دمشق-العدد4-5-نوري الجراح
لا تكفي الأخلاق وحدها، ولا السياسة وحدها، ولا التاريخ وحده، ولكن ربما الخيال الروائي الغرائبي يساعدنا في قراءة واقعة حزب الله في القصير وسوريا. فها نحن بإزاء رجل دين معمم يقود – من تحت الأرض في وضع سري، ميليشيا محلية مسلحة انتقلت إلى وضعية ميليشيا عابرة للجغرافيا، في ترميز يعيد إلى الأذهان فكرة العصبة السرية الطالعة من نصوص التراث المذهبي في الإسلام. وهو مما ينتمي ،أيضا، إلى خيالات العصور الوسطى؛
معمًم معاصر يظهر على جمهوره وعصبته من خلال لوح إلكتروني، كمخاطب يملي من أعلى، يسُمع ولا يسَمع، وفي حضور مثير يستدعي صورة الأخ الأكبر لجورج أورويل، حيث الآمر المتسلط في كل زاوية من المشهد العام على جمهور متيم ومسحور، ومغلوب على أمره، فأي واقع يتفوق على الخيال تلهمنا إياه هذه الصورة!
في المقارنة السيميائية بالأصل الأورويلي لصورة «الأخ الأكبر» يبدو «السيد» سيدا على المفارقة، أولاً ،عندما يتنزل من أعلى، وبكامل قيافته، على عصبته المتيمة به، بينما هو حقيقة يخطًب من تحت الأرض ،بكل ما تنتجه هذه الصورة من دلالات على الخوف والهروب والانقطاع عن العالم الحي وما يمكن أن ينتجه حال كهذا من أوهام.
يريد حزب الله، وقد حاول منذ البداية، أن يكون الممثل الشرعي والوحيد لشيعة لبنان، والإمام المسلح للفرقة الشيعية المقاتلة في العالم العربي، لكن ذلك كان يتطلب «ورقة» شرعية و»مشرعِنة» لحمل السلاح، يتستر بها، فكانت «فلسطين» وكانت «مقاومة إسرائيل». ولم يكن هناك أربح من ورقة القضية الفلسطينية، فهي مجربة، وأفضل اللاعبين بها كانا اثنين: سيده السوري «حافظ الأسد»، وسيده الإيراني «دام ظله.»
على أن بسط نفوذ الميليشيا الدينية الشيعية الجديدة المنافسة لأمل، والتي ظهرت، عملياً، على الساحة اللبنانية بأمر من طهران وترتيب مع دمشق، كان متعذراً، في ظل وجود مثقفين ومفكرين ومعبرين عن اللبنانيين شيعة وغيرهم. كنت يومها في لبنان، وتابعت عن كثب الظهور الخارق للعادة لهذه المليشيا ،التي حملت معها إلى الشارع اللبناني ظاهرة العباءات السود، والمبالغة في جلد الذات وإدمائها بالسيوف في الطقس الكربلائي. لكن الأمر لم يقتصر على إيذاء الذات، وحسب. وسرعان ما عرفنا مع هذا الحزب طوراً جديداً من الجريمة السياسية، إنها الجريمة لصالح العقيدة. وكان أول ضحايا الحزب في طوره التأسيسي من اليساريين الشيعة؛ كتاب ومفكرون لبنانيين كبار ينتمون إلى الطائفة الشيعية التي ينتمي إليها نصر الله.
وهكذا سقط المفكر حسين مروة صاحب السفر الفلسفي الكبير الموسوم بـ»النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية» برصاص ميليشيا حزب الله في عملية اغتيال محزنة لشيخ ثمانيني، والأرجح أن الذي قتل مروة كان شابا شيعيا يعرفه المفكر الشهيد، لأنه، وحسب رواية أهله، عندما فتح لقاتله الباب رحب به بالاسم وهم يأخًذه بالًأحضان، لكن رصاصات الشاب كانت أسرع، والأرجح، أيضا، أن حزب الله كان غسل لهذا الشاب اليافع دماغه، وجعله يعتقد، تمام الاعتقاد، بأن حسين مروة اليسًاري العلماني هو عدو علي والحسين وزينب وسائر الشيعة ومعهم المهدي المنتظر.
بعد هذه الواقعة التي افتقر الآمرون بها إلى الحد الأدنى من الشجاعة وكذا التربية الأخلاقية، جاءت واقعة اغتيال المفكر اليساري الالتوسيري مهدي عامل، وهو مفكر أغنى المكتبة العربية بعدد من المؤلفات المنظورة، وكانت رصاصات حزب الله وراء مصرعه. بهاتين العمليتين وغيرهما وصلت الرسالة إلى المجتمع اللبناني؛ حزب الله يعلن عن نفسه، ويريد احتكار تمثيل الشيعة. لذلك كان لابد من شطب قامات شيعية كبيرة من المشهد، ليصبح التمثيل الشيعي غير المباشر في الحياة اللبنانية، والمباشر في الفكر والعمل السياسي، محصورا بنسل جديد من القادة موصول حصريا بآيات الله في طهران، وبالحرس الثوري الإيراني على نحو أدق. نسًٌلٌ لم يستطع أن ينهش ما في بطون الحًوامل الفكرية الشيعية اللبنانية ويمنعها من أن تلد آخرين مثل العلامة هاني فحص والشيخ صبحي الطفيلي وحسن داوود، وعباس بيضون، ويوسف بزي وآخرين غيرهم ممن عرفوا الحد الفاصل بين امتدادهم التاريخي وحضورهم الراهن كأبناء للحظة المعاصرة.
على هذه الخلفية ولد قادة حزب الله، وظهر نصر الله في المشهد اللبناني، أولاً، والفلسطيني ثانياً، والعربي ثالثا. إنها الولادة القيصرية لمسخ ولد وترعرع في كنف العلاقة الشاذة بين طهران ودمشق ،وصوّرته ضرورًات شتى، بينها عطش جماعي لبناني وعربي للكرامة، بطلاً من أبطالها. لكن الوقائع سرعان ما كذبت الأوهام، فهذه ميليشيا هي في أصلها وفصلها فصيل لبناني من فصائل الحرس الثوري الإيراني يسلحها ويدفع رواتبها وبه، وحده، تأتمر.
