عزيز تبسي
كتب ماركس في كراس الثامن عشر من بروميير-لويس بونابرت ،في رصده وتعقبه للإنقلاب الذي قاده لويس بونابرت إبن أخ نابليون)1581(،مقدماً في سياق الصراعات بين أجنحة البورجوازية الفرنسية وخياراتها المصلحية التفضيلية ،على حل الجمعية التشريعية ومجلس الدولة وإعتقال عدد كبير من النواب وإعلان الأحكام العرفيةفي32مقاطعةونفي الزعماء الإشتراكيين والجمهوريين من فرنسا،في هذا الهجوم الإنقلابي إستعان لويس بونابرت على خصومه بجماعات هامشية من الحثالة الإجتماعية )من باعة البسطات والقوادين والعاهرات وأصحاب السوابق الجنائية والعاطلين عن العمل……(وشكلت سنداً اجتماعياً وميدانياً لإنقلابه،لم يعلم هذا النابليون أنه بهذا الدعم اللامحدود والإعتماد التام على هذه الفئة،قد كرس نفسه زعيماً للحثالة،التي رغم تدريباها على اللفظية الجمهورية وقيمها التي يجري الغدر بها،ستنسى نفسها من حين لآخر وتحيي السجق والنقانق.
لابأس من إعلان الحسد الظرفي لماركس، على حجم المعلومات التي كانت تضعها بين يده البورجوازية الفرنسية،عن طريق كتابها وصحفها وجلسات برلمانها العلنية، ليغدو النقاش مفيداً وفعالاً حين يتكئ على وقائع ومستندات، لا على التخمين والنسبية والقلق من الثقة بالمعلومة المتداولة بأن تنقلب في آخر لحظة إلى عملة زائفة. ويغدو شاقاً الوصول إلى “الصندوق الأسود” حيث تتكدس الحقائق، وربما تتلف قبل الوصول إليها.
تبقى هذه الجماعات الهامشية على مر التاريخ وفي كافة ظهوراتها على مسرحه أسيرة وضعها الإجتماعي القلق وشرطيتها البافلوفية، حيث الكلبية الجائعة والنهمة والعدوانية تطبيقها الوحيد في الشرط السوري.
رغم كل التكتم عن اسمهم، وإلباسهم أطقم اللجان الشعبية ووضعهم لشاراتها، إلا أنه وفي أول علامات ظاهرة لتبدد “آثار السكرة وعودة الفكرة” سيهتفون بعالي الصوت شبيحة للأبد كرمى عيونك يا أسد، ويطلقون في مبادرة لغوية اسم الشبيحات على الجناح النسائي منهم الذي لم تخرج عنه أفعال حربية علنية، باستثناء استعراضات نسوية مبتذلة تبين مدى الاستخفاف بقيم الانتفاضة الشعبية الثورية حين تبرزنها في موقع المؤخرة من البنطال، ممارسات هي من أركان سلوك الساقطات أخلاقياً، ويكون بينهما شبيحة المسيح كذلك على سبيل التنوع الفلكلوري الذي سمته الفاشية في واحدة من هزلياتها السوداء”الوحدة الوطنية”.
لم يكن عند هذه الحثالة حياء لتفتقده، كان عندها سجلاً جنائياً أسود ومحكوميات طويلة في السجون التي تديرها شرطة فاسدة ويراقبها قضاء أكثر فساداً، تقدمت الطغمة بكرمها المحصور بأعوانها وفتحت رتاجات الأبواب المغلقة لتطلق ما تبقى من قطيع الكواسر هذا أمام الجمهور الأعزل في الشوارع والجامعات والساحات العامة.
اكتسبت مساهمة ماركس ملمحاً مختلفاً وجريئاً، لكونها تجاوزت المحددات المألوفة التي تعتمدها مقاربات العلوم الإجتماعية التي كانت في حينها تقسم المجتمع الرأسمالي إلى ثلاث طبقات البورجوازية والفلاحين والعمال، والتي بدأت تتوضح تمايزاتها وهويتها السياسية والطبقية في سياق النضالات اليومية، والانتفاضات الشعبية…
وإن كانت مقاربة ماركس قد شكلت اجتهاداً ثورياً في بلدان الرأسمالية الأوروبية، فإن المقاربة في بلداننا لا تشكل خروجاً عن التنميط التقليدي للجماعات الاجتماعية، التي لم تكتسب تمايزاتها وتتحقق هوياتها الطبقية لغياب نضالاتها النقابية والسياسية وتواطئ أحزابها مع الفاشية الحاكمة منذ زمن طويل، والتعهد ببيع وتسويق اللفظيات الثورية والوطنية والقومية، المجوفة برمتها والفاقدة لأي مصداقية، وما تسميات العمال والفلاحين وصغار الكسبة إلا تعابير مائعة وغير دالة على تمايز اجتماعي واضح، وقد تدل على الموقع الوظيفي في المصنع أو الحقل أو الورشة المتوسطة أو الصغيرة ولا تتحول إلى تسمية مجازية إلا لحظة استخدامها للتأكيد على تمايز طبقي مدعماً بنضالات طبقية افتراضية من نمط دحر الإستعمار والرجعية والتصدي”للمؤامرات” التي بدأت مع إنقلاب8آذار 1963ولم تنتهي حتى الساعة، ليس كل تجمع يندرج تحت تسمية المجتمع، هناك خلية النحل وكومة الحجارة، وفق تعبير للويس ألتوسير.
