سلامة كيلة
الثورات في البلدان العربية ابتداءً من تونس أثارت لغطاً كبيرا حول فلسطين. هذا اللغط لم يكن من الثورات ذاتها أو من الثائرين أنفسهم بل كان مًن قطاعات من السياسيين الفلسطينيين، وبعض اليسار العربي الذي ينطلق من أن «فلسطين هي البوصلة»، وأنها «القضية المركزية»، وأن التوجه إلى فلسطين هو المقياس، وأنه يجب أن تبقى «قضية فلسطين» هي العليا، فلا يجب أن «يغطي» عليها شيء. هي القضية الأولى، وهي القضية التي يجب أن تحظى بكل الاهتمام، وأن يظل التركيز منصبا عليها، بحيث لا يجب الالتفات إلى أي قضية أخرى. وأيضاً أنه ليس من عدو غير العدو الصهيوني الأًمًيركي، وأن هذا العداء هو المقياس.
مع ثورتي تونس ومصر لم يثر سوى تلمس مدى انعكاس الثورات على فلسطين، خصوصا وأن السياق السابق كان يشير إلى أن «الموجة السياسية» كانت قد تجاوزت التركيز على فلسطين لمصًلحة التركيز على الديمقراطية. لكن بعد ليبيا وسورية باتت تطرح المسألة كشرط، وأصبحت مقياس مدى ثورية الثورات هو فلسطين، وأصبحت الثورات هي مؤامرة. وأصبح يظهر بأن على الشعوب أن تكفّ عن الثورة وتتوجه إلى فلسطين. لم تعد فلسطين هي مقياس مدى «وطنية» هذه النظم، ولم يطرح السؤال لماذا ظلت هذه النظم «القومية» متساكنة مع الدولة الصهيونية تحمي حدودها؟ ولقد جرى تناسي تاريخ طويل لهذه النظم )وهنا خصوصاً النظام السوري( كانت هي المعنية بسحق المقاومة، أو تدجينها وتحويل مسارها.
فجأة جرى تناسي الاستسلام «الفلسطيني»، وتدمير المقاومة من داخلها. وكيف أن هذه «المقاومة »هي التي دمرت القضية الفلسطينية، وقبلت بالدولة الصهيونية وأسقطت شعار تحرير فلسطين محلةّ مكانه شعار «الدولة المستقلة وعاصمتها القدس» الذي قزّم القضية إلى دولة على أقل من خُمْس فلسطين. وأساسا كيف جرى تقزيم قضية فلسطين لتصبح قضية الفلسطينيين، ويصبح الصراع هو صراع «فلسطيني/ اسرائًيلي .»
كل هذا التاريخ، الذي هو تاريخ تدمير القضية الفلسطينية، جرى تناسيه من أجل القول أن ما يجري هو مؤامرة ضد القضية الفلسطينية. وبعد الثورة السورية باتت فلسطين هي «واجهة الصد» عن النظام السوري. طبعا من قبل يسار لا يعرف اليمين من اليسار، وثوري لا يعرف من الثورة أولياتها، ومناضل تراخى منذ زمنً طويل. وماركسي ظهر أنه لا يعرف من الماركسية شيئاً.
هذا اللغط حول وضع فلسطين في الثورات العربية كان ينم عن جهل بما يجري أصلاً، وهو الجهل الذي سمح بأن تصبح فلسطين هي غطاء لنظام مافياوي وحشي، دمّر سورية وجيش سورية لكي يبقى حاكما. وبقاءه كان يستلزم وجود «قضية وطنية كبيرة» تغطي ممارساته. فقد نهب الاقتصاد باسم «مواجهةً اسرائيل»، و «التصدي للعدوان الصهيوني». وقمع الشعب باسم فلسطين. فلسطين أكبر وأهم وأعظم من أن توضع في هذا الخطاب.
فلسطين ليست مقياس شيء، لكنها في التحليل الأخير ستكون نتاج كل ما يجري الآن.