واليوم، بعد واقعة القصير وما سبقها من وقائع أخرى للحزب في سوريا ظّلّ نصر الله ينكرها، ولكنه قاتل فيها إلى جانب حليفه السوري شعبا ثائراً على سفاح، شعبا كان، إلى الأمس القريب، ظهيرا له ونصيراً، وله في صفوفه مباهين كثرا بصورتهً كـ «مقاوم»، هل يشًعر نصر الله وقد خطب خطبتًه الدموية ،واستكملت صورته مع تلك الخًطبة سقوطها التراجيدي من حضيض إلى حضيض، هل يشعر بالأسى على ما فقد من صورة «المقاوم» وما اكتسب من صورة «المرتزق»؟ أم أن اعتكافه في جحر تحت الأرض، لم يخرج منه إلا للوقوف في ظل مرشده في طهران متلقيا الأوامر، جعله فريسة لا منجاة لها من الأوهام؟ليس في مقدور حزب الله، مهما امتلك من أسباب القًوة العسكرية، أن ينتصر على الشعب السوري وانتفاضته الباسلة ضد الطغيان، لكنه، بطيشه ورعونته وانكشاف صورته، يستطيع أن يدمر لبنان. ها هو روبرت فيسك أحد أكثر الصحافيين الغربيين دفاعا عن نصر الله وحزبه والحلف الذي ينتمي إليه ،يهتف، مذعوراً، على إثر خطبة نصر الله الأخيرة: «هذًا رجل مصاب بالعمى، وهو لا يملك إلا بصيرة الدم.»انتصار أم هزيمة
يحق للقيادة الإيرانية أن تبتهج للأخبار التي وصلتها مؤخرا من غرفة عمليات حزب الله على الحدود اللبنانية السورية، يحق لقتلة طالبة الموسيقى ندى آغا المًتظاهرة في شوارع طهران في ربيع إيران المجهض برصاص الحرس الثوري، يحق لهم أن يفرحوا ويبتهجوا بأخبار تدمير مدينة القصير السورية على رؤوس أهلها من نساء وأطفال وشيوخ.
فحيث رقد ألف جريح بين أطلال المدينة الشهيدة رقدت معهم الكرامة الإنسانية جريحة ومعصوبة الرأس، وها هم أبطال المقاومة ضد إسرائيل يوجهون فوهات بنادقهم إلى رؤوس الجرحى في المناطق التي انسحب منها مقاتلو الجيش الحر خلال المعارك الشرسة التي خاضوها دفاعاً عن المدينة، وقد جعلتهم كثافة النيران عاجزين عن الاستمرار في الدفاع عن المدينة بأسلحة خفيفة وإمكانات بسيطة ،من دون أن يلحق بحاضنتهم الشعبية أذى كبير، فضلاً عما يمكن أن يجره على السكان المدنيين من وبال يعبر عن نفسه في مذابح عود النظام وحلفائه السوريين عليها في أحوال مشابهة، كما حدث في بابا عمر والحولة والبيضا وغيرها من قرى وبلدات ومناطق انسحب منها الجيش الحر مضطرا، وفتكت عصابات النظام بساكنيها، في أفعال انتقامية إجرامية ومارسوا بحقهم فظاعات يندى لها الجبينً.
يحق للقيادة الإيرانية ويحق للمعتوه الذي يحكم دمشق بالساطور أن يبتهجا، أخيراً، بعدما قيض لقواتهما المشتركة دخول مدينة القصير فاتحة و»منتصرة.»
ما بين إعلان حزب الله الشيعي المدعوم من إيران انتصاره في القصير، وإعلان صعدة إمارة مستقلة في اليمن ساعات فقط. هل هناك دلالة أوضح على دخول الرغبة الإيرانية في تمزيق الكيانات العربية ،سياسياً واجتماعياً وجغرافيا، طورا متفاقما من أطوار «الهوس المذهبي»، من جهة، وفي ما يبدو تبادلاً ضمنيا للأدوار مع الوجود الًإسرائيلًي، بمفاعًيله المدمرة في المنطقة العربية، والتي كبحت، حتى اليوم ،كل تطًور للدولة الحديثة في المنطقة.
ولكن ما الذي تريده إيران حقيقة، وما هو جوهر المشروع الإيراني للدول العربية، إن لم يكن تمزيق الرقعة، وتفتيت وحدة الكيانات الوطنية القلقة، أصلاً، بمرجعياتها المتعددة، بما يعرض التنوع الديني والإثني إلى التصادم في محل التفاعل، والانقطاع في محل التواصل، والقلق في محل الانسجام، وهو ما يسمح، للحلم الإيراني القومي، في قناعه الديني، بمواصلة التمدد على حساب مستقبل هذه الكيانات متعددة الديانات والثقافات والأعراق.
ولعل العدوانية الظاهرة والشراسة المتزايدة في تصريحات، وكذا سلوك، حكام طهران المعادية للشعب السوري وثورته، وإهدارهم اليومي لمال الشعب الإيراني على عاملهم في دمشق وحملته الدموية المتواصلة على شعبه المتواصل منذ أكثر من عامين، إنما يجدان سببهما المباشر في تلك الخضة الكبرى التي أحدثتها الثورة السورية في الإقليم، لقد فاجأت هذه الثورة الشعبية العارمة إيران بإمكان تصفية نفوذها في المتوسط، وتعريض مشروعها القومي والديني للانكفاء في جغرافيته، وهو ما يعتبر آيات الله في إيران حدوثه، لو حدث، نهاية درامية، لا يمكن القبول بها، لمشروعهم الاستراتيجي العابر للجغرافيات.
سقطت القصير، لم تسقط القصير. الحرب كرّ وفرّ. ما تربحه اليوم تخسره غدا، وما تخسره غدا تعود وتربحه بعد غد. حدث هذا في بابا عمر، وحدث في غيرها من المدن والبلدات اًلسورية قبل أن يحًدث في القصير.
سقطت القصير، ولم يهزم أبطالها.. انسحبوا، بشكل تكتيكي، وكان يمكنهم أن يقاتلوا حتى آخر رجل، ولا يعودوا إلى الوراء خطوة واحدة. حياة آلاف الجرحى وآلاف الأطفال والنساء والشيوخ المهددين بموت محتم تحت وابل من الحمم والنيران التي صبها عليهم جيش النظام وشبيحته ومرتزقته من حزب الله والحرس الثوري الإيراني، كانت السبب المباشر وراء الانسحاب.
سقطت القصير وخرج أبطالها الذين أرّقوا إيران ومرتزقتها اللبنانيين لشهر كامل، خرجوا من وسط المدينة ومازالوا حتى الساعة يقاتلون في أطرافها. والحرب، مرة أخرى، وفي كل الأدبيات وعلى مرّ العصور، كرّ وفر.