رغم دلالات العناصر الرمزية التي تستخدم لتأكيد الهوية كالحضور الشكلي للنقابات/الاحتفال بالأول من أيار/التذكير من حين لآخر بدور الطبقة العاملة ونضالاتها العالمية وربط هذه الجماعة الإجتماعية، التي تشربت قيم الخنوع والذل والتسول “للعطاءات والمكرمات”وهي أعطيات مالية نقدية تضاف على الراتب الشهري قبل الأعياد وبعض المناسبات السلطوية التي تقوم مقام الأعياد عند أتباعها، لتسحب قبل انتهاء “فرحة” العيد بمكر التضخم النقدي وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، في أثر من التطبيق المحلي الهزلي للنظرية الاقتصادية”الكنزية”التي وصلت إلى سقفها التاريخي وفقدت جدارتها بالمراوغة بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد النقدي وردم الهوة بينهما، غالباً ما يجري ربط الجماعات الاجتماعية بتلك النضالات، لتأكيد وحدة نضالية عربية وأممية يكتفي الفرع السوري منها بيوم العطلة والتصفيق والهتاف، عند الطلب، للقائد المفدى.
لكن يبقى الأهم هو تهشيم قيمة قوة العمل والمفاهيم الناتجة عنها: الدخل-الثروة-الإبداع والابتكار-الإنتاج تراكم الثروة أو تراكم الديون، إنتاج القيم المادية والقيم الروحية، لتسويّد القيم الناتجة عن الأنشطة الريعية الطفيلية التي أخذت طريقها للسيطرة: البنّدقة والشطارة والحربقة و”المفتّح بالمازوت” لتأكيد الصعود الطبقي والوظيفي و”العلمي” دون كفاءات… كل هذا لن يعدل في حقيقة كون هذه الجماعات )الثورية في طور الكمون( هي عينها القاعدة الشعبية الخاملة في الشرط السوري، لم تساهم في تحرير الصراع من سماته المملوكية المغلقة، مكتفية بالترقب الخامل لظهور المعجزات من نتائجه، كالاستبدال البيولوجي للرئيس الراحل بابنه، كما استبدال فؤاد غازي بعلي الديك وعدنان بوظو بوجيه شويكي.
لتغدو نتائج البيولوجيا هي المدخل المأمون للتغيير مشفوعاً بالميتافيزيقيا الرجائية كأيديولوجيا راسخة للمقاومة السلبية “الله يقصف عمرو” و “الله لا يوجه له الخير” و” الله يصطفل فيه” في معاينة للمهمة المؤجلة، والتي باتت لعظمتها، في مدركات الوعي الشعبي، تستوجب قوة فوق بشرية لتنجزها.
تساءل الكثيرون والكثيرات لماذا استعانت الطغمة العسكرية بعد الله طبعاً، التي لا تلبث تذكره عند الضرورة، بالمجرمين وأصحاب السوابق والسجلات الجنائية السوداء للنيل من خصومها العزل، وتثقيل وزنها الميداني في الصراع السياسي الذي تخوضه بضراوة الذئاب ونذالة الضباع؟سلطة تحت حيازتها فيالق جرارة من قوات قمع مكتملة الشروط الثلاثة: موالية- مدربة- عديمة الأخلاق بما يكفيها للقيام بأقذر الجرائم والتضييق على الخصوم وإرهابهم. ويمكن أن يدعمها عشرات الألوف من عناصر تنظيماتها الفاشية المهيئين عقائدياً من أعضاء حزب البعث وإتحاد شبيبة الثورة…، خياراها لم يكن من الطوارئ ومستلزماتها، لقد أعد له بهدوء بما يمكن تسميته مجازاً بالتخطيط، بدأ بعفو رئاسي شمل الموقوفين من هؤلاء المجرمين وأُلحق بعفو رئاسي آخر ليشمل ما تبقى منهم، بالإضافة لقوائم عفو خاص لمرتكبي جرائم شائنة لم يشملها العفوين السابقين مشروط بالالتحاق بهذه الجماعة، وأخيراً غض النظر عن المطلوبين بجرائم وجنح سابقة وإهمال ملفاتهم واستدعاؤهم ب”ودية أبوية حنونة” لتوقيع عقود عمل مع مؤسساتها الحربية والأمنية، ممارسات تشبه استدعاء احتياط الجيوش أوقات الحرب أو حين الاستعداد لها. ليستحوذ الشبيحة دور كبسولات الفياجرا لمعالجة ترهلات الجسد العسكري المنهك بالإمتيازية الطائفية وتفييش الجنود والتهريب وسرقة طعام العساكر. توسعت الجماعة وتزايدت فاعليتها وصلاحيتها، ووضعت تحت تصرفها ينابيع مالية مهولة، إعادة بيع البنزين والمازوتوالغاز والخبز، والتحكم بالأسواق ببسطات سلع متنوعة من الدخان إلى الأدوات الكهربائية، لتغدوأشهر من حزب البعث الذي يقود الدولة والمجتمع وجبهة وطنية تقدمية.