لكن هل غابت فلسطين عن الثورات العربية؟فلسطين روح الثورات
بعد سقوط زين العابدين بن علي خرج الشعب التونسي بشعار «الشعب يريد تحرير فلسطين .»وحين سقطت طرابلس صاح مقاتل «جايينك فلسطين». لم يكن ذلك دون معنى، رغم أن الإعلام لم يأبه للأمر. ورغم العفوية الشديدة التي حكمت الشعار والطموح إلا أنه يعبّر عن مسألة محورية، هي موقع فلسطين في سياق ثورات الشعوب التي بدأت في تونس وامتدت إلى مصر والبحرين واليمن وليبيا وسورية.
فالشعوب رفعت شعار: «الشعب يريد إسقاط النظام»، لكنها وصلت إلى شعار: «الشعب يريد تحرير فلسطين». بالتالي فإن بين إسقاط النظام وتحرير فلسطين علاقة عميقة ظهرت في عفوية الشعوب .وهذا الرابط بين إسقاط النظم وتحرير فلسطين لم يجري تلمسه من قبل «النخب» والأحزاب التي تقول إنها تريد التغيير، على العكس من ذلك كتب الكثير عن غياب الرابط بين المسألتين، وعن الانغلاق «الوطني»، وتجاهل مسألة فلسطين، وحتى إلى حد التخلي عن حقيقة أن الدولة الصهيونية هي عدو كما لدى بعض الليبراليين المتهافتين.
في سورية رفعت يافطات عديدة تعتذر من فلسطين لأن الشعب غارق في صراع مع نظامه. لأنه يريد إسقاط هذا النظام. وأخرى تؤكد بأن السوريين هم من سيحرر فلسطين. وكان واضحا بأن ضخامة الصراع مع سلطة وحشية لم ينسِ الشعب بأن هناك مسألة اسمها فلسطين، وأن هذه المسأًلة باعها النظام كما باع الجولان والإسكندرون.
فلسطين ليست أمرا عابرا إذن، وليست قضية شعب آخر، إنها قضية الشعب الذي يقاتل الآن من أجل إسقاط النظم القائمةً. وحًين رفعنا شعار «من أجل تحرير فلسطين نريد إسقاط النظام» كنا نقصد كل ذلك بدقة. فالثورة ليست ضد اشخاص أو من أجل تغيير سلطة بأخرى، لكي يبقى الوضع الاقتصادي الاجتماعي السياسي كما هو، بل هي ثورة من أجل تغيير عميق في كل هذه البنى.
لم يقاتل الشعب السوري من أجل إزاحة سلطة استبدادية فقط، ولا لتحقيق الديمقراطية فحسب، هذه الذي يمكن أن تتكيف مع علاقات ارتباط بالإمبريالية، وتكريس «المصالحة» أو «المهادنة» مع الدولة الصهيونية. فكل ذلك مظاهر لما هو أعمق، ربما كان احساس الشعب أكثر فهماً له من كل فذلكات «النخب». هذا الأعمق هو أن تحقيق مطالب الشعب في العمل والأجر والتعليم المجاني، والصحة يستلزم تكوينا اقتصادياً يفرض القطع مع التكوين الاقتصادي الذي تفرضه الإمبريالية على الأطراف ،التكوين الليبراًلي الذي يؤسس لاقتصاد ريعي يوسّع البطالة والإفقار والتهميش. وتأسيس تكوين يقوم على بناء اقتصاد منتج، يستطيع تشغيل العاطلين وزيادة الأجر وتحسين التعليم والصحة، كما يكون قاعدة متينة لدولة ديمقراطية، ولدولة قادرة على المواجهة والتحرير.
لهذا فإن هذا «الطموح» يصطدم بالضرورة بالميل الإمبريالي للسيطرة، وبالتالي بالدور الصهيوني الذي هو قوة مساعدة ودعم لتلك السيطرة. بالتالي يكون كل طموح لإسقاط النظام من أجل تحقيق المطالب الشعبية هو أساس للصدام مع الإمبريالية وأدواتها. هذا التحليل هو في عمق الوعي الشعبي، وهو الذي جعل إسقاط النظم مرتبطا بتحرير فلسطين. بالتأكيد فإن احاسيس الشعب هي اصدق من تنظيرات وفذلكات «النخب»، لهذا هًي أوضح في الربط بين العنصرين.