المدن التي تسقط يمكن للبشر أن يستعيدوها غدا، لكن الكرامة عندما تسقط لا شيء يعيدها. أبطال الجيش الحر انسحبوا من القصير بكرامتهم. أما حًسن نصر الله فهو في القصير منتصر بلا كرامة وانتصاره أسوأ من الهزيمة.
دم الغريزة )عن الطائفي(الطائفي ذاته عدوته، وهو عدو ذاته. نصفه خائفٌ من نصفه، فهو ذات خلصت نفسها من آخَرها فبدّدت بذلك جوهرها وانتقصت من نفسها، فالآخر، بداهة، هو نحن في صورة أخرى. الطائفي كائن متوجس تنهبه الكوابيس، يكثر من ذاته الناقصة ليتعدد ويقوى، ويطمئن إلى قوته في كثرةٍ تشبهه. يألف كثرتَه ويألف في كثرتهِ صورته وَشَبَهَهُ، فهو مريض بالشبه، نافر من الاختلاف. فالاختلاف في الخلق، عنده ،نقمة وليس رحمة.
والطائفي قاصر في عقله، فهو مؤثر حياة القطيع، مستسلم لقدره الغريزي، وانتمائه القدري، راضخ رضوخ القطعان. خائف من ارتطامه بالآخر، محجم عن المعرفة به، فالآخر نقيض، ودمه غريب، دمٌ آخرُ.
وفي استسلامه الكلي للغريزة، تحفظا واستبعاداً وتغريباً للآخر، يصبح الآخر عدواً، ويصير دمه حلالاً .
فالطائفي عدو عدوه المختلف. وهو قًاتله أيضاً.
مسكين هو الطائفي لا يدرك، في معركة البقاء الغريزي، أن الذات والآخر هما وجود مشتق من جوهرواحد، وأن الآخر الذي قتله في ذاته، وها هو يقتله في الأرض لأنه رأى فيه نقيضاً لوجوده، إن هو إلا وجوده الجوهري في صورة أخرى.
أترك هذه الورقة برسم جميع ضحايا الفكرة الطائفية، وفكرة التعلق بالطائفة كمرضعة جماعية. بعد ألف وخمسمائة عام، ألم تبلغ هذه الأمة سن الفطام؟.
طاغية دمشق وزواره
أهو استثمار في العلاقات العامة، أم هو دم الطغاة يجتذب إليه كل دم فاسد. بالأمس استقبل صدام حسين، المحاصر في قصره من قبل الأميركان، اليميني الروسي المتطرف فلاديمير جيرونوفيسكي ،واليميني العنصري النمساوي يورغن هايدر، ليوهم شعبه ويوهم العالم أنه مازال رئيساً وما يزال يأتيه الزوار.
واليوم يستقبل بشار الأسد المحاصر في قصره من قبل شعبه الثائر عليه، وليس من قبل قوة خارجية ،العنصري البريطاني نيك غريفين. وعلى الرغم من وجود فرق أساسي بين حاكم تحاصره قوة أجنبية وحاكم يحاصره شعبه، فإن ما لم ينفع صداما بالأمس، ولم يبدل في مصيره، لن ينفع الأسد اليوم.
لن تقنع زيارة غريفين عاقلاً أن هذا الطاغية سًيستمر في الحكم. ولعل السفاح السوري نفسه بدا متحرجاً من هذه الزيارة من جانب عنصري مفضوح، فحاول التعتيم عليها إعلامياً. وعلى رغم أن سمعة الطاغية تتناسب تماماً مع سمعة زائره البريطاني، الذي يحتفظ لنا سجله بأقبح ما في سجلات العنصريين من مواقف كريهة ضد العرب والمسلمين، إلا أن الأسد لم يبد سعيدا جدا بزيارة غريفين، ولربما توجس منها شرا لما يمكن أن تذكر به من أحداث ووقائع تلت زيارة جيرونًفسكًي وهايدر لصدام، عشية سقوطه ،فهيً بلا شك إشارة قوية من بين إشارات أخرى على قرب سقوط طاغية دمشق.
ولكن ما السر في ولع العنصريين الأوروبيين الكارهين للآخر، بالطغاة العرب الكارهين شعوبهم؟ ما السر في هذا اللقاء الفارق بين العنصري الأوروبي والطاغية الشرقي؟
لا تستقيم الإجابة عن هذا السؤال في بحث سياسي / تاريخي، وحسب، على أهميته، فمع أمثال هذه اللقاءات بين مضيف محاصر في المكان وزائر يهبط عليه من مكان وزمان مفارقين، بوصفه متضامنا، وهو في أصل زيارته وفصلها زعيم مرذول يناكف أخصامه السياسيين من أهل جلدته، لابد، هنا، منً قراءة سايكولوجية لما هو عجائبي في سلوك الطغاة وحلفائهم وزوارهم، وكذا والزمر التي تحيط بهم .وهنا علينا أن نتوجه بأنظارنا نحو الحاشية المهووسة بطاغيتها والمبتلية به، والباحثة عن خلاص لنفسها ،وقد أخذت تتصرف في ساعات الشدة متخبطة بين اليأس من مستقبل الطاغية الذي يحاصره شعبه ،والأمل في وقت أطول قد يتيح لها ولطاغيتها مخرجا من الحصار. عندما لا يبقى للطاغية منقذا من عزلته سوى سقط البشر من أمثال العنصري غريفين، فمًن المؤكد أن هذا الزائر القبيح خرج من الدًفاتر القديمة للحاشية، التي بعد بحث مجهري لم تجد في تلك الدفاتر التي كانت يوماً عامرة بالأسماء ،سوى الأشخاص المرذولين من شعوبهم ومجتمعاتهم. لقد انفض العالم عن الطاغية، وحل الخريف .
فالطاغية، كما في رواية غابرييل غارسيا ماركيز بات في خريفه، ولم تعد تزوره سوى الأوراق الصفراء: جيرونوفسكي، هايدر، واليوم غريفين، أوراق صفراء كل ما يفعله ظهورها في المشهد هو التأكيد على أن ما بقي للطاغية هو الخريف ليس إلا.
