إبراهيم الجبين عتبات الدم
1963ـ 1980
أكثر مكابدات السوريين إثارة وصعوبة، ما يسمى منها مكابدة الذات، وإعادة قراءة ما قاموا ويقومون به في ثورتهم دون انقضاض واحدهم على الآخر، ولم يكن من السهل على شعب ـ مجتمع، عاش لخمسين عاماً تحت درجة الحياة الطبيعية للإنسان، أن يكون واعياً لكل ما يدور من حوله.
كيف عاش وتأقلم واستمر السوريون في الظلال القاتمة المريعة لحافظ الأسد وبشار الأسد من بعده؟! سؤال آخر لا يقل خطورة عن غيره من أسئلة الثورة اليوم، وهو بحث موسّع مفتوح، لا تطويه قواعد ومحددات الثورة، ولكنها تفتح له الباب مشرعاً للمزيد من التحليل والقراءة والتفكيك في ظواهر شكلت مانشيتات الحياة السورية لنصف قرن من الزمان، ولم يبدُ أن أحدا من المهتمين بالشأن السوري من ناشطين وباحثين قد قرّر أن الوقت حان للانكباب على هذا الملفً وتقديمه للعالم، وربما كان الجميع على حق، ولكن في أثناء هذا لا يتورّع سوريٌ عن قصف سوريٍ آخر ومحاولة حرقه وإبادته، وهي عادة سورية أصيلة عرفها وألفها من قرأ تاريخ سوريا المعاصرقبل البعث وبعد البعث ،ولتكن هذه السطور اليوم، كتابة عن ملف المجتمع السوري ـ سنوات الظلام، وليست الملف ذاته الذي سيأتي لاحقاً واسعاً وعلى أشكال مختلفة.
حطام الستينيات
إذا، دخل السوريون عهد البعث ـ قبل وصول الأسد الأب إلى الحكم بانقلاب عسكري على رفاقه في الحًزب في العام 1970 ـ دخلوا ذلك العهد خائري القوى، بعد تدريب طويل وحثيث على الطاعة والخوف، خضع له المجتمع على يد عبد الحميد السراج قبل الوحدة مع مصر، ثم في فترة الوحدة التي شهدت حّلّ الأحزاب السورية وتجفيف الحياة السياسية والحريات وعسكرة المجتمع، وهدم المنجز الاقتصادي الذي أسست له البرجوازية السورية صانعة الاستقلال، والتي حصلت لسوريا على مركزها التجاري والزراعي والصناعي في العالم، حتى ما قبل التأميم والإصلاح الزراعي ومصادرة الملكيات الفردية، وإلى آخر ما مورس على الحياة السورية آنذاك، ونفذّت بحق الشعب السوري مختلف أشكال الاضطهاد بدءا من النفي خارج البلاد والسجن والاغتيال والقمع الشديد لأي محاولة للتمردّ أو العصيان، سواء في اًلجيش ذاته الذي صنع انقلاب الثامن من آذار 1963، وتمثل بإبادة المئات من الضباط على أساس انتماءاتهم السياسية )ناصريون ـ وحدويون ـ إسلاميون( وعلى أساس انتماءاتهم المذهبية والطائفية )تطهير الجيش السوري من غالبية الضباط المسلمين السنة والإبقاء على الطوائف في مراكز رفيعة وإجراء ترفيعات غير قانونية في مرتبات صف الضباط إلى رتب عسكرية متقدمة وذلك لإحكام السيطرة على الجيش بكل وسيلة( تطبيق التمييز الطائفي، والتقسيم الديني للمجتمع السوري في وظائف الدولة والمراكز الحساسة في أجهزتها، وتمثلّ القمع الشديد أيضا بمجزرة حماة الأولى في عهد محافظها عبدالحليم خدام، ورئيس الدولة أمين الحافظ، ثم بانقلاب العسًكريين البعثيين على ملهميهم وقادتهم مؤسسي حزب البعث ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني، والحكم بالإعدام على الطبقة السياسية الفكرية التي بشّرت بالفكر الذي يحكم العسكر سوريا تحت رايته!
ومع استمرار التصفيات المختلفة وفقا لخطوط تقسيم لم يوفرّها العقل الذي يدبرّ لسوريا مستقبلها )في الاستقرار القادم عماّ قريب( تم إًبعاد الطوائف السورية عن الحكم الواحدة إثر الأخرى، ثم تطبيق التصفية والتطهير داخل الطائفة العلوية ذاتها، التي ينحدر منها حافظ الأسد المتقدّم بخطى حثيثة إلى لحظة ما أطلق عليه حركته التصحيحة في 16 تشرين الثاني 1970، فكان لابد من التخلص من محمد عمران وصلاح جديد قبل أن تجري عمليات الفتك بالضباط الدروز والإسماعيليين وبالتأكيد معظم وأكثر ما يمكن من الضباط السنة.