وصل إلينا هذا الاسم من سياقات الحرب الأهلية اللبنانية ونواتجها، حين بدأت صحف بيروت في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات تشير إلى جماعات مارقة، تثير الفزع من حين لآخر بمشاجراتها الدموية، وتتعدى على القوانين العامة والحيوات الخاصة، كانت تلك الصحف تسرد تجاوزاتهم المتكررة بنوع من اليأس والتسليم القدري بنفوذهم، ربما للإيحاء أن هذه الجماعات هي المنتوج الطبيعي-الشرعي للمليشيات لحظة تضلّ هدفها السياسي قبل أن تتفسخ ويتحول فيها العمل العسكري ولوازمه إلى نمط حياة، ويحتاج لعناصر تجدد ديمومته، لتكون على حساب:
الدولة/المجتمع/الناس/البيئة… القيم العمومية.
وفي يوم سألت أخي الذي كان في المقاومة الفلسطينية، عن هؤلاء، فأجاب بحسه العملي العميق الذي لا يتناسب مع عمره: لا يستطيع أحد التشبيح في بيروت بمفرده ولا حتى كمجموعة منظمة ،مع وجود مجموعات صارمة وضاربة من أجهزة أمن المقاومة الفلسطينية )أمن71/ والكفاح المسلح( ووجود أمن خاص بكل منظمة فلسطينية ولبنانية، ما يحصل هو ممارسات متعمدة يشرف عليها كبار ضباط أمن 17وغيرهم من قادة المليشيات الكبيرة لأخذ “الخوات” النقدية من أصحاب المطاعم والفنادق والمسابح والمحلات… “الخوة” مقابل السلامة الشخصية والحفاظ على ديمومة وسائل المعيشة، وتتصارع هذه الجماعات فيما بينها على مناطق النفوذ، بمعارك صغيرة، قد تتحول لكبيرة، وسرعان ما يتدخل “الكبار” لإيقافها وإعادة توزيع الحصص ورسم حدود النفوذ … لكن أخي استشهد مدافعاً عن بيروت المحاصرة1982وتبدد جسده في شوارعها، ولا يمكن الحوار معه عن آخر تجليات الشبيحة في الحياة العامة وتوسعهم في جغرافيا بلاد الشام ،ولن أتمكن بالمقابل أن “أزف” له نبأ: أن صار للشبيحة “دولة ورجال” وعصر انتقالي يمكن تسميته بتسليم قدريّ:عصر الشبيحة.
الشبيحة منتوج عضوي لنظام الطغمة العسكرية الحاكمة وفسادها السياسي والاقتصادي وانحطاطها الأخلاقي، وبعض من قاعدتها الطائفية. شكلت الطائفية-العائلية نواتها الصلبة التأسيسية، قبل توسعها متحررة من مركزيتها، لتتعمم على البلد برمته، وتغدو السلطة العارية الوحشية للطغمة العسكرية بحيازتها قوة مالية مهولة ناتجة عن المجال الطفيلي الذي تغزوه وتوسعه بقوة الكلاشنكوف، والمسدسات المكتومة الصوت والسجون الكيدية والاحتيال المشفوع بأختام الفساد القضائي، تراكمات ناتجة من السرقات العلنية وريوع المضاربات العقارية وتهريب المحروقات والسجائر والمخدرات…الخ، انطلقت من ضباط وصف ضباط وعساكر مسرحين من الخدمة، وضمت مجموعات هامشية لا تملك أي تحصيل تعليمي أو إتقان حرفي، ما يسموا وفق قاموس العمل ب”الفعّالة” ومفردها”فاعل”، وهو تعبير محلي للدلالة على من لا يملك سوى قوته العضلية المجردة/العارية، يستخدمها في الحفر، نقل كوم تراب من مكان لآخر، رفع أحمال ونقلها… وتتوسع لتشمل عاطلين عن العمل وأصحاب سوابق جنائية من مدمني مخدرات وقتلة…، مع هذا المتحد)طغمة عسكرية-شبيحة( نكصت الدولة الرأسمالية بقيمها الجمهورية)الإفتراضية(، إلى شكلها المملوكي عديم الحياء، ووقعت رهينة أسره مكبّلة بالأصفاد تحت رحمة طلقات الكلاشنكوف الحاسمة، وفرار طويل من تعقب ومطاردات اثني عشر فرع مخابرات، تأكل من يواجهها نيئاً ومسلوقاً.