والواقع أن زوار الأسد على مدار عامين ونيف، عربا وأجانب، سياسيين ومثقفين، كانوا، باستمرار، وعلى اختلاف لغاتهم، من الطراز نفسه؛ سقط البشر. وًلًا يشذ عن هذا التوصيف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بخطابه العنصري ضد الشعب السوري. ولا نذكر هنا حكام إيران فهؤلاء لهم مقام آخر في موقعهم من قصر الطاغية السوري.
على أن الربيع السوري الذي حوّله سفاح دمشق وحلفاؤه إلى شتاء دام امتد لعامين ونصف العام ،وحصد مئات آلاف الأرواح ودمر بلادا بأكملها وهجّر الملايين من ساكنتها، لم يستطع أن يبدل خريف الطاغية ربيعا. ولن يستطيع، بالتالي، هًؤلاء المتهافتون على دم السوريين أن ينقذوا سفاحا في خريفه ،قد يطيلون من عمره قليلاً، لكنهم لن يمنحوه المستقبل، والحال أنه كلما وصل زائر منهمً إلى قصره لمعت الأوراق الصفراء أكثر، فالنهاية كتبتها دماء السوريين. إنما اللا أخلاقي في المسالة أن بعض الزوار يتكلم في الأخلاق.
هل يبدو طريفا بعد ذلك، أن لغة العنصري البريطاني غريفن، ولغة جماعات اليسار البريطاني، بعضهم على الأقل، )كماً هو الحال بالنسبة إلى جبهة «أوقفوا الحرب» التي تظاهرت في لندن أمام السفارة الأميركية مطالبة بوقف مساندة التغيير في سوريا( ولغة بعض القوميين العرب، في الأردن خصوصا، باتت كلها لغة مشتركة؟ لغة متماهية، في زيفها وخطلها، مع أفعال الطاغية، بحجة أن هذا السفاح هوً نصير الأقليات، وحارس التعددية والتنوع في الهيكل السوري؟ ألا يبدو هذا مفارقا؟ً!
لغات زوار الأسد متعددة ورسالتهم واحدة: التضامن مع المجرم في جريمته وتجريم الضحية. بعضهم يخلع على بدن الطاغية المرتجف عباءة العروبة ويشد على يده المضرجة بدم شعبه، واصل القتل ،فنحن معك. وبعضهم يصافح اليد التي دمرت سوريا، ويحيي الهمة العالية للطاغية: واصل تدمير بلدك فنحن معك.
يحملني ظهور العنصريين الأوروبيين، المعادين للعرب والمسلمين، في جنازات الطغاة العرب، على التساؤل: كيف عادت فظهرت هذه الوجوه القبيحة في أيامنا، بعدما خيل إلينا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد جرمتها مجتمعات أوروبا المكلومة بسببها بـ 56 مليون قتيل. وما الذي عاد فجعل لها مع مطلع الألفية الثالثة رواجا لدى الناس؟ هذان سؤالان حاولت الإجابة عنهما في أوروبا وأميركا عشرات القراءات والتحليلات الًحائرة التي وضعها كتاب ومفكرون هالتهم عودة الكلمات العنصرية إلى فم البشر، فراحوا يتأملون في ظروف عودة العنصرية إلى جزء من الخطاب الغربي. لقد أجمعت القراءات على أمرين، هما سببان وجيهان تمثلاً أولاً في تفاقم أزمات رأس المال في ذروة توحشه ،والذي فاقم مشكلات العالم كله، وثانياً فيما سمي بسقوط الإيديولوجيا، مع اندحار التجربة الشيوعية ودخول العالم في فوضى أفكار فرضتها نهاية الحرب الباردة، وسقوط جدار برلين، والتهاوي الدراماتيكيللتجربتين الشيوعية والاشتراكية، من دون أن تنجح الرأسماليات الكبرى في إعطاء أجوبة خلاقة عن أسئلة البشر حول قضايا ومسائل كبرى، تتعلق بالعدالة في توزيع الثروة، وتوفير فرص العمل، وحل مشكلات اجتماعية واقتصادية شتى، كانت النظم النقيضة للرأسمالية، على اختلاف صورها وخطاباتها وشعاراتها، قد فشلت في إيجاد حلول لها. فإذا بعقابيل المراحل السابقة للصراع بين جبهتي الرأسمالية والاشتراكية تطفو على سطح الخطاب البشري، على صور شتى، بينها النزعات العنصرية ضد الأجانب في الغرب، مقابل النرجسيات العقائدية ذات الطابع الديني المتطرف، في الدول المأزومة التي شكلت حلقات صغرى تائهة في مطحنة الاستقطابين الكبيرين إبان الحرب الباردة.
هكذا باتت نزعة العداء للأجانب التي وجدت لها ناطقين شرسين، كلوبان في فرنسا، وهايدر في النمسا ،ثم غريفين في بريطانيا، وجيرونوفسكي في روسيا، وغيرهم في نواح أخرى من أوروبا. ناهيك عن حفنة كاملة من عتاة الأوروبيين الصهاينة الذين استوطنوا فلسطين، وعملوا، ومازالوا يعملون على تصفية وجود الشعب الفلسطيني في وطنه، وفي ما تبقى منه.
لقد غذت هذه المفارقات اللاإنسانية، أوساط المهاجرين في ديار الهجرة العربية إلى أوروبا وكذا في ديار العرب نزعات مرضية شتى بينها نزعة الارتداد إلى الماضي لدى جماعات وجدت في خطاب مواجهة «الآخر» المتسيد والمتكبر ذي الصبغة الدينية، ملاذا يتيح لها بعض ما توهمته من أسباب القوة ،وعاصماً يعينها على الاجتماع ثأرا لكرامتها الجماعية المهدورًة.
لم ينتج الخطاب العنصري والرد عليه بنرجسية مهيضة، أو بعنصرية سوى الآلام.
الأسد أو لا أحد
ينسى قراء التجربة السورية وينسى معهم الكبار الدوليون الضالعون في المسألة، أو هو يتعمدون تجاهل الخطابات اليومية العنيفة للنظام الموجهة نحو شعبه، من شعارات مكتوبة على الحيطان في الشوارع والمراكز التي يحتلها جنوده وشبيحته ومشايعوه، وعلى الدبابات والمركبات الثقيلة المقاتلة ،وكلها كتابات تذهب إلى الإعلان الفاضح عما عزم عليه النظام وراح ينفذه بشكل مدروس وممنهج من سياسة الأرض المحروقة، وهي السياسة المعلنة من اليوم الأول.
