خواطر وتداعيات في زمن الكورونا
مفيد نجم
يعيدنا الطوفان الكوني للوباء الذي أدخل العالم في غرفة العناية المشددة إلى السؤال الأول عن الأسباب التي جعلت الوعي الوجودي المبكر للإنسان كما تجلى في المرويات الدينية وأساطير الشرق بهذا البعد التراجيدي الذي كان يحتاج دائما إلى مخلص ما لإنقاذ الحياة والإنسان على هذه الأرض من ما فعله الإنسان بنفسه وبأخوته البشر. من أول دم أساله قابيل وحتى طوفان نوح العظيم وصرخة المسيح على صليب آلامه ما زال هذا الوعي التراجيدي مقيما في الذات والحكاية، يعيد بناء فصولها على هذا النحو أو ذاك وكأنه ابن الحكاية البشرية الذي لا يريد أن يفارق متنها وقد استحوذ على بطولتها بلا منازع قاتلا وقتيلا.
والسؤال الذي يستعيدنا في كل مرة لماذا كان هذا الوعي الوجودي المأساوي سابقا على أي شكل آخر من الوعي، ولماذا لم تستطع الديانات أن تمحو أثره بل أضاف إليه أبناؤها الكثير من الدم في حروب لم تتوقف إلى اليوم حتى بين أبناء الدين الواحد، ليأتي العصر الحديث ويقول بأن الحياة للأقوى وتبدأ معها حروب السيطرة من جديد على العالم، حتى تحول العالم إلى ساحة اختبار لحدود هذه القوة وطغيانها وقد تسلحت بكل أنوع الفتك والقتل الحديثة.
الشعور بالتفوق للقوة الغاشمة لم ينته عند حدود البلاد الأضعف وإنما وصل إلى الطبيعة التي تحولت بدورها إلى ضحية أخرى في هذا السياق الكارثي المنفلت من أي ضوابط أخلاقية وإنسانية، وصلت في اندفاعها الجنوني إلى الفضاء والكواكب الأخرى، وكأن العالم لم يعد يكفيهم لإشباع نهمهم وتأبيد سلطة القوة والهيمنة. فهل أراد الوباء الزاحف بقوة وشراسة أن يعيد أصحاب هذه السياسات المجنونة إلى الأرض ويسخر من وهم القوة وجنون العظمة الذي يتلبسهم وهو يكشف كيف أهملوا الإنسان وتركوه لمصيره العاري في مجتمع باتت تحكمه قيم المادة والاستهلاك. فكم نوحا سنحتاج لينقذنا من هذا النزوع الجامح للعدم، وكم مسيحا علينا أن نرفعه على خشب الصليب لمغفرة الخطايا.
إنه السؤال الوجودي الأكثر رعبا وهو يتجدد في كل مرة يجد الإنسان نفسه فيها عاجزا ومهزوما أمام النتائج الكارثية لما يفعله أباطرة الحروب والثروة الذين استباحوا كل شيء في العالم. لماذا إذا يرتجف العالم هلعا في مواجهة هذا الخطر الداهم للفيروس الغامض والشرس؟ آلأن هذا الفيروس أراد اختبار حدود القوة لتلك البلدان الأكثر قوة اقتصادية وعلمية وعسكرية، وفضح كيف لُفظ الإنسان في مجتمعاتها خارج مفهوم الاستثمار المربح لرأس المال الجشع والمرابي، كما تجلى في ضعف السياسات الصحية وعجزها عن تأمين وسائل الانقاذ لضحايا هذا الوباء القاتل، في حين يغالب نوح القابع في المختبرات وغرف الإنعاش الزمن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرواح البشرية، بينما لا تزال أكبر قوة في العالم تتخبط في مواجهة هذا الطوفان الوبائي لكي لا تتوقف آلة الرأس الجهنمي عن الدوران وتفقد موقعها في هرم السيطرة على العالم، ما جعل الرئيس الجالس على قمة هذا الهرم الأعمى لا يتوقف عن اتحاف العالم بحلول مضحكة تشي بالإفلاس الأخلاقي، ما دامت هذه القوة العمياء لسلطة المال والهيمنة ونهب العالم اعتادت على فعل ذلك في أماكن كثيرة من العالم، وقبل هذا مع سكان بلادها الأصليين الذين بنت مجدها على محو وجودهم بالقوة نفسها.
قد يكون من المفارق أن هذا الوباء القاتل الذي فتك بالدول الأكثر تقدما وحضارة لم يجد ما يفعله في بلاد قابيل أكثر من ما فعله الطغاة بشعوبها المنكوبة، لذلك لم يحاول أن يختبر قوته وهو يـتأمل مصائرنا الحزينة المتروكة لعبث الطغاة بها.