هذا ما حكم الموجة الأولى من التغيير عبر الانقلابات في خمسينات القرن العشرين، حيث كانت هزيمة العرب في حرب سنة 1948 واحتلال 80% من أرض فلسطين هي التي دفعت للانقلاب على النظم وتغييرها، لأنها كانت المسئولة عن الهزيمة، لعمالتها وارتباطها بالدول الإمبريالية. وضياع كل فلسطين، ومن ثم هزيمة المقاومة الفلسطينية ربطت بالتحوّل الليبرالي )سياسة الانفتاح( الذي قامت به النظم. وهو الأمر الذي بلور الوعي بالترابط الوثيق بين وجود النظم هذه وكل من السيطرة الأميركية على المنطقة والوجود ثم التوسع والغطرسة الصهيونيتين.
كان ذلك واضحا في الربط بين حسني مبارك وأميركا وإسرائيل. وواضح عند بن علي. وحتى في ليبيا حيث كان القذافًي قد أسلم مصيره لأميركا بعد احتلال العراق. وهو واضح في سورية الذي جرى تعيير السلطة فيها على قتلها المتظاهرين والرعب من إطلاق رصاصة في الجولان. وحيث تبلور الوعي بأن السلطة تحمي الحدود الصهيونية لعقود. وأنها لا تريد سوى استمرار حكمها، وحاولت مراراً التفاوض مع الدولة الصهيونية، وقررت بأن السلام هو خيارها الاستراتيجي.
هذه المسائل التي تمرّ «مرور الكرام» ترسخ في وعي الشعب. تلتقطها أحاسيسه. لهذا حين يقول إسقاط النظام لا يقصد أشخاص بل سياسات ومصالح، حتى وهو يوهَم بأن إسقاط الأشخاص سوف يؤدي إلى تجاوز السياسات والمصالح. هذا التوهم هو الذي يجعله يستمر حين يكتشف وهمه. فيعيد الكرة من جديد مصمما على التغيير الجذري.
إذن، لا يعبّر الصراًع المباشر الذي يخوضه الشعب ضد نظمه عن تجاهل لـ «القضية المركزية»، بل أنها في صلب ثورته. فليس من الممكن تحرير فلسطين في ظل وجود هذه النظم، إذن يجب إسقاطها .ولكي تتحرر يجب أن يعاد بناء المجتمع بما يجعله قادرا على ذلك. هذا هو الهدف الجوهري: كيف نؤسس لمجتمع متقدم ومتطور، ديمقراطي ويعبّر عن مصاًلح الشعب؟
هذا المجتمع هو القادر على تحرير فلسطين. وكما أشرنا فإن بناء هذا المجتمع يفرض الصدام مع النمط الذي تفرضه الإمبريالية، وبالتالي مع الإمبريالية. المسألة هنا بسيطة، إن وجود الدولة الصهيونية هو ضمن سياق ترتيب وضع المنطقة لكي لا يكون ممكنا لها أن تتوحد وتتقدم، وأن يفُرض عليها نمط اقتصادي وفئات رأسمالية تابعة تقمع شعوبها تكرسّ تخًلف مجتمعاتها، الذي هو ضروري لتحقق السيطرة ونهب المجتمع من قبل الطغم الإمبريالية.
لهذا، من أجل تحرير فلسطين نريد إسقاط كل النظم في الوطن العربي. ومن أجل تحقيق التطور والتقدم ومصالح الشعب نحن في صدام مع الإمبريالية وأدواتها القائمة في المنطقة. معادلة بسيطة ،يعرفها الوعي الشعبي دون فذلكات أو شروحات.
بالتالي،
الشعب يريد إسقاط النظم.
الشعب يريد تحرير فلسطين.
الشعب يريد هزيمة الإمبريالية.
إعادة بناء النظر إلى فلسطين
حين نقول بثورات شعبية عفوية لا بد من تلمس أحاسيس الشعب، وفهم تصوراته التي تتأسس انطلاقاً من ذلك. ولقد توضحت الأحاسيس في أكثر من شكل، لكن لا بد من صياغة التصورات من جديد .فالمسألة هنا لا تتعلق بعلاقة مع «شعب آخر»، أو مع «قضية أخرى»، بل تتعلق بالقضية ذاتها التي تجعل الثورة على النظم ضرورة.