لا يحاجج أحد من محاوري أسياد النظام في المحافل الدولية )الإيرانيون إقليمياً والروس دوليا( ولا هم يسائلون هؤلاء الحماة، مثلاً، عن معنى الشعار الفاشي المتطرف القائل: )الأسد أو لا أحد(، ولاً عن ترجمته الجنونية: )الأسد أو نحرق البلد(. هذان الشعاران الصادمان يمكن لكل متابع للحرب التي يشنها النظام السوري على شعبه أن يجدهما في كل 10 أمتار من التراب السوري في كل جهة تسيطر عليها قواته، حتى استحق بامتياز اسم النظام الأسد، وقد أسقطت شعاراته عنه صفة «النظام السوري» بمعنى النظام الوطني. فهو «نظام أسدي» لا غير.
يتجاهل حلفاء «النظام الأسدي» في العراق، وقد شكوه إلى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، لفترة قصيرة قبل اندلاع الانتفاضة الشعبية السورية، بسبب تدخله الدموي في العراق، من خلال تصديره لآلاف المقاتلين التكفيريين، من أعضاء في «القاعدة» وأخواتها، وقد دربوهم في معسكرات سورية انتشرت في غير جهة من الجوار العراقي، بينها معسكر شهير في اللاذقية، يعرفه المحققون العراقيون الذين استجوبوا من وقع في أيديهم من أفراد تلك «العصابات التكفيرية» وقد جهزهم «النظام الأسدي »بالسلاح والعتاد وأمدتهم إيران بالمال والمعلومات، ليعيثوا فسادا في عراق العرب بينما هو يقاتلون الغزاة الأميركان، في لعبة جهنمية كان القصد منها خلط الأوراقً، بما يسهل على التحالف الإيراني السوري تجيير الحال العراقية لصالح إيران، وإحباط قيام نظام ديمقراطي في العراق ينقل عدواه إلى الجوار، ولطالما شكا المالكي زواره من دموية اللعبة، وطالب المجتمع الدولي بالتدخل لدى «حكام دمشق» لوقفها.
لكن المالكي اليوم حليف للأسد يرسل ألوية شيعية تقاتل إلى جانبه في حربه المفتوحة على شعبه تحت شعار: )الأسد أو نحرق البلد(. فما الذي تغير في سنتين؟
)الأسد أو لا أحد(، و)الأسد أو نحرق البلد( الشعاران الأكثر رواجا منذ اندلاع الانتفاضة السورية، هما الترجمة الحرفية للجريمة الجماعية التي ارتكبها الأسد الأب بحق الًشعب السوري، والاغتصاب الجماعي لحقوق السوريين وكرامتهم الجماعية الذي مارسه نظامه بحقهم، وقد ارتفعت صورته المتألهة في المدينة يذيلها وعلى مدار 40 عاما، الشعار العدمي: )إلى الأبد يا حافظ الأسد(. هنا يكمن أصل الشعارين الرائجين اليوم، في ما فرضه طاغيةً على شعب. وفي هذه الجريمة المتواصلة، لا يشكل وجه بشار الابن المريض نفسيا، برقبته الطويلة ووجهه الباهت في الصورة، سوى ذراع طويلة لميت متأله يحكم من عتمة القبر شعًبا من العبيد يسكنون في مقبرة، لكنه اليوم نفض عنه تراب الذل والموت خوفاً، ليخرج مرة، وإلى الأبد، إًلى نور الحياة.
لنجرب أسماء أخرى نستبدل بها اسم الأسد: )كاميرون أو نحرق بريطانيا(، )ميركل أو نحرق ألمانيا( ،)أولاند أو نحرق فرنسا(، )أوباما أو نحرق أميركا(، )شي جين بنغ أو نحرق الصين(، )جاكوب زوما أو نحرق جنوب أفريقيا(، )ميشال سليمان أو نحرق لبنان(…. بدوركم جربوا أسماء أخرى… هل يمكن لمثل هذه المعادلة البذيئة أن تكون لغة بشر يعيشون في عصر الأمم، وفي أزمنة البشر الأحرار؟
إنها لسخرية بأبسط ما تعارف عليه البشر من حقوق البشر، وواجبات البشر، أن يقبل بشرٌ في العالم شيئا من هذا الجنون الدموي، أن يسمع به ويراه )ناهيك عن أن يسانده أو يحالفه أو يشايعه( من دون أن يتًحرك في إنسانيته ضمير يصحو من غفلة المصالح، ليصرخ، لا في الطاغية وحده، ولكن في صانعي المشهد كله، وفي المتواطئين الكبار المتوارين وراء القاتل وحماته: لا لهذا الجنون الإجرامي أن يتحكم بمصائر البشر، بينما عالم صامت، نخبا فكرية، وبشراً أسوياء، مهمل واجباته الإنسانية، وقد جعل من نفسه شريكا، بالضرورة، في جريمة العصًر.
التاريخ سوفً يكتب أسماء سادة اللعبة بحروف العار.
وكيف أمكن، أيضا، لكل أولئك الذين نافحوا، دفاعا عن الطاغية ابن الطاغية الذي قتل أكثر من مائةألف من شعبه، وسًجن 250 ألفاً، واغتصبت عصاباتهً النساء جماعياً وسحلت الثائرين في الطرقات حتى لفظوا أنفاسهم، وعذّب الأطفال حتى الموت، ودمر بلادا بأسرها، وشرد ربع شعبه، وجعل من سوريا عصفاً مأكولاً تخيم عليها أشباح الفجيعة، وتحوم في سماوًاتها الغربان.
كيف أمكن لعالم رأى كل هذا يجري في أرض قديمة سكنها التاريخ وأعطت البشرية الحية اليوم دينها وثقافتها الروحية مجبولة بفكرة المسيح الفادي، من دون أن تفتدى بالعقل والقانون والإنصاف.
إن الحاكم المتأله لا حياة لألوهيته المزعومة، إلا في وجود عبيد مذعورين استكانوا للذل وألفوا أغلالهم ،فباتت زينة لهم، وتماهوا مع قسوة سيدهم ونسله المتأله، ليمكنهم أن يهتفوا في «بهجة» المقيم في الأغلال: «مطرح ما بتدوس منركع ومنبوس»، ومن ثم يولدون من رحم الجريمة التي أدبهم بها سيدهم ،لتحولوا إلى عبيد مسحورين على صورة قتلة يبجلون الجريمة ويقدّسون حارسها، فلا حياة لمن يرفع رأسه مطالبا بالحرية، بل مصير طالب الحرية هو الركوع عند صورة الإله الابن وتقبيل صورته: )اركع لربك.. بشار ربك(، و»ما من رب سواه.»