لم ينطلق هؤلاء كعضوية مميزة الهوية والأهداف مثل حزب البعث في وثبته الطويلة من مقهى البرازيل إلى الحياة السياسية، بل من البقايا المتحللة من جمعية الإمام المرتضى الفاشية الطائفية شبه العسكرية التي كان يقودها الأستاذ جميل الأسد)الذي خلّف بعد وفاته لورثته4,5مليار دولار وكميات مهولة من سبائك الذهب والمجوهرات والعقارات… دون التوصل اليقيني عن طبيعة عمل هذا الأستاذ(. والمنحلون من سرايا الدفاع التي كان يقودها العميد الركن الدكتور رفعت الأسد)صاحبة الميراث الدموي في مدينة حماة وسجن تدمر …(، بعد أزمة1984-1983ونتائج الصراع السياسي الحربي بين أجنحة السلطة السياسية، اللذين اعتادوا المغانم والسلبطة على الناس في أسواق دمشق وبيروت على وجه الخصوص، وإظهار”العين الحمراء”على الدوام والتهديد بمشاهدة “نجوم الضهر”، وإستعدادهم الدائم لاستخدام العنف في حل النزاعات، وتجاوز القوانين وأجهزة السلطة التنفيذية التي تطبقها، ليصيروا مع الوقت، التعبير الواضح عن التمازج العضوي بين القوة العدوانية العارية والسوقية المنحلة.
تشكلت ظاهرة علنية شبه حربية في المناطق الساحلية قبل أن تتوسع تنظيمياً على بعض جغرافيا البلاد، تتمول ذاتياً من الاقتصاد الأسود المتنامي وتتحصن بفساد القضاء والشرطة والأمن والإسناد العلني من مراكز القرار العليا في السلطة السياسية، لتنتج مع الزمن رمزيتها وإشاراتها الخاصة: اللباس الأسود- الذقن الطليقة-الرأس الحليق- الطول الفارع والبدانة الهرمونية- الأوشام الظاهرة على الزنود والأذرعة………انطلق هؤلاء من مطاعم طاحونة الحلاوة وسلحب وجورين وأبي قبيس، حيث التثقيف العقائدي يأخذ شكل “مازوات “مع جرعات العرق وسجائر الحشيش الثقيلة، لتغيب مع الوقت الفروقات الثانوية بين “حبيب- غالي- حقير، وهي من الأسماء الأثيرة على ألسنتهم” وتهيؤا لفرض قيمهم على المجتمع من خلال وصولهم الميّسر إلى الإعلام المركزي الاحتكاري، وحيث الثقافة انحسرت إلى ركن الغناء والدبكة، لتتحول مغنيات وراقصات ومغني ودبيكة مقاصف الغاب الغربي إلى مغني”الوطن”وقواديهم إلى أعضاء مجلس الشعب ورجال أعمال.
وليست الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية ما يعجزون عن مقاومته فحسب، بل العرق ولفائف الحشيش والسمك المشوي والكباب والترقب المتوتر لأحدث ظهورات “الحلوات” )للتربيت( على مؤخراتهن والاختبار اللزج لحدود ممانعتهن ومقاومتهن، ووضع ورقة نقدية منفئة الألف ليرة بين أثدائهن المنفرة… ولا يعرف متى بدأت مغامراتهم، أعندما رأى المغني فيالسماء ثلاث نجمات، وتبين له على وجه السرعة أن “واحدة لحافظ واثنتين لرفعت” وأعلنهاكنبوءة هادرة، وفق موال شهير جرى تداوله في أعوام84-82 في الأوساط الدنيا من المجتمع.
أم من “ضربت المرش في البيجو ماشخرت/ وراح وجع بطني مش خريت” لتتأسس وتنطلق معها أو قبلها ظاهرة اجتماعية ذات طابع عسكري حربي، أنتجت مقولاتها الشفهية وممارساتها الجنونية السوداء.
وطالما ربط الناس بين الشبيحة والأشباح وهم يسمعون الاسم ويدورونه في رؤوسهم لأول مرة ،مما شكل دافعاً للروائي السوري فواز حداد لتوضيح ذلك في فصل من روايته -مشهد عابر- لتبديد هذا الالتباس بشكل نهائي وحاسم:
“الأشباح تظهر في الليل والشبيحة في الليل والنهار، الأشباح مشكوك في وجودهم، الشبيحة لاشك في وجودهم. الأشباح يظهرون للقلة، الشبيحة يظهرون للجميع. الأشباح تخيلات غير
حقيقية، الشبيحة واقع حقيقي.”
لكن بالتدقيق في الوقائع أكثر، يمكن رد الأساس التكويني لهذه الظاهرة إلى حزمة من العناصر المتحدة، بدايتها البنية القمعية للطغمة العسكرية الحاكمة، المحروسة من بواكيرها بمظلة سياسية- حقوقية: قانون الطوارئ- الأحكام العرفية- المحاكم الاستثنائية- المحاكم الميدانية- المحاكم العسكرية للمدنيين، حظر الصحافة والأحزاب والعمل النقابي…، بذلك ألغيت أي إمكانية للمراقبة والمحاسبة، وزاد تمحور الطغمة العسكرية حول أقلية طائفية من تعقيد آليات إعادة الاعتبار للسلطة العمومية، واستكملت بتهميش الدولة ومنظومتها الحقوقية والأخلاقية بالتجاوز المنهجي للقوانين العامة والسخرية منها، بدًءً من قوانين السير وامتطاء ظهر القضاء وإنتهاًءً بالسرقات العلنية للأموال والممتلكات العامة والخاصة والتعدي على التراث الوطني من آثار ومتاحف وغيرهما واختطاف الفتيات وطالبات الجامعات وإرغام صناعيين وتجار كبار على توقيع عقود شراكة مع ضباط كبار كان أبرزهم قائد سرايا الدفاع وزبانيته، قبل أن تكر السبحة وتنفرط خرزاتها، وعدم تعرض الفاعلين للمحاسبة، باستثناءات قليلة تحصل من حين لآخر تأخذ شكلاً انتقائياً بات معروفاً ب”أكباش الفداء” يظهر حدود المعالجة الضيقة وعدم جدواها في تطويق ظاهرة الفساد الإداري والمالي والعسكري والأمني التي بدأت تتوسع معاً، لتغدو نمط جديد من شكل الحكم الاستثنائي المتجدد.