فإذا كنا لا نرغب في النظر إلى المنطقة العربية كمنطقة واحدة، وقفزنا عن التاريخ وكل العناصر التي تكرّس ترابطها )رغم أن كل ذلك هو الذي يشكّل مخزون الشعور العميق لدى الشعب(، سنصطدم بحقيقة أن ترابطا يقوم بين النظر إلى النظم والنظر إلى الإمبريالية. حيث يبدو واضحا تبعية تلك النظم للإمبريالية وارتباطً نهب الداخل بها. وبالتالي انكشاف أن كل التكوين الاقتصادي المحًلي هو نتاج هذه التبعية.
لكن أيضا سيبدو أن وجود الدولة الصهيونية هو من ضمن ترتيبات الإمبريالية للسيطرة، فلم يتحقق الاقتناع بأنً نشوء هذه الدولة أتى لحل «المسألة اليهودية»، ولا أخُذت فلسطين لكي تقام فيها «دولة يهودية»، بل ظل واضحا الترابط بين وجود هذه الدولة والتجزئة السياسية للمنطقة وفرض نظم تابعه تحكم الدول الجديدة. هًذه الصورة التي تأسست على «نظر موحد» للمنطقة من قبل الدول الإمبريالية ،فرض ترتيب الجغرافيا السياسية فيها بما يسمح السيطرة عليها، ويمنع كل إمكانية لتطورها، هي ما يلمسه «العربي العادي»، وتؤسس فيه شعور بالترابط بين كل مشكلات المنطقة. وهو الشعور الذي كان يظهر متأججا في التضامن مع فلسطين في كل المفاصل الأساسية التي مرت بها القضية الفلسطينية .وكذلك ظهر وًاضحاً إبان احتلال العراق. وكان يجعل التمييز واضحا بين الحراك الهائل لدعم هذه القضايا «القومية»، وهزال الحراك الداخلي من أجل المطالب المباشرة قًبل الثورات التي بدأت في 71/21/
2010 في تونس. حيث لم تكن القضايا الداخلية تحظى بحراك يليق بها، لا المطالب الاجتماعية ولا مطلب الديمقراطية.
ومن ثم كان في أساس الاحتقان المتصاعد ضد النظم ذاتها، الذي كان يتغذى من الأزمة الاقتصادية العميقة التي نتجت عن نهب النظم وتسهيل نهب الطغم الإمبريالية من قبل هذه النظم. وأسّس لضرورة ألا نظل نتظاهر دعما لفلسطين دون أن يكون لهذا الفعل أثر حقيقي سوى تنفيس الاحتقان الذاتي. حيث جرى تلمّس أن دًعم فلسطين ومواجهة الإمبريالية يفترض تغيير فعلي داخلي، لأن هذه النظم هي أدوات إمبريالية وتحمي الدولة الصهيونية. فكان الربط في مصر واضحا بين النظام وأميركا والدولة الصهيونية، من خلال دور النظام ضد «القضية الفلسطينية»، ومع أميركا فيً العراق، وخطوط الغاز التي تباع للدولة الصهيونية أرخص كثيراً مما تباع محلياً. لهذا أصبح دعم فلسطين يعني تغيير النظام.
«الحس السليم» الذي يمتلكه الشعب يمسك بذلك، يتلمسه وهو متيقن منه، وهو الأمر الذي جعل فلسطين حاضرة في الثورات، ليس في الأعلام التي ترفع بل في الوعي المخزون لدى الشعب. وفي مآلاته التي تفرض أن تتشكل نظم تحمل هذا الهم الكبير، حين يفرض الشعب النظام الذي يعبّر عنه.