لكن فتى دون السادسة عشرة، في مقطع فيديو على اليوتيوب سوف ينكر ألوهية تلك الصورة، وينال رصاصة في رأسه.
وبعد كل ما سلف، كيف رأى العالم ما رأى، ورأى ما هو أفدح منه، وما يزال يطالب الضحية السورية بالجلوس إلى القاتل.
صادق جلال العظم ومساجلوه
دار مؤخرا سجال في الصحافة بين صادق جلال العظم وبعض المناصرين لعلي أحمد سعيد )أدونيس( ممن أخذوًا على عاتقهم المنافحة عن الشاعر وموقفه المناوئ للانتفاضة السورية، وكان آخر هؤلاء من أهل بيت الشاعر، ونقصد به الناقدة خالدة أحمد سعيد التي كتبت في الحياة يوم 17 مايو/أيار الماضي تحت عنوان «ردا على صادق جلال العظم في شأن أدونيس.»
بين مساجلي صاًدق جلال العظم حول موقف أدونيس من الثورة السورية وبينه فجوة، ليست في الأفكار، ولكن في أصل الخطاب وفصله. فالمفكر قرأ الواقعة السورية انطلاقا من وعي نقدي جارح ،موجه أساسا، ليس إلى النظام، ولكن إلى النخبة التي اختلط عليها الأمر. وهًو خطاب يذهب إلى صلب الحقائقً السورية. ويلجأ مساجلوه إلى التعلق بالذرائع في مدافعة مواربة عن الذات المتلبسة بسقطتها. )والذات هنا أدونيس( التي ينحرف الدفاع عنها بالنقاش عن جوهره ويلوذ بـالـ «هوامش» والـ «قشور» مبتعدا عن الجوهري إلى العرضي والشخصي.
يسجل لصادق جًلال العظم هدوء أعصابه واكتفاء خطابه بأصل المسألة: الموقف من الثورة السورية ،مقارنة بالموقف من غيرها من الثورات، لاسيما الثورة الإسلامية في إيران. فلا ينزلق إلى ما انزلق إليه أهل بيت أدونيس الشاعر المعادي للانتفاضة السورية لاعتبارات لم تعد خافية على أحد بعد مقال صبحي حديدي المنشور في العدد الأول من مجلة «دمشق» «مواقف لا تنفط عن الوظائف» والذي تناول فيه موقف على احمد سعيد )أدونيس( الغريب من الانتفاضة الشعبية السورية.
ولو تركنا المدافعين عن موقفه جانبا، فأدونيس كال الانتفاضة السورية بمكيال أعور فرأى فيها انتفاضة رجعية لكونها تخرج من المساجد ولًا تخرج من مكان آخر، والمساجد، لكل من عرف سوريا ونظامها القمعي، يعرف أنها المتاح الوحيد للاجتماع. لكن الشاعر ينكر على الشعب انتفاضته على حكم ديكتاتوري تسلطي عائلي طائفي النزعة ودموي، ويذهب على التمويه على المسالة باعتبار نظام الأسد نظاما بعثيا، بينما البعث في سوريا، كما يعرف هو بالتأكيد، ويعرف كل سوري ومعهم القاصي والداني ،هو حًزب مًيت. أما الوجه المتواري وراء القناع فهو وجه عائلة الأسد، وفي ما بعد حماتها الإيرانيون الذي يحتلون، اليوم، الإرادة السياسية لثلاث عواصم عربية: بغداد، بيروت ودمشق، وما أظن أن أحداً يمكنه أن ينكر هذه الحقيقة.
لم يبق مثقف عربي إلا وهاله موقف أدونيس من الثورة السورية لاسيما عندما اعتبر طاغية دمشق رئيسا منتخبا، وأن الثورة التي تخرج من الجوامع في دمشق لا تستحق أن توصف بأنها ثورة ديمقراطية تتطلعً نحو الًمستقبل.
أدونيس يحمل نحو الثورة السورية خطابين متكاملين واحد موجه إلى الغرب الذي لم يتوقف يوماً عن ممالأته، والآن تحذيره من ثورة أصوليين يهددون الحضارة وتساندهم دول الخليج التي لم تعرف انتخابات ديمقراطية، والآخر موجه نحو الثقافة العربية مفاده أنها ثورة أصوليين يهددون الحياة المدنية كما يهددون التنوع في مجتمعهم أما الشعب السوري الثائر، فهو، في هذه المعادلة الفاسدة، غير موجود.
لكن ماضي أدونيس القريب يحتفظ لنا برد مؤلم على هذا الخطاب، ويشي بشيء مريب، فهي ثورة تخاصم المستقبل ومرذولة من الحداثيين عندما تخرج من جامع سني في دمشق، وممجدة عندما تخرج من جامع شيعي في طهران.
في الأولى رجعية نكوصية يساندها الخليج، وما أدراك ما الخليج، لاسيما في مخيال الغربيين، وممجدة طاهرة مستقبلية وصانعة قدر للمظلومين، في الثانية.
هنا ما نشر أدونيس في صحيفة «السفير» اللبنانية يوم وصول الخميني إلى طهران راجعاً من منفاه في باريس، وقد أنجز الفصل الأول من ثورته الإسلامية الأصولية:
«أفقٌ ثورٌةٌ والطغاة شتاتكيف أروي لإيران حبّيوالذي في زفيري
والذي في شهيقي تعجز عن قوله الكلمات؟سأغنّي لقمّ لكي تتحول في صبواتينار عصف، تطوّف حول الخليج»
والآن، بعد عامين ونيف على الانتفاضة السورية، وفي الوقت الذي عمل فيه النظام على خلط الأوراق ،مرارا، جاءت نتائج الخلط موافقة لخطاب الشاعر الذي انتفع، بالضرورة، بما صنع النظام. فالانتفاضة السوًرًية هي – حسب أدونيس – انتفاضة أصوليين ثورتهم عدوان على نظام علماني وجوده بمثابة ضرورة لا غنى عنها حماية للأقليات.
بل أبعد من ذلك يذهب أدونيس قبل أيام قليلة إلى التصريح على مسمع من شعراء العالم في مهرجان روتردام في هولندا بأن «الصراع ليس جديدا وليس له علاقة بالحريات بقدر ما هو صراع طائفي بين مكونين». «الحياة »29 حزيران / يونيو 2013. هذا ما يراه شاعر الحريات في ثورة الشعب السوري.
