دمشق-العدد4-5-محمود الحمزة
منذ أن بدأت الثورات العربية في تونس ومصر في يناير – فبراير 2011 أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في ألمانيا بأن هذه «الثورات» غير مرحب بها في روسيا.
ومن الجدير بالذكر موقف شيخ المستعربين الروس والدبلوماسي المخضرم الأكاديمي يفغيني بريماكوف الذي صرح في بداية الربيع العربي بأن هذه الثورات ناتجة عن أسباب داخلية وليست مؤامرة كونية.
وأكد بأنها ليست إسلامية وإنما يحاول الإسلاميون الهيمنة على هذه الثورات. والملاحظ أن الروس لم يأخذوا موقفا عدائيا من الثورتين التونسية والمصرية بالرغم من أنهم كانوا ينسقون مع حسني مبارك وأرسلوا إليه أًلكسندًر سلطانوف نائب وزير الخارجية الروسي والمبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط، والتقى بمبارك قبل يوم من تنحيه وواضح أنه أبلغه دعم القيادة الروسية له. أما الأمر فاختلف مع الثورة في ليبيا وتدخل الناتو. فقد اعتبر الروس أن الغرب قد خدعهم في تمرير قرار بالحظر الجوي على ليبيا لمنع القذافي من ارتكاب مجازر بحق الليبيين المنتفضين ضده وخاصة في طرابلس ومصراتة وبنغازي.
وحدث ما حدث وتم إسقاط القذافي وقتله. وبالمناسبة حدث خلاف حقيقي في النخبة الروسية من الوضع في ليبيا فالرئيس الروسي آنذاك – ديمتري ميدفيدف – المعروف بتوجهاته الليبرالية وافق على امتناع روسيا عن التصويت ضد قرار في مجلس الأمن فتم تمرير القرار والذي أدى إلى إسقاط نظام العقيد القذافي. وحينها نتذكر انتقاد السفير الروسي في طرابلس لميدفيدف بأنه خان مصالح روسيا بعدم استخدام الفيتو لمنع إسقاط القذافي.
ونذكر أيضا كلمات بوتين الذي سمى حملة الناتو في ليبيا بانها حملة صليبية. وهنا شعر الروس بأن الغرب لا يتوقف عن استخدام القوة في إسقاط أي نظام، ولكنه يحتاج إلى غطاء قانوني دولي. وعندما بدأت الثورة في سورية اتخذ الروس قرارا استراتيجيا بالتحالف مع نظام بشار الأسد وإيران لمنع إسقاط نظام الأسد بالقوة من الخارج لكي لا يصبح طريقةً دارجة في العلاقات الدولية تهدد الأنظمة الديكتاتورية وهي كثيرة، من إيران إلى كوريا إلى دول في آسيا الوسطى ووصولاً إلى القوقاز.
ومن المفارقات أن العلاقات السورية الروسية )الاقتصادية والسياسية والتجارية( كانت ضعيفة قبل اندلاع الثورة ومع ذلك شعر الروس بأن دمشق هي خط الدفاع الأول عنها وعن إيران حليفتها الأساسية ضمن الهلال الشيعي الذي يفضله الروس لعدمخطورته – كما يعتقدون – على إثارة المسلمين في الداخل الروسي.
فأسباب الموقف الروسي السلبيمن الثورة السورية متعددة: منها ما هو متعلق بشخص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أراد أن يثبت للغرب أن روسيا دولة عظمى، وأن على الغرب مراعاة مصالحها ومصالح حلفائها، وخاصة الصين ودول بريكس وإيران. بكلمة أخرى أراد بوتين وهو يستخدم المشاعر القومية الإمبراطورية الروسية أن يثبت للغرب عموما وهو الذي يملك مفاتيح اقتصادية ونووية وغيرها، أراد أن يثبت أن روسيا لن تسمح بإسقاط بشار الأسدً، ليس حبا بشخص بشار، وإنما لإثبات مقولة استقلال القرار الروسي واستعداده للدفاع عن المصالح الروسية حًتى النهاية.