أما الأحزاب التي عادت لتشكّل ذاتها بعد انهيار الوحدة مع مصر وفترة الانفصاليين ـ كما يطيب للبعثيين تسميتهم ـ فلم ينجُ منها إلا حزب البعث، والإخوان المسلمون الذين تم تمزيع قياداتهم وفصلها عن القواعد ونفي من أمكن نفيه منهم )عصام العطار والمشايخ والقيادات الإسلامية التي أخذت تنزح عن سوريا بالتدريج، ومع تدفق الدماء في المجازر والاعتقالات ـ إضافة إلى الحزب الشيوعي السوري الذي كان قد اتخذ موقفا من فكرة حل الأحزاب ذاتها، وغادر أمينه العام خالد بكداش سوريا إلى موسكو بعد أن قدّم ما سًمّيت وقتها بالنقاط العشر لقيام الوحدة، ولكن تم رفض أفكاره، ففضل الابتعاد عن حملات الاعتقال التي تعرضّت لها كوادر حزبه طيلة السنوات التالية، وعلى رأسهم رياض الترك الذي تم اعتقاله ثم الافراج عنه لاحقاً، ليغادر سوريا إلى لبنان مع انقلاب آذار 1963.
أما الضغط الخارجي الذي تعرضّ له المجتمع السوري، فقد مثله التهديد الإسرائيلي، والذي استعمل بالطبع كذريعة لكل الانقلابات العسكرية التي وقعت في المنطقة، إيلياهو كوهين، وتقديمه للرأي
العام كاختراق كبير للجبهة السورية ـ وهو في الحقيقة صانع تلك الجبهة ومؤسسها بجدارة ـ حرب حزيران 1967 وسقوط القنيطرة واحتلال إسرائيل للجولان السوري، وتدمير وإهانة )أسطورة( القومية العربية إقليمياً، أيلول الأسود وانقضاض الملك الأردني الحسين بن طلال على المقاومة الفلسطينية وطردها من الأردن، موت جمال عبدالناصر.
كل ذلك وضع السوريين في مشهد حطامي خرافي لا نظير له، وهو يعبر الستينيات مثخنا بجراح كثيرة ،مملتئا رعبا وذعرا مما يدور حوله، ولا يعرف كيف ستجري الأمور، ولا من سيحكم سوًريا، ولا كيف سيحكمًها وًلا إلى أًي اتجاه سيأخذها ذلك الحكم، في بيئة تم تفريغها من قيادات الرأي وصنّاع القرار الاجتماعي والسياسي والأخلاقي والوطني.
الاستقرار بأي ثمن!
زجّ حافظ الأسد برفاقه قادة البعث والجيش في السجون، ولم يعدمهم، ليكونوا ورقة تفاوض بينه وبين المجتمع السوري، ورهائن خلف القضبان يمكنه أن يغري بهم الجهات التي يتحدرون منها ،وأحكم السيطرة على الجيش، والتفت إلى تأسيس )الاستقرار السوري( على طريقته هو، ليصنع ما سماّه بنهضة سوريا وإعادة بنائها من جديد، وجاء في البيان الصادر عن القيادة القطرية المؤقتة في 16 تشرين الثاني 1970 أنه: ) ينبغي حشد الطاقات التقدمية، والشعبية، ووضعها في خدمة المعركة ،وذلك من خلال تطوير العلاقات باتجاه جبهة تقدمية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي(، وقد نّفّذ حافظ الأسد حلمه في )صناعة أعداء مناسبين( في 7 آذار 1972، عندما تم التوقيع على ميثاق للجبهة الوطنية التقدمية. إلا أنه تلك الجبهة لم تكن تضم كثيرا من الأطياف السياسية السورية التي رفضت الانضواء تحت قيادة حزب البعث في مشروع وطنيً واحد، وكان من أبرز مقاطعيها الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي بقيادة رياض الترك ورفاقه، والذي ما لبث أن انشق عن قيادة خالد بكداش في العام 1972، وغاب كذلك الإسلام السياسي السوري بمختلف حركاته، والتيار البرجوازي الوطني الذي مثلهّ رجال الأعمال الوطنيين )المؤممين والمصادرة أملاكهم في ذلك الحين.(وانقسم المشهد إلى قيادة تحكم سيطرتها على البلاد تدور حولها وفي أفلاكها معارضة وطنية وافقت على الانضمام إلى حكم الأسد الأب، ومعارضة أبعد بخطوات لم يتمكن حافظ الأسد من احتوائها ،تمثلّ أعداء المشروع النهضوي الوطني الذي جاءت به الحركة التصحيحية، وعدوٌ خارجي رئيسي هو إسرائيل التي تحتل الجولان ويتوجب على الشعب أن يتجهّز لمحاربتها لاسترداد حقوقه، وقائمة طويلة من الأعداء دولاً واتجاهات تتربصّ بالمنجز الوطني للأسد: الاستقرار.