باكراً عجزت لجنة محاربة الكسب غير المشروع في عام1977، أي بعد أقل من سبعة سنوات على الحركة التصحيحية، خرجت من عجزها وفشلها أنماط سخرية شعبية مؤلمة “من يحاسب من؟” في إشارة إلى عمومية اللصوصية في بيروقراطية الدولة المدنية والعسكرية، و “لا منحاسب ولا منتحاسب!!” في إشارة أخرى للسان حال البيروقراطيين الفطنيّن والمرشحين لأن يكونوا “أكباش فداء”، فشلت هذه اللجنة في تحقيق أهدافها المتواضعة وبزمن مبكر، أمام التوسع المهول للفساد ووصوله إلى مراتب عالية لا يمكن أن تحاسب، وقد عنى ذلك للناس جميعاً تشريعاً للفساد المدمج بنمط دولة الطغمة العسكرية، وتخفيض مستوى عقوبته الجنائية وأثره الأخلاقي.
ويمكن الاطمئنان إلى تاريخ أوضح، الدخول العسكري إلى لبنان 16حزيران1976، والسيطرة على الطرق الدولية والمحلية وعلى مرفأ طرابلس، حيث تحول التهريب إلى مؤسسة قائمة بذاتها، أشرف عليها كبار الضباط في الجيش والأجهزة الأمنية وتعاونت معهم منظمات لبنانية وفلسطينية، اشتهر منهم قائد منظمة الصاعقة زهير محسن الذي اشتهر بزهير عجمي، نسبة لمستودعات السجاد العجمي التي سرقها بالشراكة مع رفعت الأسد ونقلاها للبيع في أسواق دمشق والخليج قبل أن تغتاله مجموعة فلسطينية وهو يقوم بواجبه الوطني في أحد صالات القمار في مدينة كان في الجنوب الفرنسي 25تموز 1979، وغدت الخدمة في لبنان فرصة لجني ثروة، وأخذ النهب المنظم واستباحة الأملاك العامة والخاصة وإعادة التذكير بالسبايا من النساء والفتيات والغلمان، شكلاً من أشكال المكافئة على الولاء والالتزام بالشكل البين للخيانة الوطنية ،نمط من رشوة كبيرة كانت ثمناً للامتثال لخيار الطغمة العسكرية، الذي أخذ الأسلوب الحربي في العدوان على الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية وقاعدتهما الشعبية في المخيمات والبلدات اللبنانية، واستمرت فيما بعد بنقل البندقية وسيارات “الزيل” المخصصة لنقل الجند والمسروقات، من كتف بيروت الغربية الوطنية إلى بيروت الشرقية الفاشية… وفتح كل المنافذ الحدودية لنقل المسروقات والمهربات وبيعها في الأسواق السورية الجائعة للسلع الاستهلاكية ،والمساهمة في إدارة المرافئ البحرية الحكومية، ومشاركة تلك التي أنشأتها الميليشيات ووضع اليد على المطار الدولي، والتوسع في حماية زارعي الخشخاش وصانعي المخدرات وتزوير العملات وتسويقها، وتبييض الأموال في المصارف الخاصة، مما دفع الكثير من التجار الكبار على شحن بضائعهم إلى مرافئ بيروت وإدخالها تهريباً للسوق السورية لتخفيض مكوس الجمارك واللعب في مواصفات البضائع وصلاحيتها والتفلت من قوانين المقاطعة المفروضة على بعض الشركات، قبل أن “تتنبه” البيروقراطية المدنية لذلك وتقدم تسهيلات أفضل في الموانئ السورية. وبعدها سيتداول السوريون )في النصف الثاني من السبعينات( مرويات لا تنتهي عما يحصل في مرفأ اللاذقية البحري، مرة عن فقدان “مدحلة وبلدوزر” ومرات عن فقدان حاويات بضائع بكاملها و”تراكسات”، في إشارة للسرقات المهولة التي تحصل في وضح النهار وأمام أعين الموظفين الحكوميين “حماة القوانين العامة”، لتعرض بعد حين البضائع ذاتها على أصحابها أو منافسيهم لشرائها بأسعار بخسة.
أفصل بين الشبيحة والطغمة العسكرية، بما يفيد في إنتاج مقاربة نسبية لوضعهم، وهو في عمومه فصل تعسفي، غير محقق في الواقع وربما غير مجدي، لكونهما يشكلان توأماً سيامياً غير قابل للفصل.