إن نزول حزب الله، مؤخرا، إلى الميدان إن هو إلا الوثيقة العملية الدامغة على المنحى المذهبي للخطاب المعادي للثورة السًورية، وهو ما يؤكد سلامة التحليل الذي ذهب إليه المثقفون السوريون المساندون للثورة في قراءتهم للمواقف المعادية لها، وعلى رأس هؤلاء صادق جلال العظم الذي لم يقصر عمله الفكري على التصدي للخطاب المراوغ لأدونيس، ولكنه طرح السؤال الأصعب عما تعنيه حقيقة أن الأرض التي استهدفها النظام طوال السنتين ونيف وجعلها أرضا محروقة وقاعا صفصفا في سوريا كانت في غالبيتها العظمى ديار أهل السنة ومساكنهم ومزارعهم وأرًزاقهم، فضلاً عنً أن النسًبة الساحقة من ضحايا الثورة وشهدائها، كما جرى توثيقه، إنما تنتمي إلى هذه الأكثرية المستضعفة، ولهذا على الأرجح راح يتلقى سهاما صدئة من أهل بيت الشاعر وجبهة أنصاره.
ليس ما تقدم دفاعا عن صادقً جلال العظم، فهو قادر على الدفاع عن أفكاره، وإنما إشارات إلى وقائع فكرية في ظلال الانًتفاضة السورية. ويهمني أخيرا أن أشير إلى أن هذه الأكثرية المستضعفة، اليوم، لم تعتبر نفسها في أي يوم مضى طائفة، ولكنها اعتبرًت نفسها قلب أمة. ومن هنا، على الأرجح، يجب أن تقُرأ طمأنينتها التاريخية، وعدم حذرها كأكثرية من الأقليات الطائفية والقومية التي ساكنتهم وساكنوها ،وأسسوا معها وطناً، وبلوروا معها هوية سورية جامعة في العصر الحديث.
الملف الفلسطيني:
الملف الرئيس لهذا العدد من «دمشق» تمحور، أساسا، حول أحوال الفلسطينيين السوريين، في ظل الثورة السورية، وطبيعة مشاركتهم الواسعة خلال أكثًر من سنتين في انتفاضة الشعب السوري ،وقد آزروها وانخرطوا فيها بوصفها انتفاضتهم ضد نظام جائر استغل قضيتهم الوطنية، على مدار 04 عاما، أبشع استغلال، وجعل منها قميص عثمان، وورقة توت أخفى وراءها عورته القبيحة. وقد شملت المقاًلات موضوعات تتصل بالحياة اليومية الفلسطينية في المخيمات والمدن والأرياف، الآثار الكارثية التي ألحقها النظام بمساكن الفلسطينيين وممتلكاتهم وقام بتجديد نكبتهم إسوة هذه المرة بنكبة الشعب السوري التي جاءت ردا على مطالبتهم العارمة بالحرية والكرامة والنهوض الوطني والأيقونات التي ظهرت خلال الثورة تكشفً عن طبيعة انخراطهم السلمي والمسلح بها، ويشمل الملف أسئلة وملامسات أولى حول تأثيرهم بها وتأثر أحوالهم بمجمل ما يجري على الأرض السورية.
شاركت في الملف نخبة من الكتاب والمفكرين الفلسطينيين والسوريين. و»دمشق» إذ تكرس ملفها للفلسطينيين في علاقتهم بالثورة السورية، إنما تفعل ذلك انطلاقا من موقف مبدئي، ومن رؤية فكرية ودوافع أخلاقية، ومن اعتبارات شتى، بينها واجب المساهمة فًي إلقاء ضوء على واقع وأحوال الفلسطينيين السوريين راهنا في مخيمات سوريا ومدنها )التي ضربها زلزال سلطة البعث وجيشها الذي تحول إلى قوة غازية، مًسنودا بميليشيات طائفية سورية ولبنانية وعراقية(، وبينها ضرورة تنبيه القوى السياسية المعارضة إلى ضروًرة الاهتمام أكثر بالملف الفلسطيني في الثورة السورية، انطلاقاً من محددات تعيد التأكيد على المبادئ الأساسية، بمستوياتها السياسي والقانونية، التي حكمت العلاقة بين الشعبين، على الأرض السورية، وكذا في ما يتصل بالصراع العربي الإسرائيلي وحقوق الفلسطينيين التاريخية بفلسطين، وتوضيح موقف الثورة السورية وسوريا المستقبل من مجمل القضية الفلسطينية ،بما في ذلك إعادة تنظيم الوضع القانوني للفلسطينيين في سوريا، بما يجعلهم على قدم المساواة مع الشعب السوري، ويحفظ لهم في الوقت نفسه هويتهم الوطنية.
ولابد هنا من الإشارة على أن الملف الفلسطيني في الثورة السورية ظل، إلى حد كبير، مصموتا عنه، ولم نجد سببا موضوعيا لذلك، ففي إثارة قضية جوهرية، كهذه، من قبل مثقفي الثورة السورية، تأكًيد فكري وأخلاقي عًلى وحدةً مصير الشعبين.
تكفل بإعداد الملف الكاتب والباحث يوسف فخر الدين، وشارك في المهمة قلم التحرير.
ويهمنا هنا أن نتوجه بالشكر إلى «تنسيقية مخيم اليرموك» التي أعطتنا الإذن بنشر بعض المقالات والشهادات التي أعدتها، والتي أغنت الملف، فوجبت الإشارة.
رسالة إلى المثقفين
الثورة المصرية تصحح مسارها، وميادين مصر تعيد إلى النشيد الأول لحنه العميق، وبينما جيش مصر يلتحم بشعبها، تتواصل الحملة العسكرية المجرمة على شعبنا، في ربوع سوريا كلها، وقد أحالتها الآلة العسكرية لنظام الأسد خراباً ودمارا وموتا، وأرضا محروقةً، وقد نشرت القبور الجماعية في الحدائق والبيوت والساحات العامة، في دمشًق وًرًيفها وًدرعا وحمص وحلب وإدلب وغيرها، مدنا وأريافا، طول البلاد وعرضها، وعممت الفواجع على بيوت جميع السوريين. حدث هذا ويحدث في ظلً اختلالً مريع في ميزان القوة بين حلف الجريمة الجماعية ممثلاً في نظام الأسد، وروسيا، وإيران باستطالاتها المذهبية لبنانية وعراقية، وبكل ما يملكه هؤلاء وأولئك من إمكانات عسكرية هائلة، مقابل قوى الثورة و»الجيش الحر» بإمكاناتهم البسيطة والمحدودة من سلاح وعتاد، لا يعوضونه إلا بشجاعتهم الأسطورية وإيمانهم العميق بكفاحهم الباسل والمحق لإنهاء نظام الجريمة، في ظل عبء هائل ملقى على كاهل شعبنا يتمثل في 5 ملايين لاجئ ومشرد ومهجر، داخل سوريا وخارجها، ومئات آلاف الجرحى. وأكثر من 250 ألف معتقل.