وبالطبع فإن آلية اتخاذ القرار الروسي شبيهة إلى حد بعيد بما هو متبع في النظام السوري. فإدارة الرئيس الروسي بما فيها من مستشارين أمنيين وعسكريين وسياسيين واقتصاديين هم الذين يبلورون الرؤية من الأحداث ويبدو أنهم قبل اندلاع الثورة السورية اتخذوا قرارا استراتيجياً بالدفاع عن نظام الأسد لأنهم بذلك يدافعون عن مصالحهم في بيع الأسلحة وتصدير الغازً والحفاظ على مواقعهم الاستراتيجية في البحر المتوسط.
وأذكر كلمات لمستشار عسكري روسي يعمل في الأكاديمية الجيوسياسية في روسيا عندما قال في برنامج بانوراما في قناة «روسيا اليوم »بأن البوارج العسكرية الروسية في البحر المتوسط وبالقرب من الشواطئ السورية لا تدافع عن مصالح روسيا، وإنما عن مصالح المجمع العسكري الفني ومصالح مجمع النفط والغاز الروسيين. وهنا يكمن أهم تفسير لحيثيات الموقف الروسي السلبي من الثورة السورية.
وبالطبع فإن الروس متخوفين كثيرا من المد الإسلامي الذي يذكرهم بأحداث الشيشان والدعم الخليجي الذي تلقاه المقاتلون الإسلاميون فيً القوقاز لمجابهة الوجود الروسي هناك.
ولا يخفى بأن كثير من الشباب المسلم في روسيا )وعدد المسلمين في روسيا يزيد عن 20 مليون ونسبة السنة فيهم تزيد عن 95%( يتابع أحداث الربيع العربي ويظهر تعاطفا مع الشعوب العربية والإسلامية ضد الأنظمة الشمولية. وفي أحد المؤتمرات المخصصة لمناقشة موقفً مسلمي روسيا من السياسة الخارجية والأمنية الروسية، أعرب محللون سياسيون عن وجود احتقان لدى الشباب المسلم وخاصة في منطقة القوقاز وعدم ارتياحهم للسياسة الخارجية الروسية التي تؤيد الأنظمة الديكتاتورية.
ومن أجل تبرير الموقف الروسي المتجني على مطالب الشعب السوري المشروعة والمنحاز لنظام الأسد القاتل لشعبه والمدمر لبلاده، فإن الروس وضعوا خطة سياسية وإعلامية ودبلوماسية ونفسية للدفاع عن النظام السوري وتشويه صورة الثورة السورية والمعارضة السورية.
بالإضافة إلى تقديم السلاح المتطور وخبرات المستشارين العسكريين والأمنيين والسياسيين، فإن الروس سخَّروا وسائل إعلامهم الناطقة باللغة الروسية والعربية وبقية اللغات للدفاع عن نظام الأسد ومحاربة المعارضة والثورة السورية. وأكبر دليل ما تقوم به قناة «روسيا اليوم» وموقع راديو «صوت روسيا »ووكالة أنباء «ريا نوفوستي» التي تبث أخبار النظام السوري بالتفصيل الممل، وكذلك تبث تصريحات الخارجية الروسية التي ضربت أرقاما قياسية في تصريحاتها بخصوص الأحداث في سوريا.
إلى درجة أن البعض أصبح يتهكم بالقول إن لافروفً هو وزير الخارجية السوري، وليس المعلم.
ومن جانب آخر اتخذت القيادة الروسية خطة للعمل، ليس فقط على جبهة النظام السوري ودعمهوالتطبيل له ولكونه يدافع عن نفسه وبأن الثوار يستفزونه ويجبرونه على استخدام السلاح، وإنما سلكت وامد او
خطا آخرا وهو العمل على إقامة صلات واسعة مع المعارضة السورية لإشعار العالم بأن روسيا ليست منحاًزة لأيً من طرفي النزاع في سوريا وإنما هي مع القانون الدولي وسيادة سوريا، وأن يكون حل المشاكل عن طريق الحوار بين السوريين أنفسهم.