مشاهير قادة الشبيحة، أو معلميهم، هم من الضباط الكبار وأعضاء في مجلس الشعب، ويمكنبجردة حسابية بسيطة التحقق من أن تمثيل الشبيحة في هذا المجلس يفوق أحزاب الجبهةالوطنية التقدمية عدا الحزب الذي يقودها، وبلغ أكبرهم رفعت الأسد موقع نائب رئيس الجمهورية، ويديرون منذ زمن بعيد شركات احتكارية كبرى مثل -شركة الساحل-، التي تقوم عن جد لاعن هزل ب”التخليص الجمركي”وهو بعمومه إخراج البضائع من المرفأين الحكوميين الوحيدين بأقل ضرائب جمركية يحصلها صندوق الدولة ووزارة المالية، حالة أشبه بالتهريب لكن بشكل أكثر ضماناً للتاجر أو الصناعي، ومن لا يلتزم بهذه الشركة ما عليه إلا قراءة الفاتحة إن تثنى له ذلك على “روح” بضاعته.
وعمل آخرون على احتكار بيع الرمل البحري، بعد أن اعتبروه ملكية خاصة لهم وبأسعار يضعونها بموجب مصلحتهم الضيقة ويعممونها على كافة شركات البناء والمقاولات، واعتبر الكثيرون من المتابعين أن عائدات بيعه تفوق صافي عائدات حقل نفطي، وساهم غيرهم في الاستيلاء على الأملاك العامة وهي بعمومها أراض وغابات طبيعية بافتعال حرائق فيها وتحويلها إلى رماد، قبل أن تأتي الجرافات وتسوي تربتها… وطالما تسألنا نحن من يتتبع هذه الظاهرة، متى سينتهي هؤلاء من مرحلة التراكم البدئي أو الأولي لرأسمال التي شهدت وفق ماركس أبشع أشكال الاستغلال ووحشيته، أم هي مرحلة تراكم أولي مستمرة، لن تنتهي إلا بنهاية هذا النمط الوحشي من النهب المتحد مع التدمير.
وسيكتشف الكثيرون من “المعلم-ين “ويمكن اعتبارها التسمية السورية “لعراب- ماريو بوزو” خفايا روحه الرياضية والفنية السمحة بعد تكديس مليارات الدولارات في المصارف الأوروبية وضرورة التواصل مع قاعدة اجتماعية جاهزة، ليحتلوا مواقع الشرف في الأندية الرياضية وشركات الإنتاج التلفزيوني واتحادات الألعاب الرياضية الفريدة كالتنس والفروسية والسباحة … في أشكال لتبييض السيرة الذاتية وإعادة إنتاجها، لطالما استخدمتها ومنذ زمن بعيد المافيات الأميركية والإيطالية والكولومبية وغيرها.
ينبغي كشف السر والتصريح به، الطغمة العسكرية لم تتحجب خلف الشبيحة، لأنها هي عينها الشبيحة. هي من وفر الشروط المناسبة لإنتاجهم وحمايتهم وتسليحهم وتسويقهم، وخيار الشبيحة السياسي الذي تكتبه على جدران البلدات والقرى التي تدخلها “الأسد أولا أحد” أو “الأسد أو نحرق البلد” والرسالة التهديدية الشهيرة التي أرسلت على الهواتف المحمولة بعد انطلاقة الانتفاضتين الشعبيتين في تونس ومصر وقبل أن 18 آذار هم من أرسلها ومن شركتي الاتصالات التي بحيازاتهم والتي تبدأ بسخرية من محمد البوعزيزي وكل من أضرم النار بجسده احتجاجاً على وضعه المعيشي وفداًءً لكرامته الإنسانية المهدورة والمنكل بها، وتنتهي “نحرق أنفسنا والبلد… فداء للقائد”، هو خيارها ذاته ولا بديل لها عنه، خيار القوة المهيمنة منها، القوة الأكثر رجعية وطائفية وفاشية.
تتحجب السلطة السياسية خلف هذه الأشكال في الشروط التي هيئتها للسيطرة المطلقة والتي تفرض السكون على الحركات الاجتماعية، لتعيد إنتاج وتثبيت مالا يمكنه صموده أمام انطلاق الصراعات السياسية الحادة، حين لن يتوفر لها إظهار الحياد الشكلي.