وفي الوقت الذي تفُتح خزائن المال والسلاح للنظام في كل من إيران وروسيا يعامل «أصدقاء سوريا »شعبها ومعارضتها المدنية والمسلحة بالوعود والشح والإرجاء والمماطلة المراوغة، كما لو أن حكماً بالإعدام قد صدر على ثورة الشعب السوري. ومما يؤسف له أن مجتمعا دوليا بأسره لم يتمكن من ردع روح الشر في الراعي الروسي لنظام الجريمة بدمشق، والذي عطل أخيرًا مجرًد بيان في مجلس الأمن يطالب بتسهيل خروج المدنيين المهددين بالموت في حمص المحاصرًةً. فبأي قيم يريد العالم من السوريين أن يؤمنوا بعد اليوم؟!
لقد أسهم التخاذل الدولي عن نجدة الشعب السوري، باستحقاق أخلاقي أممي، في تشتت المعارضة ،واتساع شقة الخلاف بين أطرافها، وقطعت التدخلات الإقليمية والدولية في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالتشكيلات المعارضة، الطريق على وحدتها، ولم يقيض لهذه المعارضة جبهة فكرية ثقافية عريضة تعمل كضمير للشعب السوري، يرشدها ويردع انحرافها ويردها إلى طريق الصواب عندما تخطيء أو تقصر عن فهم متطلبات الثورة. لم يتمكن المثقفون السوريون، للأسف، من تشكيل مثل هذه الجبهة الفاعلة داخل سوريا وخارجها، مع الشعب السوري ومع العالم، فطفا على سطح المشهد في تمثيل الشعب السوري شخصيات احتكمت لولائها الحزبي، وطموحاتها السياسية أو لمصالحها الشخصية، وأنانياتها الفردية. وقد بددت الوقت وجمّدته في ترهات «النُسب» وعدد «المقاعد» في هذه الهيئة وتلك ،لاسيما في «المجلس الوطني» و»الإئتلاف»، بينما عدّاد الشهداء والضحايا من كل الأطراف السورية ،وحده الفاعل في المشهد». ولطالما حاولنا، كشعراء ومفكرين وفنانين، أن نؤسس مثل هذه «الجبهة ،»لكن تشرذم المعارضة وصراعاتها المهلكة، وانقسام المثقفين، من حولها ومعها، عطل علينا، حتى الآن ،هذا الطموح، من دون أن يلغي الحاجة الماسّة والخطيرة لقيام مثل هذه «الجبهة»، أو هذا «الكيان »الثقافي، الضميري، الحكيم والأخلاقي، ليلعب دوره التاريخي في إسناد انتفاضة الشعب السوري وشرح قضيته في العالم، وفي الوقت نفسه كشف جرائم النظام من جهة، وأخطاء المعارضة من جهة ثانية ،وتصويب توجهات الحراكين السلمي والعسكري، لتقصير رحلة الآلام الطويلة التي حوّلها النظام والعالم إلى «هولوكوست سوري» و «داياسبورا سورية.»
إن المثقفين السوريون، شعراء وفنانين ومفكرين وصناعيين وقضاة وصحافيين وروائيين وحكماء، هم ضمير سوريا، اليوم، ولا يستطيع أحد مثلهم أن يشكل هذا الضمير ولا يليق أو يجدر بهم أن يديروا لها ظهورهم يأسا أو تعففا أو خذلانا، لا ينبغي لهم أن يتركوها ضحية لفرقتهم وانسحابهم من المشهد والفعل، ولا أن يًتركوها لعًبث العابثًين من «أنانيي المعارضة وقاصريها»، وقد جعلها سفاح دمشق وعصابات إيران طعما للحريق والخراب والموت.
لا بد أن يتوصل المثقًفون السوريون بفكرهم المضيء وأرواحهم الصافية ونزاهة نفوسهم إلى ماهية هذا الكيان الجامع الفاعل، الذي من شأنه إن قام أن يسند ظهر سوريا المكسور.
في ضوء ما جرى في مصر، مؤخرا، من محاولة أخيرة هي الكي )لم يبُق إخوان مصر لأهلها سبيلاً آخر( لاستعادة ثورة يناير التي فجرهًا شباب مصر وشعبها العطش إلى الحرية والعدالة، وانتشال مصر ،
بالتالي، من خطر السقوط في هاوية الأوجاع ثانية، أو الدخول في حرب أهلية ماحقة، ومع تنبيهنا إخوتنا المصريين، من أننا لا نؤيد انقلابا عسكريا على حكومة دستورية، كما لا نؤيد الإخوان في احتكار السلطة واحتقار الرأي الآخر، على الثورًة السورًية، في ظل هذا المشهد المصري الجديد، أن تتفكر بذاتها كثيرا، بلحظتها الدامية وبالمستقبل الذي تنشده لسوريا والسوريين، بعيدا عن «أوهام» «الدولة الدينية». علًيها أن تعتبر بما جرى في مصر على مدار عامين مضيا، إن في فترة الًعسكر الانتقاليين، أو في فترة حكم «الإخوان»، لعل بعض قوى المعارضة السورية تتجاوز أنانيتها الحزبية لصالح سوريا الوطن الجامع لكل الفئات، على اختلاف اتجاهاتها الفكرية والاجتماعية والثقافية. فهذه السلوكيات الكارثية في أوساط المعارضة، وما ولدته من فرقى في ما بينها، لعبت دورا كبيرا في تأخير ظهور معارضة سياسية متحدة وقوية ومقنعة للسوريين أولاً ومن ثم للعالم، ومددت فًي عمًر النظام المتهاوي، وفي عذابات السوريين. وقد تحولت هذه العذابات الجماعية الكبرى، اليوم، بفعل تغوّل النظام وجرائمه الجماعية إلى هولوكوست سوري، بامتياز وداياسبورا سورية