وقد عاصرتُ، شخصيا، قسما كبيرا من التواصل بين القيادة الروسية والمعارضة السورية منذ شهر حزيران 2011 وكنت عضوا فًي تلكً الوفًود، عندما جاء أول وفد للمعارضة السورية برئاسة د. رضوان زيادة بصفتهم ممثلين عن المؤتمر السوري للتغيير المنبثق عن مؤتمر أنطالية في تركيا الذي انعقد في مايو 2011. وللأمانة كان الوفد منظما ولديه خطة واضحة للحديث مع الروس، فقد اتفق أعضاء الوفد على توزيع النقاط التي يجب تغطيتًها في الحوار مع الخارجية الروسية، لكن الروس سمحوا للوفد بمقابلة ميخائيل مارغيلوف فقط وأصدرت الخارجية الروسية بيانا اعتبرت فيه أن زيارة وفد المعارضة السورية ليست رسمية وإنما خاصة! ورافقت الزيارة حملة كبيرة إعًلامية وتشبيحية سورية )من السفارة وعملائها( ضد الوفد والمعارضة وصلت إلى حد محاولة الاعتداء على أعضاء الوفد في المؤتمر الصحفي الذي انعقد في وكالة أنباء «ريا نوفوستي». وكان الرد الروسي طيبا ووديا، ولكنه لم يكن له أي قيمة سياسية. فمارغيلوف يومها صرح بأن «لدى روسيا في سوريا صديق وًاحد هًو الشعب السوري» وفرحت المعارضة بهذا التصريح وهللت له. ولكن الموقف السياسي الرسمي في روسيا كان سيئاً إلى درجة لا توصف.
وجاء في بداية خريف 2011 وفد آخر من المؤتمر السوري للتغيير برئاسة عمار القربي وتكررت نفس الأسطوانة: لقاء مع مارغيلوف فقط لم يعط أي شيء جديد، ولكن الروس كانوا يطبلون لمسألة أن روسيا تتحاور مع الجميع في سوريا. وكأنها تستغل هذه الزيارات لكي تغطي على دعمها للنظام ومنحه فرصاً جديدة للمضي في قمع الثورة.
وجاءت زيارة وفد المجلس الوطني السوري برئاسة د. برهان غليون في شهر نوفمبر – تشرين الثاني 2011 وكان اللقاء هذه المرة مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونائبه ميخائيل بوغدانوف.
وللأسف فالمباحثات كانت بلا فائدة باستثناء أنها أكدت الموقف الروسي الداعم للنظام السوري من جهة، ومن جهة أكد الوفد على التزام «المجلس الوطني» من أهداف الثورة السورية. ويومها بعد نقاش طويل سأل لافروف الوفد وكنت عضوا فيه هل تريدون ثورة أم مفاوضات؟ فأجابه د. برهان غليون بأننا نقوم بثورة في سورية والمفاوضاتً وسيلة لبلوغ الهدف وهو تنحي بشار ونظامه. فرد لافروف إذا انتظروا بحراً من الدماء. تلك عبارة توضح بشكل ساطع جوهر الموقف الروسي من الثورة والنظام الأسًدي.
وكان الروس مثلهم مثل الدول الغربية يبحثون دائما عن حجج ينتقدون بها قوى الثورة والمعارضة السورية ويتهمونها بأنها: إما مشتتة وغير موحدة، أوً أنها بدون برنامج عمل سياسي واضح، أو أنالإسلاميين مسيطرين عليها، أو أنها تتلقى تعليماتها من العواصم الغربية. ويتهمون الشخصيات المعارضةبأنها تتلقى أموالاً من قوى خارجية، وهي عميلة. ومثلاً في روسيا تعرضت شخصياً لمثل هذه الاتهاماتبأنني أتلقى الملايين من الدولارات من فرنسا وقطر وجماعة الحريري وغيرهم، ليس فقط من قبل أزلام النظام السوري في روسيا وإنما من قبل جهات روسية مختلفة.
أما الزيارة الأخيرة للمجلس الوطني السوري في تموز 2012 فقد عملت الكثير من أجل تحقيقها بالتنسيق مع قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الخارجية الروسية. وكانت الفكرة كالآتي: يأتي وفد من خبراء المجلس الوطني ويجرون مباحثات تمهيدية مع خبراء من الخارجية الروسية، لكي يتوصلوا إلى نقاط تفاهم تليها زيارة رسمية لوفد من قيادة المجلس الوطني السوري تتوج هذه المشاورات وتعلن عن اتفاق بين المعارضة السورية وروسيا حول مصير الثورة السورية ومصير النظام السوري ،منطلقين من تقديم ضمانات للجانب الروسي تتعلق بكافة مصالحهم في سوريا بما فيها ميناء طرطوس والمشاريع النفطية والاقتصادية والصفقات العسكرية. كذلك كانت لدينا فكرة بأن نطمئن الروس بأنهم سيبقون يساعدوننا في تحديث الجيش السوري ونريدهم أن يساهموا في بناء سورية الجديدة.