يصنّف الخبراء الاقتصاديون اقتصاد سوريا السبعينيات بـ )الاقتصاد الفاشل( الذي أوصل البلاد في بداية الثمانينيات إلى حافة الهاوية ولم يكن ينقذ سوريا وقتها سوى المساعدات والمعونات المالية التي كانت تصلها بذريعة أنها )دولة مواجهة مع الإسرائيليين، ومن المعروف أن الاقتصاد السوري عانى الأمرين في حقبة الثمانينات حيث أن النمو الاقتصادي وصل في عام 1984 إلى ما تحت الصفر ،وكانت الخزينة السورية حينها مفلسة كما روى وزير الدفاع مصطفى طلاس في كتابه عن تلك الحقبة، ورغم أن الوزير طلاس حمل مسؤولية الإفلاس لرئيس الوزارة حينها عبد الرؤوف الكسم، إلا أن سبب الانهيار الاقتصادي كان في الحقيقة يعود لأسباب هيكلية أعمق من ذلك بكثير وهي تعود إلى فشل النهج الاقتصادي الذي كانت الدولة السورية تسير عليه في ذلك الوقت والذي كان مستمدا من نموذج الاتحاد السوفييت، وقد حاول حافظ الأسد بعد الحركة التصحيحية الابتعاد عن النموذج (الاشتراكي( الجاف الذي كان مطبقا في أواخر الستينات ولجأ بدلا من ذلك إلى نموذج اقتصاد الدولة المخطط، ورغم أن الاقتصاد السوري حقق نموا كبيرا في السبعينات إلا أن هذا النمو سرعان ما أثبت أنه غير مستدام في أوائل الثمانينات، وأسباب ذلك هي في الأساس داخلية هيكلية وليست خارجية،لقد توصلت الحكومة السورية في أواخر الثمانينات إلى قناعة بحتمية الإصلاح الاقتصادي للخروج من حالة العجز والانكماش المستمر، ولكن ارتفاع إنتاج النفط السوري في تلك الفترة كان له تأثير سلبي حيث أن الدولة لجأت إلى عائداته لتغطية العجز وترقيع الاقتصاد المهترئ بدلا من الشروع في إصلاح اقتصادي جدي وعميق، رافق ذلك تزايد مضطرد في عدد السكان، وانخفاض في فرص العمل المتاحة للقادرين عليه، مع تضخّم كبير للمؤسسة العسكرية، التي تدفق إليها المزيد من ابناء القرى الساحلية السورية ضمن خطة عسكرة الطائفة العلوية، والسيطرة على الجيش، وكان لابدّ من فعل اي شيء لاكتساب الشرعية الوطنية والسياسية والمكانة الدولية حينها، عبر الحرب التي كثيراً ما غنى لها الشعب السوري وعدّها انتصاراً كبيراً، حرب تشرين/ أكتوبر 1973.
تشرين 1973 حرب التحرير والمزيد من خسارة الأرض والإنسان
صدّق الشعب السوري أهداف تلك الحرب، واعتبرها حربا نبيلة من أجل استرداد الحقوق والكرامة العربية التي مرغّت بالتراب في هزيمة العام 1967، وخاضً حربا كبيرة في منطقة صغيرة شاركه فيها العرب والعالم، وانتهت الحرب رسميا بالتوقيع على اتفاقية فكً الاشتباك في 31 أيار مايو1974 حيث وافقت إسرائيل على إعادة مدينة القنيطرة لسوريا وضفة قناة السويس الشرقية لمصر مقابل إبعاد القوات المصرية والسورية من خط الهدنة وتأسيس قوة خاصة للأمم المتحدة لمراقبة تحقيق الاتفاقية.
اتفاقية الهدنة وفصل القوات الموقعة في 31 مايو 1974م بين سوريا وإسرائيل بجنيف بحضور ممثلين عن الأمم المتحدة والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، تضمنت النقاط التالية:
إن إسرائيل وسوريا ستراعيان بدقة وقف إطلاق النار في البر والبحر والجو وستمتنعان عن جميعالأعمال العسكرية فور توقيع هذه الوثيقة تنفيذا لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 338 المؤرخ في 22 أكتوبر 1973م.