***
كم مرة إذا سيكون على البشرية أن تستعيد الحكاية، وكم مرة سنحتاج لمثل هذه اللحظة الكونية العاصفة لكي نفتح أعيننا على اتساع الرعب الذي نعيشه وقد تركت مصائرنا في مهب أطماع أباطرة المال المتوحش الذين حولوا العالم إلى سوق استهلاكي شره لا يشبع وساحة حرب لا تتوقف من أجل السيطرة وتكديس الثروات بعيدا عن أي وازع أخلاقي، حتى أصبحت مراكز الثروة والمال تقيس أرباحها بالساعات وكأنها عداد مجنون يريد أن يسابق الزمن في سرعته. ولذلك كان بدهيا أن تعمل ثقافة الاستهلاك في هذه المجتمعات على استبدال الجيتو المعروف الذي تأسس عليه زمن الحداثة بالجيتو الجديد استهلك إذا أنا موجود. لقد أصبح العالم مثل قطار مندفع بقوة وقد تعطلت مكابحه دون أن يهتم أحد لمصيره أو لمصير من هم بداخله. وهكذا فشلت مؤتمرات المناخ في بلورة أي سياسات لوقف التدهور الخطير في أحول المناخ والطبيعة، كما فشلت في خلق أي فرص للتنمية المستدامة في البلدان الفقيرة التي نهبتها وما زالت بعد أن سلطت على شعوبها حكاما مأجورين وقتلة، وأشعلت فيها حروبا لا تتوقف، في حين تحولت الديمقراطية التي كانت المجتمعات الليبرالية تتباهى بها إلى لعبة في يد رأسمال المال والشركات الكبرى التي أصبحت تتحكم في صناعة الرأي العام، ما جعل شخصية مهووسة بالمال والقوة مثل رونالد ترامب تصبح رئيسا لأقوى قوة في العالم لكي تواصل اندفاعها المحموم للبقاء على عرش القوة والتحكم بمصائر العالم.
في هذه المتاهة الكونية التي وجد العالم نفسه محاصرا داخلها كان لابد من عمل شيء لاستعادة التضامن الإنساني بعد أن غاب التضامن بين الدول والرأسماليات التي أراد كل منها أن ينجو بنفسه وليكن من بعدها الطوفان. وفي حين ينشرنا البعض من السياسيين والفلاسفة بأن العالم بعد كورنا لن يكون ما قبله تأتي الأفكار التي طرحها الشاعر نوري الجراح في مقالته التي حملت عنوانا دالا عن نوح وطوفان الوباء قيمتها المعنوية من خارج سياق طغيان حسابات الربح والخسارة لقوى الهيمنة الكبرى بغية استعادة المبادرة من قبل الكتاب والمفكرين والفنانين على اختلاف أعراقهم وجغرافياتهم وثقافتهم لكي لا نواجه طوفانا آخر وبأسماء جديدة على غرار ما تواجهه البشرية الآن.
احتفل المنتصرون في الحربين الكونيتين على أنقاض بلاد كثيرة وعشرات الملايين من الضحايا والمعوقين وملايين أخرى من النساء المغتصبات (خمسة ملايين امرأة اغتصبت في ألمانيا وحدها من قبل جيوش الحلفاء والسوفيات)، وجرى اقتسام العالم وتوزيع الغنائم على المحتفلين بالنصر. لا جديد إذا منذ قابيل ونوح وأحلام الإمبراطوريات القديمة والجديدة وبدلا من أن تتم إعادة ترتيب سلم القيم الإنسانية في العلاقات الدولية تم تأسيس نظام دولي قائم على المحاصصة وسلطة القوة من مجلس الأمن إلى هيئة الأمم المتحدة والبنك الدولي وسواها من أنظمة التحكم والسيطرة العالمية. إذا ما الذي سيتغير في العالم إذا كانت الرأسمالية المتوحشة التي ستحكم بعد العالم بعد الوباء شيوعية أو رأسمالية، وما الذي سيطرا على وضع الضحية الإنسان في عالم يزداد فيه توحش رأسمال ومحاولات السيطرة على العالم.
بعد الحرب الكونية ما الذي فعله مشروع مارشال على سبيل المثال غير تنمية الرأسماليات الأوربية لبناء شراكات جديدة في مواجهة المد الشيوعية وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة وهيمنتها على المعسكر الرأسمالي الذي أنشأته لهذه الغاية وما زال محكوما بنفوذه المالي والعسكري والسياسي. ما العمل إذا هذا هو السؤال الكبير والملح قبل كورنا وبعده. ما العمل لاستعادة المبادرة لبناء تضامن إنساني بين النخب الخيرة وصاحبة الضمير الحي في مواجهة غطرسة القوة ورأسمال المتوحش وتسليع كل شيء بما في ذلك الإنسان. هذا هو الامتحان الذي يستوجب موقفا إنسانيا يؤكد إن طوفان هذا الوباء لم يكن سوى نتيجة لطوفان آخر أكثر همجية وخطرا على مستقبل الإنسان وحياته يجب أن لا يبقى يتحكم بمصائر البشرية، خاصة وأن هناك معركة أخرى تجري على هامش المعركة مع الوباء هي معركة مراكز القوى الدولية التي تعمل على توظيف المعركة الأولى لتحقيق انتصارات على بعضها البعض دون أي حساب للآثار الكارثية لهذا الوباء على الإنسان والحياة في العالم بعد أن انكشفت استثمارات رأسمال حتى في المجال العلمي والطبي في مجتمعات كانت تعتقد أن حياتها مؤمنة ضد الأخطار.
كاتب من سوريا مقيم في برلين