وقد نسقت في جلسات متعددة مع خبراء في قسم الشرق الأوسط حول هذه المسألة، وطلبت من المكتب التنفيذي في المجلس للقاء والحديث والتمهيد للزيارة.
وبالفعل قمت بزيارة إسطنبول بناء على دعوة من المكتب التنفيذي للمجلس الوطني السوري، والتقينا في ثلاثة اجتماعات مكرسة لبحث الموقف الروسي وحيثياته، وضرورة وضع خطة للعمل مع الروس.
وعدت إلى موسكو وأبلغت الروس بنتيجة اللقاءات في إسطنبول. لكنني لاحظت عدم تحمس الروس لإجراء مباحثات تمهيدية.
وفهمت الأمر، لأن الروس لا يستطيع خبراؤهم أن يقرروا شيئا وإنما بإمكانهم ترديد الموقف الرسمي فقط والسماع لما يقوله المفاوض. وتفاجأت بأن الإخوة في المًجلس الوطني، أيضا استعجلوا في تحديد موعد الزيارة من دون تنسيق مسبق معي، وكنت ضد الإسراع في الزيارة.
لكن اًلروس نسقوا موعد الزيارة عن طريق باريس، ليلتفوا على ما سعينا من أجله للإعداد للزيارة لكي تعطي نتائج جدية ملموسة .وهكذا جاء وفد المجلس برئاسة د. عبد الباسط سيدا ومعه عدد من أعضاء المكتب التنفيذي، ومن بين أعضاء المجلس جورج صبرة وبرهان غليون ورياض سيف وبسمة قضماني وخالد الصالح ونجيب الغضبان ومنذر ماخوس ومحمد سرميني وأنا بصفتي ممثل المجلس في روسيا.
وكانت تركيبة الوفد الكبيرة والرفيعة المستوى دليلاً على اهتمام قيادة المجلس بهذه الزيارة، لكن الروس للأسف لم يعطوا أي أهمية لها، وبالعكس قابل لافروف الوفد بلغة قاسية وقطعية، مردداً الموقف الروسي الرسمي من أن روسيا حريصة على سيادة سوريا وتطبيق القانون الدولي، وأن سورية بلد صديق وأن بشار الأسد ولا عائلته أصدقاء لروسيا والدليل أن بشار لم يزر روسيا إلا بعد 5 سنوات من استلامه الرئاسة في سوريا ،وكذلك لأن أياً من أفراد عائلة الأسد لم يدرس في روسيا وإنما في دول غربية. وكان اللقاء ساخناً لأن رد الوفد السوري كان قويا وواضحا لا لبس فيه. فقد أكد الوفد على ثوابت الثورة السورية.
بعد هذه الزيارة تيقنتً من حقيًقة أن الموقف الروسي لن يتغير وأن كل التصريحات المضللة من نوع«بشار تأخر في الإصلاحات». أو «على بشار بأن يجري إصلاحات أو يتنحى». أو «روسيا غير ملتزمة وغيرمتمسكة بأشخاص بمن في ذلك بشار نفسه». كل ذلك كان نوعاً من ذر الرماد في العيون ومحاولة
وامد او التأثير على المعارضة، وكذلك بهدف توفير فرص جديدة للأسد ليستمر بمحاولاته اليائسة في القضاء على الثورة.
وبالمناسبة، أصبحت على قناعة مفادها أن الروس كانوا على ثقة بأن بشار، وبدعم روسي إيراني، سيقضي على الثورة خلال فترة قصيرة أقصاها سنة، وهي تاريخ انتخاب بوتين رئيسا لروسيا )مارس – آذار 2012( ولكنهم تفاجأوا بصمود الثورة وأعطوا لبشار فرصة أخرى ورفعوا من مستوىً الدعم بالسلاح والخبراء. وعلى ما يبدو جاءت زيارة لافروف وفرادكوف )رئيس المخابرات الخارجية الروسية( في مايو 2012 على عكس توقعات الكثير من المتفائلين بتغير الموقف الروسي، جاءت لإعطاء فرصة جديدة لبشار ولتوقيت الساعات لكي يقضي على الثورة، وإلا فسيصبح الروس في مأزق أمام المجتمع الدولي .ويكفي الإشارة إلا أن رئيس المخابرات الخارجية الروسية نادراً جداً ما يزور دولة، إلا إذا حدث شيء غير عادي، وزيارتهم جاءت لدعم الأسد وليس لإقناعه بالتنحي.
