأثر الدولي في هذا الإطار.
براغماتية الثورة وتصاعدها
الثورة اليتيمة من الدعم الخارجي، قرأت اللوحة العالمية جيداً، وأقصد براغماتياً، فأعطت بعض الولاء للمجلس الوطني ثم سحبته عنه، ورفعت بعض الشعارات لدولة ما ثم اسقطتها، وهكذا ،لأنها بكل بساطة تريد المؤازة ضد نظام يستخدم أدوات حرب لا تستخدم إلا بالحروب الخارجية. بقيت الثورة بعيدة عن التدخل الدولي، ولم تخضع لدولة ما، ولا تستطيع أية دولة أن تدعى قيادته كما يدعى النظام، ولكنها بالتأكيد لا تعادى العالم ولا ترفع شعارات قومية ولا وطنية رغم أنها تحتمل ذلك! هي ثورة ضد النظام التسلطي في سورية، وليست ضد إمبريالية ما أو ضد الكيان الصهيوني، في هذه الأونة أقلها، وبالتالي من الطبيعي ألا ترفع الشعارات ضد أعداء وهميين؛ فخصمها الوحيد والقاتل هو النظام ومن يؤازره دولياً، ومعركتها الحاسمة ضد النهب والتسلط والقتل والدمار.
وفي هذا الإطار قبلت الدعم الخارجي- وهذا حال كل ثورات العالم التي تأخذ سنوات وسنوات-؛
براغماتية الثورة وتصاعدها
الثورة اليتيمة من الدعم الخارجي، قرأت اللوحة العالمية جيداً، وأقصد براغماتياً، فأعطت بعض الولاء للمجلس الوطني ثم سحبته عنه، ورفعت بعض الشعارات لدولة ما ثم اسقطتها، وهكذا ،لأنها بكل بساطة تريد المؤازة ضد نظام يستخدم أدوات حرب لا تستخدم إلا بالحروب الخارجية. بقيت الثورة بعيدة عن التدخل الدولي، ولم تخضع لدولة ما، ولا تستطيع أية دولة أن تدعى قيادته كما يدعى النظام، ولكنها بالتأكيد لا تعادى العالم ولا ترفع شعارات قومية ولا وطنية رغم أنها تحتمل ذلك! هي ثورة ضد النظام التسلطي في سورية، وليست ضد إمبريالية ما أو ضد الكيان الصهيوني، في هذه الأونة أقلها، وبالتالي من الطبيعي ألا ترفع الشعارات ضد أعداء وهميين؛ فخصمها الوحيد والقاتل هو النظام ومن يؤازره دولياً، ومعركتها الحاسمة ضد النهب والتسلط والقتل والدمار.
وفي هذا الإطار قبلت الدعم الخارجي- وهذا حال كل ثورات العالم التي تأخذ سنوات وسنوات-؛
هذا الدعم المحسوب بدقة والمشروط بدقة، هو دعم لا يستهدف الخلاص من النظام، فهو لا يزال يقتل الشعب منذ عامين تقريباً، ودول ذلك الدعم تريد وراثة النظام فقط، وبأقل الكلف وعبر لغوٍ إعلامي وقليل من الدعم المالي وبعض الأسلحة التي تأتي بشكل متقطع وبائس بكل المقاييس ،ولولا قوة الثورة وتصاعدها واعتمادها على السلاح المستولى عليه من مستودعات جيش النظام وثكناته، لتشرذم المكون العسكري، أو اتجه نحو خيارات مأساوية وربما تراجعت الثورة فعلياً. إذن، قوة الثورة وتصاعدها هو سبب كل هذه الصراعات الدولية على سورية وليس العكس كما تتوهم المعارضة وكثير من العقائديين، ولم تقود المعارضة أية حملات دولية مستقلة للدفاع عن الثورة واستقدام الدعم لها، وكانت تفاهماتها الدولية أقرب للاستجداء الدولي بهدف الاعتراف بها. وقد شكل انقسامها وانقسام دول العالم في دعم متمايز لتياراتها، عامل تفرقة إضافي في تقسيم المعارضة، وفي تأخر نجاح الثورة؛ فأغلب الخلاف، حول مسائل كراسي السلطة القادمة وليس فيها اختلافات جذرية عن الاقتصاد أو شكل النظام السياسي أو أي موضوع ذو أهمية فعلية، فهيئة التنسيق مدعومة من روسيا والصين وحتى إيران، والمجلس الوطني مدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا وكثير من دول العالم؛ هذا الصراع بين الكتلتين السياسيتين ،أضعفهما دون شك، والأنكى أنهما لا يثقان بالشعب، ولا يقودان معركة دبلوماسية لنصرة الثورة ،بل هما مجرد طرفان تابعان لدول عظمى؛ هذه الحقيقة تظهر بالضبط في موافقة هذين الطرفين على كل ما تقدمه تلك الدول العظمى من سياسات وأفكار، ليس لها أية معنى سوى الخضوع لتوازنات الصراع الدولي وإطالة الثورة وتحويلها إلى أزمة إلى أن تضعف سورية، ويتدمر كثير من مرتكزاتها كدولة إقليمية.