ولهذه الطغمة العسكرية تجارب سابقة في افتعال مشاكل أو غض البصر عن مؤشرات انفجارها بين جماعات أهلية محلية والتمكن من تقنية زراعة العداوات والضغائن والتدخل لحلها بحصاد الولاءات، ولإعادة إنتاج شبكة العلاقات المحلية وتصليبها، وتذكير بموقع الهيمنة الذي تحوذه ودعوة الآخرين إلى احترامه وتقديسه )صراعات البدو والدروز في السويداء/الإسماعليين والعلويين في القدموس ومصياف/الأكراد والعرب في القامشلي والحسكة/الصدامات الدورية للعائلات والعشائر المافيوية في حلب: بري-حميدة/العساسنة-البقارة/الماردل-العرب/البطوش-العقيدات/…
تشكل هذه المجموعات العسكرية، حائط صد عن السلطة والقيام ببعض وظائفها الأكثر قمعية ووحشية، لكنها من جهة أخرى وباستمرار حالة الصراع السياسي وتصاعده تؤسس أعمالها موضوعياً المقدمات العملية لتفكيك دولة الرأسمالية الكولونيالية، وفي أفضل الاحتمالات اختزال وظائفها بامتلاكها موارد مالية مستقلة قابلة للتوسع على الدوام على حساب الاقتصاد الحقيقي ومداخيل الدولة الضرائبية، مما يؤسس موضوعياً لإنتاج استقلالية نسبية عنها، تتحول تدريجياً إلى شريك فعلي، وعلني للسلطة من داخلها وخارجها.
رغم الرغبة الدائمة عند الطغمة العسكرية للتنكر لما يمكن اعتباره منتوجها –طفلها- ولا يمكن إلا أن نعتبره شكلاً مستحدثاً من أشكال تقسيم العمل، يتكفل الطرف الأدنى بتنفيذ الخيارات الأكثر تطرفاً )بالمعنى الشامل للتطرف، أقصى درجات النهب والسرقة، والعدوانية على الآدمية، إيقاع أقصى أنواع العقوبات بالخصوم، والتفلت من المحاسبة( حيث يحققون بتوفر هذه الحزمة من الحصانات، الشكل الأكثر رجعية وعدوانية وفاشية في مشروع السلطة ويغتنمون بالمقابل منها موضوعياً وظائفها الأخرى: الحقوقية- القضائية- الإدارية-المالية… ومما سيظهر بسرعة تراجعاً في أدوارها الاجتماعية-الحمائية في قطاعات التعليم والصحة والخدمات العامة وتوفير فرص العمل… ودعم بعض السلع الضرورية.
التطاول الدائم على مواقع السلطة العمومية والتوسع على جغرافيها، وهي شكل من أشكال تخصيص متطرف للدولة، وقضم متواصل لوظائفها مقدمة موضوعية لإسقاطها وتدميرها، لم يتصور أحد حتى في أشد الكوابيس سواداً أن تسقط دولة ما بعد الإستقلال في أيدي عصابات مافياوية سميت بعجالة: الشبيحة.
الخيار الثوري الشعبي
إن المواجهة الحاسمة والنهائية مع الطغمة العسكرية ومنتوجاتها الاجتماعية هي عينهاالمواجهة مع عموم الأشكال السياسية التي تواطأت وتحالفت وحجبت الحقائق عن التوسعالطفيلي الريعي الاحتكاري للطغمة العسكرية ولغرورها الطائفي الأرعن، وتحويل البلد إلى مزارعومقاصف خاصة، وحقل للنهب المنظم. وفضح الحدود السياسية لوعود “أبواق أريحا” أمام أسوار الفاشية العالية والمحروسة بالجريمة المتوثبة، والتمسك المشبوه بالانحياز العميق للفاشية، وهم يروجّون لتفعيل ماشبه لهم نضالات “برلمانية”أمام غمرة الإعصار الشعبي الثائر.
تبقى موضوعة السلطة السياسية، فهمها ومراقبتها وتحديد قوتها، هي الموضوعة التي تستحوذ على كل مقاربات علم السياسة وعموم المقاربات السياسية اليومية، ويتفعل الكتمان وحجب المعلومات والقمع كأسس متينة لتعقّيد إدراك الموضوع وحجبه بطبقات سميكة من التضليل ،حواجز تقف في وجه من يريد الوصول إلى المراكز العصبية للطغمة العسكرية والآليات التي تعمل بها. رأينا وسمعنا الكثير من المتظاهرين والشهود والعساكر يقولون: إن الشبيحة وبعض التشكيلات العسكرية الخاصة )الفرقة الرابعة ومخابرات القوى الجوية على وجه الخصوص ( هم القوة القمعية الأكثر عضوية وصلابة في تمثلهم للعدوانية البهائمية الفاشية للطغمة العسكرية عن كل ما عداهم.