خاب أمل السوريين بتغير الموقف الروسي يوما بعد يوم. وأثبتت الأيام بأن الروس يسعون في كل لقاءاتهم مع المعارضة بكافة أطرافها إلى إقناعهمً بالجلوس إلى طاولة المفاوضات مع نظام الأسد ،بكلمة أخرى إلى إجهاض الثورة السورية التي تعتبرها روسيا خطراً عليها بقدر ما هي خطرة على حكام دمشق.
المعارضة السورية في روسيا
لا بد في هذا السياق من قول بعض الكلمات المختصرة عن وضع المعارضة السورية في روسيا وما تعرضت له من ضغوطات وتحديات.
من المعروف تاريخيا أن الجالية السورية في روسيا تعمل تحت مظلة السفارة السورية وهناك شيءيجمع أغلبية أبناء الجًالية وهو «الموقف الوطني الممانع للنظام السوري» وبنفس الوقت هناك منينتقد بشكل أو بآخر السياسة الداخلية للنظام السوري. لكنني متأكد من أن السفارة السورية جندتعملاءها وأتباعها لمراقبة كل سوري في روسيا وممارسة الضغط عليهم. إلا أن بعض السوريين عملوا تحت مظلات مختلفة )في قوى سياسية أو بصفة مستقلة( متسترين إلى أن جاءت الثورة فكشفت كل الأوراق.
لكن المزاج العام كان انتقاديا لما يسود في سوريا من تخلف عن العصر، ومن تمييز بين المواطنين ،ومن الفساد والتسلط والاستبدًاد وسرقة خيرات البلد.
على أن كل ذلك كان في وادٍ وإمكانية نقد صريح وعلني للنظام السياسي السوري وضرورة تغييره كانت في روسيا من قبيل الحلم والخيال. ويخيل لي أحياناً أننا في روسيا عشنا ظروفاً مشابهة لما عاناه السوريون في سوريا .
وكان أول إعلان رسمي عن دعم الثورة والانحياز للتغيير القادم تمثل في الكلمة التي ألقيتها في يوم النيروز في حفل ضم ما يقارب الألف إنسان في قاعة سينما، حينها أعلنت أننا ننحاز للثورة وأن النظام يجب أن يتغير. وكان ذلك انطلاق شرارة الثورة على مستوى الجالية السورية في روسيا، تبعها مشاركات في مؤتمر صحفي للقائم بأعمال السفارة السورية أعلنا يومها أننا معارضون ونؤيد الثورة وندعم تغيير النظام السوري علانية. وتبلورت بعدها مجموعة من الناشطين السوريين وأسسنا لجنة دعم الثورة السورية من روسيا. وقامت اللجنة بجملة من النشاطات في ظروف غير مريحة وتحت ضغوطات كبيرة من السفارة ومن أصدقاء السفارة من الروس.