سيجرى الفصل بين القوات الإسرائيلية والسورية وفقا للمبادئ التالية:
ـ اتفاق عسكري على مناطق نفوذ محددة للطرفين.)حددته بنود متصلة بخرائط عسكرية(ـ يوقع هذا الاتفاق والخريطة المرفقة بجنيف في موعد لا يتجاوز 31 مايو 1974م من جانب الممثلين العسكريين لإسرائيل وسوريا في فريق العمل العسكري المصري – الإسرائيلي التابع لمؤتمر جنيف للسلام تحت إشراف الأمم المتحدة بعد انضمام ممثل عسكري سوري إلى ذلك الفريق وباشتراك ممثلين للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وسيتم وضع خريطة تفصيلية وخطة لتنفيذ فصل القوات بواسطة الممثلين في فريق العمل العسكري لمصر وإسرائيل وسوريا، وسيبدأ فريق العمل العسكري المبين فيما سبق عمله من أجل تحقيق هذا الغرض بجنيف تحت إشراف الأمم المتحدة خلال خمسة أيام، وسيبدأ الفصل بعد 24 ساعة من إتمام مهمة فريق العمل العسكري ،وستتم عملية الفصل في موعد لا يتجاوز 20 يوما.
ـ إن مراقبة تنفيذ شروط الفقرات الأولى والثانية والثالثة سوف تتم من جانب أفراد الأمم المتحدة الذين يشكلون قوة مراقبة الفصل التابعة للأمم المتحدة طبقا لهذا الاتفاق.
ـ سوف يجري في غضون 24 ساعة من توقيع هذا الاتفاق تبادل جميع الجرحى من بين الأسرى الذين يحتجزهم كل جانب طبقا لشهادة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وغداة إتمام مهمة فريق العمل العسكري سوف يجرى تبادل أسرى الحرب الباقين.
ـ تسلم جثث جميع الجنود القتلى التي في حوزة كل من الجانبين لدفنها في بلادهم في غضون عشرة أيام من توقيع هذا الاتفاق.
ـ لا يعد هذا الاتفاق اتفاقية سلام نهائي – رغم أنه خطوة نحو سلام دائم على أساس قرار مجلس الأمن رقم 338 المؤرخ في 22 أكتوبر 1973م
وبدأ عهدٌ سوريٌ جديد، واعتبر حافظ الأسد نفسه منتصراً في الحرب…دون أدنى شك..وسماّها حرب تشرين التحريرية .
وقد كشف السفير السوفيتي السابق فلاديمير فينوغرادوف )الذي عمل في فترة 1970-1974 في القاهرة( في حوار أجرته معه قناة روسيا اليوم الروسية الرسمية عن أنه أورد في مذكرته الموجهة إلى القيادة السوفيتية وغير المنشورة سابقا، خفايا حرب اكتوبر )تشرين الاول( عام 1973 بين مصر وسورية من جهة واسرائيل من جهة أخرى، والتي وصفتها وسائل الاعلام بـ )الحرب المزيفة( وقال فينوغرادوف إن حقائق ثابتة يجب إيضاحها والاعتراف بها تثملها النقاط التالية:
ـ كانت الولايات المتحدة تعرف بالعمليات الحربية المتوقعة ووافقت عليها وسعت إلى )غض النظر( عن الانباء الواردة من الأردن وفي أغلب الظن من مصادر أخرى.
ـ رصدت دوائر الإستخبارات الامريكية والإسرائيلية عملية اجلاء أفراد الاسر السوفيتية بصورة جماعية – وكان لا بد لها من ذلك. ويبدو أن الولايات المتحدة عملت بالاتفاق مع القيادة العليا في اسرائيل أملا في ان تلحق الهزيمة بالقوات المسلحة العربية حتما، الأمر الذي سيمنح اسرائيل فترة استراحة أخرى لمدة 10 – 15 عاما. وكانت إسرائيل على استعداد لهذا الغرض بالتضحية بجزء من قواتها في سيناء،وبهذا تركز إنتباهها على الهزيمة.