وسيبدو الأمر واضحا حين ننطلق من أن «تحقيق مطالب» الشعب، خصوصا تلك المتعلقة بالبطالة والأجر المتدني، التي تًفرض تغيير كلية النمط الاقتصادي القائم، وتأسيس نمط اقًتصادي يتضمن تحقيق تلك المطالب، يقوم على بناء اقتصاد منتج بدل الاقتصاد الريعي القائم )أي تطوير الزراعة كبديل للاستيراد وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وبناء صناعة تكون في أساس النمط الاقتصادي الجديد(، كل ذلك يؤسس لتصادم مع الرأسمالية الإمبريالية بالضرورة التي عملت طيلة عقود ما بعد الناصرية لتدمير ما بنُي من صناعة وتدمير الزراعة التي هي إرث تاريخي طويل في المنطقة، وتشكيل النمط الاقتصادي الريعي ذاك. وهذا يعني التصادم مع كل المنظومة التي أسستها الإمبريالية في المنطقة، طبعاً بما في ذلك الدولة الصهيونية. لهذا فإن الصراع من أجل تحقيق مطالب الشعب، التي تبدو كمطالب بسيطة ،سوف يكون صراعا ضد الإمبريالية ذاتها، ويجب أن يفُهم كذلك.
وسأقول بأن هذا الًفهم هو ما يحسه الشعب عموما، لكنه إشكالي لدى بعض النخب فقط. وإشكاليته نابعة إما من مصالح ضيقة لديها )حيث لازالت تتمسًك بالليبرالية و «حب الغرب»(، أو لتشوش فكري كبير هو سمة عامة انتشرت خلال العقود الماضية.
فقد تركّّب منطقها على «عقل أحادي» هو استمرار لمنطق القرون الوسطى، القائم على مبدأ: مع أو ضد ولا ثالث بينهما. لهذا، وهي تتخلى عن ماضيها القومي أو الشيوعي، أو في الضد من «النظم القومية» و «الحركة القومية»، في سياق التشكّل الليبرالي )أو الديمقراطي( الذي تبلور خصوصا مع موجة العولمة التي بدأت مع انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، أسست ما هو معاكسً لما كان، ضد ما كان، أو ما كانت تتوهمه عن تلك النظم والحركات. فأصبحت ضد كل الأفكار السابقة عن فلسطين، أو ضد أن يكون لدولها علاقة بفلسطين، او حتى عدم اعتبار الدولة الصهيونية عدو لها. وهي أصبحت كذلك ضد «الوحدة العربية»، مع تأسيس «وطنية قطرية»، أو أمة قطرية، في سياق التكيف مع العولمة ومع النمط الرأسمالي العالمي.
«العقل الأحادي» لا ينطلق عادة من الواقع بل من المتضادات، لهذا يؤسس الأفكار بناء على نفي الأفكار الأخرى، ويقيم السياسات بناءً على رفض السياسات الأخرى. في كل الأحوال يعبّر عن مصالح فئات تريد الانخراط في الرأسمالية، والتكيف مع السيطرة الرأسمالية. ولهذا يتكيف مع التكوين الواقعي الذي تفرضه الإمبريالية، سواء في المفاهيم أو في النظم.
من هذا المنظور باتت فلسطين عبئا على تلك النخب، وأصبح الميل لقلب السياسات التي سادت حركة التحرر العربي هو المسيطر لديهًا. في سياق معاكس لوعي الشعب. وهذا ما سيجعلها تتهمّش ،وتضمحّلّ، خصوصا وأنها لا تتوافق مع مطالب الشعب الجوهرية، التي تفرض كما أشرنا تغيير النمط الاقتصادي، وتقود إًلى التصادم مع الإمبريالية. وبالتالي سيكون كلامها عن فلسطين لا معنى له. وحيث سيكون حضورها غيابا، لأنها ليست النخب التي ستعلب الدور «النهائي» في الصراع الطبقي القائم ،وستكنس مع كل الخيارً الليبرالي.