ومع انطلاقة الثورة في تونس تابعها السوريون بحماسة وكأنها ثورتهم وكذلك الثورة في مصر، وقمت في شباط 2011 بمساعدة ابني فراس بإنشاء موقع إلكتروني سميته «سورية الجديدة) »www.new-syria.com( وبدأت بإرسال رسائل قصيرة بالهاتف لعشرات السوريين بأن 5 شباط هو يوم الغضب السوري واستغرب الكثيرون ظهور هذه الأصوات الداعية للتغيير الشامل في سوريا، انطلاقا من روسيا ،لأن الجميع خائف من السفارة السورية وعملائها وضغوطاتهم. وبدأت بكتابة المقالات ونشًرها بأسماء مستعارة عن قدوم الثورة في سوريا. وقبل يومين من أول مايو 2011 عيد العمال العالمي الذي يحتفل به الشعب الروسي بشكل واسع، اتصلت بممثلي الحزب الشيوعي الروسي وطلبت منهم المشاركة بالمظاهرة، لكننا سنرفع شعارات خاصة بسوريا فقبلوا بعد دراسة للموضوع. وتفاجأنا بعد ساعات برفض طلبنا على إثر تدخل السفارة السورية وأبو فراس الجوهري )من كفر بطنا، وهو رجل أعمال ومن جماعة قدري جميل وكذلك عضو في الحزب الشيوعي الروسي( الذي حاربنا بكل قوته وهو الذي طلب من الحزب الشيوعي رفض مشاركتنا في المظاهرة. لكننا قررنا أن نخرج إلى المظاهرة ولو اعتقلتنا الشرطة الروسية. وبالفعل خرجنا ورفعنا اللافتات وشعارات الثورة وكانت هذه المظاهرة قنبلة مدوية علقت عليها جريدة تشرين بأنها ليست مظاهرة وإنما مجموعة من المندسين بين الروس، وأن قناة الجزيرة هي التي فبركت الصورة. وبالمناسبة فقد غطت تلك المظاهرة العديد من وسائل الإعلام العربية والروسيةوحتى الصحف الروسية منها، ونشروا صور الشباب السوريين المتظاهرين من قلب موسكو تأييداًللثورة السورية. واستمرت النشاطات بصور مختلفة من مظاهرات واجتماعات جماهيرية، ومعارض صور
وامدً او
الشهداء، ويوم الطفل السوري، وأمسية شموع حدادا على أرواح الشهداء، وندوات ومؤتمرات صحفية وطاولات مستديرة، ومشاركة في المقابلات التلفزيونيًة والراديو والوسائل الإعلام الروسية والعربية. كل ذلك أثار امتعاض السفارة السورية وأتباعها. والمرحلة الثانية المهمة في نشاطنا المعارض في موسكو كان قيام لجنة دعم الثورة بتأسيس مركز إعلامي وموقع باللغة الروسية تحت اسم «نوفايا سيريا »)سورية الجديدة( )www.new-syria.ru( فقام بعض أزلام السفارة بإعداد قائمة بأسماء مجموعة من الناشطين في الحقل الإعلامي ومنهم بعض أعضاء لجنة دعم الثورة وأصدقاء عرب وروس واتهمونا بتلقي رواتب كبيرة من قبل السفارة القطرية، وأننا عملاء لقطر ونحارب النظام السوري. وطبلت وسائل الإعلام الروسية والسورية الرسمية بما فيها وكالة أنباء سانا والتلفزيون السوري لهذ القائمة واعتبروها اكتشافاً عظيما لمجموعة تجسس ممولة من قطر تشوه سمعة النظام السوري في موسكو. وتعرض الناشطون السوريًون لضغوطات هائلة منها تهديدات من قلب السفارة بالتصفيات الجسدية وكذلك بالتشبيح على المتظاهرين المؤيدين للثورة، واعتداءات على شباب سوريين من طلبة وغيرهم، ووصل الأمر إلى التسبب بفصلي من عملي منذ أكثر من سنة، وبعدها تم فصل جميع المؤيدين للثورة السورية من العمل في قناة «روسيا اليوم» )ومنهم ابني فراس وهو مبرمج وقالوا له
واتضح لنا أن هناك مخططا كبيرا لدى النظام وحلفائه بأن ينظموا معارضة من عدة أصناف: منها ما هو على شاكلة هيئة التنسيقً الوطًنية التي طالبت بالتغيير الوطني الديمقراطي السلمي ورفضت أي تدخل خارجي )لكنها صمتت عن التدخل الإيراني الفعال( ورفضت العنف والطائفية )متناسية في كثير من الأحيان من يقوم بالعنف ومن يزرع الطائفية( وكذلك استقبل الروس مرات عديدة نماذج مختلفة من أشباه المعارضة من أمثال قدري جميل )الذي رسم له الروس أدوارا مهمة في سورية الجديدة، وهو معروف عنه ارتباطه شخصيا بروسيا بمصالح اقتصادية كبيرة( وشركائهً من أمثال عادل نعيسة وفاتح جاموس وعلي حيدر، وهي قًائمة أعدت بإتقان من قبل السلطات السورية. وكلهم ينادون بالتغيير والحوار، لكنهم يصبون غضبهم على المعارضة الوطنية الممثلة بالثورة والمجلس الوطني. بينما تخبطت قوى معارضة أخرى سمت نفسها ديمقراطية )عارف دليلة وميشيل كيلو( ولم نعرف حتى الآن ما هو جوهر دورهم في الثورة السورية.