ملحق
من هم أصدقاء”الشعب” وكيف يحاربون المعتقلين السياسيين؟الجناح الخاص بالسياسيين أثناء سجن حلب المركزي الانتخابات الرئاسية15 كانون الثاني8-شباط 1985 حين طلب رئيس المفرزة الاستعداد للمشاركة في التصويت الانتخابي الذي بات يحمل اسماً بدلالة دينية مزيفة “المبايعة”للرئيس القائد، المرشح الوحيد للرئاسة. شكّل يومها وما تلاه من أيام ،استهلالية الدخول في الاحتكاك الأول مع رهط من المجرمين الجنائيين، والذي يقودهم”محمد بظت”، وهو سجين بتهم مختلفة منها الشذوذ الجنسي السلبي وتعاطي المخدرات وترويجها ،أضافت له إنجازاته في السجن: العمالة بالتجسس على زملائه السجناء و يعرف من خلالها ب”العوايني”من المعين، أو العين، التي ترى منها إدارة السجن، عموم السجناء، وتحصي أنفاسهم وتضبط حركتهم، ويحظى بإذن خطي من مدير السجن يسمح له بالتجول في عموم الأجنحة لبيع حبوب المخدرات وتأجير التلفزيونات…
استعانت المفرزة الأمنية وإدارة فرع الأمن الذي يقودها بمجموعة من المجرمين، لبث الرعب والإحباط في صفوف مساجين عزل ومنهكين… فقد سيروا في مسيرات بممر الجناح الطويل كأنهم في ساحة عامة، أو جادة عريضة يعلوهم “محمد بظت”هاتفين معه، ومرددين خلفه “بالروح بالدم نفديك ياحافظ”… ويختمونها ب “فرحنا يابو سليمان”، لكونهم انتظروا عفواً يأتيهم بعد انتهاء البيعة، و توجب الوقوف على السجناء ب”استعداد” وفق التعبير العسكري فور دخولهم الزاعق الممر الطويل، وباتوا يوشون للإدارة بكل من لا يقف ولا تكون وقفته مستقيمة، لتقوم الإدارة بمعاقبته، ويهتف” أبوجمعة” الجلاد الشهير في شعبة الأمن السياسي: هاد الشعب ما نقدر عليه ،ولا نقدر نوقفه عن الهتاف. في إشارة إلى المجرمين والجانحين والأحداث الهاتفين بأثر حبوبالهلوسة التي يتعاطونها ويبيعهم إياها”محمد بظت”لاغيرها.
انتهت الهزلية بنتيجة أنه لم يفرج عن اللذين قبلوا بالتصويت من السجناء السياسيين )وهم أقلية خنقها اليأس(، ولاعن اللذين رفضوا التصويت بحزم، ومعظم الذين هتفوا مع”محمد بظت” لم يشملهم العفو الموعود، لكونه استثنى الجرائم الشائنة.
وهذا من بعض عجائب الطغمة العسكرية، وهو ما سيتكرر في جميع السجون، حيث فقدت أعداد غير قليلة المعنى القيمي والرمزي للاعتقال السياسي، مادفعت بعضنا إلى نقد العقلانية الهيغلية، في غير أوان النقد، التي حققت تعيينها التاريخي في الدولة الرأسمالية، سحرنا يومها بهيغل وتناسينا اللاعقلانية الجنونية الرأسمالية التي عبأت الشعوب الأوروبية وساقتهم كخراف إلى أكبر مسلخ بشري في الحربين العالميتين الأولى والثانية، بصعود دموي للفاشية والنازية ،والعدوان الإمبريالي البهائمي المستمر على شعوب الأرض “غير المتمدنة”، وقذفها في وجوه الشعوب اللاهثة بالاستقلال، كمختصر لنمط تاريخي يأتي معه بالحرية والمساواة والعدالة ،بأنظمة عميلة ورجال صنعتهم بجينات كلاب الحراسة، ليلبسوا في عجالة السراويل المحلية وقلنسوتها.
ملحق ثان
سجن دمشق المركزي-الجماهير”العفوية” تحيي قائدها المفدى السجين “رسول الجوجو” من بلدة سرغايا، معتقل بتهمة الانتماء لحزب البعث الموالي للنظام العراقي الشهير مخابراتياً “اليمين المشبوه”، ولم تدارك مسألة شبهته طيلة خمس وعشرون عاماً من 1966 2991-ليغدو يميناً صافياً أو بعثياً من أنصار القيادة القومية… حدثنا هذا الرجل وهو بعثي سلطوي كذلك، دفعته الحاجة المادية ليعمل مع الجماعة العراقية التي لا تبخل على أعضائها بالمال، مما شكل في داخله حالة من الازدواجية الفريدة: قابلية حزب البعث للقسمة على اثنين.
حدثنا عن خضوعه لسلسلة من دورات التدريب المسرحي في المسرح العسكري، ساهم فيها مجموعة من كبار رجال المسرح السوري ونقاده، لإعداد هؤلاء الرجال أصحاب الأشكال الغريبة ومخارج الحروف السوقية… و لم يتمكنوا رغم خبرتهم وفراستهم من التنبؤ بمكان عمل هؤلاء المتدربين فور تخرجهم من هذه الدورة.
كانت المهمة التي يكلفون بها دوماً، واحدة لم تتغير، الحضور إلى كافة المؤتمرات الجماهيرية بألبسة شعبية متنوعة فلاحين أو عمال أو باعة متجولين للإيحاء بأهمية القاعدة الشعبية للسلطة، التي تستحضرها بألبسة تنكرية، ويدخلون بموجب بطاقات خاصة وتعليمات صارمة للجان المراقبة الأمنية بتسهيل دخولهم وجلوسهم، يتوزعون في أربع أطراف القاعة باستثناءالمقاعد المخصصة لرجال الدولة الكبار الذين يقودون الدولة والمجتمع وجبهة وطنية.
وحالما يبدأ المهرجان الخطابي يتبادلون الوقوف والجلوس لإلقاء أبيات من الشعر العامي أوالفصيح، كانوا قد دربوا عليها جيداً، لذكر الإنجازات الخارقة للقائد الفذ من مثل دوره في زيادة