إن الدولة الروسية، ليس لها أية مصلحة بذلك، ولكن وقوفها إلى جانب النظام في مواجهته الشعب، يساهم في دمار سورية. وأيضاً، إن أمريكا وأوربا، بعدم ممارستهما أية ضغوط دولية فعلية ضد النظام وضد روسية ومن يواليها، أيضاً تطيل عمر النظام وتساهم في دمار سورية.
وبالتالي لا وجود لثورة الشعب على طاولة العمل الدبلوماسي، بل هناك فقط أزمة تخضع لموازيين دولية ليست بصالح الروس بسبب الثورة وليست بصالح الدول المعادية للنظام بسبب همجية النظام، وقيمة مناصرتها للثورة ليس من موقفها مع الثورة بل من قوة الثورة ذاتها؛ المعارضة المكرسة والتي تفتقد لأي شعور عالي بالمسؤولية اتجاه الشعب وثورته، لا زالت تعقد الصلة على الدول الامبرالية لإيجاد حل معين للثورة السورية، فالهئية لاتزال تلهج بحل سياسي لا يأتي، والمجلس لا يزال يلهج بتدخل دولي لا يأتي بدوره، وبالتالي تمارس هذه القوى دوراً رجعياً ضد التاريخ الثوري للشعب، ولا تعترف به من أصٍله في قاموسها السياسي البائس.
تأخر حسم الثورة لمعركتها بإسقاط النظام، أت من عدم وضوح الأهداف، وهي كثورة شعبية تخوض مواجهات ومعارك دامية غير قادرة على صياغتها، وإن تصدي الإعلام لنشر وقائع الثورة ،أدخلها بتعدد الولاءات والمرجعيات والرؤى السياسية المتمايزة، لتغيب الرؤية الجامعة والأهدافالمحددة للثورة، وبذلك استمرت الثورة بأهداف عمومية جداً، ولم تستطع قواها الفاعلية حل مشكلاتها، ولا سيما غياب موقف محدد دقيق من بقية الشعب غير المنتفض ولديه كل أسباب الانتفاض والثورة، ومسألة العلاقة مع دول العالم، والموقف من المسألة الوطنية، والموقف من الوضع الاقتصادي للملايين، والذي كان متدهوراً قبل الثورة وتفاقم أثناءها، ولم تستطع الثورة تحديد شكل النظام السياسي القادم؛ هذه القضايا كان يفترض بالقوى السياسية التصدي لها ،ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً بذلك ودخلت بصراعات ثانوية لا معنى ولا قيمة لها، وهي لا تتعدى لعبة الكراسي، بدلاً من أن يكون الصراع على مستقبل الثورة وأهدافها، وعلى تعدد طرق حل المشكلات، فهو مبرر وجودها، وبالحقيقة لولا الثورة لما كان لهذه القوى السياسية أية قيمة واعتبار!.
يمكننا القول هنا، إن العامل الخارجي، له سياساته ومصالحه، ولم يقدم شيئاً حقيقياً للثورة السورية، وكان من أكبر الأخطاء التعويل عليه، وهو ما فعلته المعارضة المكرسة، تنديداً واستجلاباً، وقد ساهموا بذلك في تأخير الثورة لإعلان أهدافها، وتحديد علاقة وطنية بدول العالم وحل مشكلاتها الواقعية ولا سيما مسألة تثوير بقية المناطق السورية، التي لديها كل أسباب الثورة.
نعم، إن التركيز على الخارج منع تجذر وتوسع الثورة داخلياً، وذلك لأن العالم متداخل كما أشرت ،والسوريين بحكم الجغرافيا السياسية والثورة كثيروا الحساسية لكل مجريات العالم، وهذه الحساسية انعكست اصطفافات متباينة من الثورة، كونها ثورة شعبية بالأصل.
نخلص للقول: ما يحدث في سورية ثورة شعبية، وهي تتنوع في مكوناتها، وستبقى تتطوّر في هذا الإطار بالتحديد، إلى أن يسقط النظام وتبدأ سورية مرحلة جديد، وحينها سيكون الشعب أمام ثورات جديدة، ولكن بأدوات جديدة، وسيكون قادر حينها على التعبير عن أهدافه بدقة ووضوح، وربما ستكون الصراعات دون أدوات حربية كما تتم بشكل مركزي في الأونة الاخيرة.
حاولت في هذا الدراسة أن أناقش أسباب الثورة؛ وطبيعتها: فهل هي شعبية\ سياسية\ دينية\طائفية؟ ومسألة إلتباس أهدافها، وبعض مشكلاتها، وقضية السلمية والعسكرة، وقضية المعارضة بشكل مقتضب، وقضية العامل الخارجي.