بالحرف الواحد بتوجيه من الأمن الروسي تم فصلك لأنك تشرف على موقع للمعارضة السورية في روسيا وهو موقع «سورية الجديدة ،»وكان يعمل مديراً فنيا لموقع القناة( وتم استدعاء عدد من الناشطين السوريين إلى أجهزة الأمن الروسية والتحقيق معهم ومحًاولة تجنيد بعضهم. وكذلك تلقى عدد من المعارضين تهديدات من قبل روس متهمين إيانا بأننا عملاء وخونة. وبما أن سورية تعيش حالة حرب فالخائن يجب معاقبته، حسب قوانين الحرب، بالتصفية. وقامت السلطات الروسية بترحيل بعض المعارضين خارج روسيا.
وما زالت الحملة الشرسة، على صفحات الإنترنت الروسي، ضد المعارضين، ومنهم كاتب هذه السطور، بشكل خاص ،وهناك تجييش مسعور ضدنا معتبرين إيانا خونة لسوريا وروسيا بنفس الوقت.
وللأسف في هذه الظروف الصعبة والتحديات والضغوطات من قبل السفارة السورية وبعض الجهات والشخصيات الروسية التي أساءت لنا كثيرا، انطلقت في التوقيت نفسه حملة قادها أحد الاتباع المقيمين في روسيا لمعارض سوري، هدفتً إلى تشويه سمعتي، شخصيا، واتهمتني بتلقي الأموال الطائلة من كتلة سعد الحريري، وغيرها من التهم الجوفاء التي صبت في اًلاتجاه نفسه الذي تتحرك السفارة السورية وفقه. لقد تعرضنا كمعارضين سوريين في روسيا إلى ضغوطات هائلة اندمجت فيها جهود منظمة وموجهة إلى جانب ما فعلته أمزجة شخصية وأجندات شخصية وقلة وعي سياسي، لأن الكثيرين من المؤيدين للثورة في روسيا يعملون في التجارة وبعضهم بسطاء في السياسة وبينهم من تربى في كنف النظام السوري، فعندما انخرطوا في أنشطة دعم الثورة لم يحدث أي تغيير بنيوي في عقليتهم وسلوكهم، بل نقلوا أمراضهم إلى داخل المعارضة فخلقوا حالة متوترة ومشحونة أدت إلىعرقلة العمل والنشاط المؤيد للثورة، واعتقد أن جهود بعض الجهات السورية والروسية شجعت هذهالأوضاع المتشنجة ودعمتها عن طريق أصدقائها داخل المعارضة السورية في روسيا )وهم للأسف أمر واقع لا يمكن إنكاره.
من واجبنا أن نذكر التبرعات المالية والإغاثية التي قام بها أبناء الجالية من رجال الأعمال لدعم أهلنا في سوريا والتي استمرت لفترة سنتين تقريبا، إلا أنها تقلصت كثيرا نتيجة الضغوطات الروسية واتهام بعض المعارضين السوريين في روسيا بجمع الأًموال لتمويل الثورة السًورية بالسلاح. وتلقى البعض تهديدات بالترحيل ونزع الجنسية الروسية فأثارت هذه الشائعات خوفا حقيقيا لدى البعض.
ولكننا كنا وما نزال مستمرين في نشاطاتنا ودعمنا للثورة إعلامًياً وسياسًياً وإغاثياً )حسب الإمكانية( رغم الصعوبات والتحديات والتهديدات.
أخيراً، فإن الغريب في الأمر أن معظم المواطنين الروس يؤيدون السياسة الرسمية الروسية التي تدعم نظام الأسد ضد الضغوطات الغربية المزعومة، وكأنهم مازالوا يعيشون حالة الحرب الباردة متأثرين بما تبثه وسائل الإعلام الروسية وخاصة المرئية منها ليلاً نهارا بأن عدو روسيا هو أمريكا والغرب، علماً أن النخبة الروسية تميل إلى النموذج الليبرالي الغربي ولكن بًنكهة ديمقراطية على الطريقة الروسية