وإذا كان الإعلام يظُهر هذا الصنف من النخب فلأنه متوافق مع منطقه. لكن الأمر هذا أدى، بالترافق مع سوء فهم للثورات ذاتها، إلى تشبث بعض «اليسار» بفلسطين ومعادة الإمبريالية لمواجهة الثورات العربية. وظهرت «النرجسية الفلسطينية» لدى بعض التيارات السياسية والنخب، التي رأت أن الثورات قد سرقت منها الأضواء. وأن الاهتمام بالثورات قد فرض غياب فلسطين، طبعا دون تلمّس حضورها العميق كما أشرنا، لأن المنطق الصوري لا يسمح بمعرفة أكثر مما يبدو على السطحً، لأنه لا يتضمن الآليات التي تسمح بالتحليل والفهم والتمييز، ومن ثم الوصول إلى الجوهر/ الأساس. فهو يمتاز بالسطحية والسكون ،وبالتالي لا يعرف الترابط والربط كذلك. لهذا فهو لا يعرف وجود فلسطين في الثورات إلا من خلال رفع العلم الفلسطيني. ولا يتلمس حضورها إلا بغياب الثورات ذاتها )كما في الثورة السورية.(
إن صيرورة الصراع تفرض حضور فلسطين بكل تأكيد، كما تفرض الصراع مع الرأسمالية المحلية والإمبريالية )بكل تلويناتها وليس مع الإمبريالية الأميركية فقط، حيث سنكون في مواجهة مع الإمبريالية الروسية كذلك، وربما الصينية(. فهي طريق تجاوز الرأسمالية أصلاً، ليس لأننا نخُضع المسألة لمنظور أيديولوجي، لا بل لأن المشكلات التي يعيشها الشعب ليس من حّلّ لها سوى بتأسيس نمط اقتصادي لا يتكيّف مع النمط الرأسمالي العالمي، بل يتناقض مع أساساته. وهذا لا يعني أن البديل هو الاشتراكية الآن كما يمكن أن يتوهم البعض، بل هو «ما قبل اشتراكي»، ينحكم لآليات «رأسمالية» لكنه يفرض أن تكون الدولة هي الأساس في التحكم بتطور الاقتصاد، لأنها وحدها من يمكن أن يقوم بتطوير الزراعة وبناء الصناعة بعد أن أصبحت الرأسمالية معنية بنمط ريعي يقوم على الخدمات والسياحة والعقارات والاستيراد والبنوك فقط. وهو السياق الذي يفرض تجاوز الرأسمالية.
لهذا يمكن أن نشير إلى أن سياق الثورات العربية يحمل في جوفه فلسطين، وهو أصلاً في تناقض جذري مع السيطرة الامبريالية وبالتالي مع الوجود الصهيوني. ومن ثم فإن كل من يشذ عن هذا السياق سوف يصبح خارج الثورات ذاتها، وستكنسه الثورات كما تكنس النظم
هذا ما يجب أن يكون واضحا. وهذا ما يجعلنا نخوض الصراع ضد النظم المافياوية من موقعنا الطبيعي ،موقع القوة المناهضة للإمبرًيالية كل إمبريالية، وللدولة الصهيونية. لأننا بالضبط نريد أن نعبّر عن مطامح الشعب، وعن ميل المفقرين لتجاوز الرأسمالية، في سياق السعي لتحقيق الاشتراكية.
صراعنا أكبر من صراع مع أفراد في السلطة، ومن مستبدين. وطموحنا أكبر من تحقيق تحسين في نظام ينهب الشعوب ويفقرها. وبالتأكيد نحن لا نخوض صراعا غرائزيا نتيجة القمع والقتل، بل نريد بديلاً يليق بالشعب، لهذا فهو يتجاوز الرأسمالية وضد الرأسماليةً، وكل مًفرزاتها المحلية والإقليمية والدولية.
فلسطين لن تكون في مواجهة الثورات العربية، لأنها في قلب هذه الثورات. و «روح الشعب» هي القوى من أوهام النخب، سواء التي رفضت المسار التحرري )الذي هو ضرورة، وهو في عمق الثورات أصلاً(، وقبلت التكيف مع السيطرة الإمبريالية للعولمة، بالتوازي مع سيطرة النخب المافياوية التي تحكم. أو النخب التي تعلقت بمعاداة الإمبريالية بشكل طفولي، ونسيت بأن الحرب الباردة قد انتهت ،وأن مرحلة الأحادية الأميركي في اندثار، وأن الثورات نشأت أصلاً نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية التي هزت بنيان النمط الرأسمالي، وبالتالي لن تكون سوى في سياق تجاوز الرأسمالية.
الشعب الذي رفع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» هو ذاته الذي رفع شعار «الشعب يريد تحرير فلسطين »