ـ لا ريب في انه كان من الصعب ألا يلاحظ العملاء السريون الامريكيون والاسرائيليون تحركات قوات كبيرة ناهيك عن التقارير ذات الطابع المحدد أكثر الآتية من العملاء حول عمل )الاماكن الطيبة( في الجهاز العسكري وجهاز الدولة في مصر. فهذه التقارير أهملت لهذا السبب او ذاك بدون أن تترك عواقب، لأنه تقرر سوية مع الأمريكيين أن يجري )التراجع( في الفترة الاولية، أي إعطاء السادات الفرصة لبدء الحرب، وبعد ذلك توجيه ضربة تلحق الهزيمة به، انطلاقا من عدم توفر النية لدى السادات لتحرير الاراضي المحتلة من قبل الاسرائيليين باستخدام العمليات العسكرية، بل فقط )ممارسة لعبة( بموافقة الولايات المتحدة.
ـ يبدو ان السوريين كانوا يعرفون نوايا السادات في أن يمارس فقط لعبة الحرب سوية مع الولايات المتحدة.
ـ كان بوسع الولايات المتحدة،طبعا، منذ الأيام الاولى، وقبل أن يبدأ الاتحاد السوفيتي في تقديم المساعدة إلى العرب، مساعدة اسرائيل بنشاط، لكن في هذه الحال كانت ستنهار فكرتهم الأساسية في الحفاظ على المصالح الامريكية نفسها، ألا وهو خلق إنطباع بأن الولايات المتحدة أنقذت اسرائيل .ووجب على الاسرائيليين إراقة شئ من الدماء من أجل ضمان المصالح الامريكية، لهذا السبب قدم الامريكيون طلائع القوات الاسرائيلية في سيناء، بموافقة القيادة العليا الاسرائيلية، قربانا لأهداف )السياسة العليا.(
ويمكنك أن تجد في إجابات فينوغرادوف العبارة التالية بعد الكثير من التحليل: )يمكن للمرء أن يتصور وضع وسلوك بعض اطراف هذه اللعبة الدموية؟(
خرج الشعب السوري من الحرب بقوافل شهداء وجرحى وبأوضاع نفسية مشتتة لا تعرف هل انتصرت أم لا؟! فقد ادعى كل مهزوم في التاريخ أنه منتصر بالفعل، وليس بعيدا عن هذه اللحظة انتصار صدام حسين على جيوش العالم بعد احتلاله الكويت، وانتصار حسن نصراللًه في جنوب لبنان وحرب تموز، وانتصار بشار الأسد اليومي في مواجهة الثورة السورية المشتعلة باستمرار.
الأهم أن حافظ الأسد حصل على ضمان قانوني يمنعه من استخدام القوة لاسترداد الجولان، يمثلّه قرار وقف إطلاق النار واتفاقية فصل القوات، ولكنه ما لبث أن أشعل حرباً ثانية تشغل السوريين عنالحياة والمطالبة بالحريات والرفاه….حرب لبنان.
ولكن قبل الحرب في لبنان ودخول الجيش السوري إلى البلد الذي طالما أطلق عليه اسم )سويسرا الشرق( والذي نمت ونشأت فيه وازدهرت الحريات العامة والحياة السياسية والديمقراطية والثقافية ،وكان ملجأ المبدعين والمفكرين العرب وبوابتهم إلى العالم، قبل ذلك كلهّ..كان على حافظ الأسد أن يحكم قبضته على الحكم في سوريا بشرعنة حكمه، وانقلابه العسكري الحزبي، والشرعية لا تأتي إلا عبر الدستور. لنصنع دستورا إذا يبقي الأسد رئيساً على سوريا إلى الأبد ويشّلّ الشعب والقوى السياسية والتشريعية والتنفيذيةً والًقضائية.
دستور شيطاني جديد
بحثتُ عبر برنامج )باسم الشعب( والذي أذيع بدءا من أكتوبر تشرين الأول 2011 وعلى مدى 26 ساعة تلفزيونية مع عدد كبير من الخبراء والقضاة وًالقانونيين، في الدساتير والقوانين التي حكمت سوريا منذ تنظيمات السلطان عبدالمجيد وخط كلخانه الذي يفرض شرعة حقوق الإنسان التي اعتمدت وقتها مبادئ الثورة الفرنسية والخط الهمايوني المتعلق بالحريات والعبادات والأديان ،وصولاً إلى دستور الملك فيصل ملك سوريا، ثم دساتير الاستقلال ودستور الخمسينيات حتى دستور حافظ الأسد الذي وضعه وفصّله له الخبير الدكتور محمد الفاضل وفقا لشهادة عدد غير قليل من الضيوف الذين قابلتهم ووثقوا هذا، ومنهم المحامي الاستاذ مهند الحسنًي والقاضي المستشار خالد شبيب وسواهم، وقد تم بناء هذا الدستور الذي حكم سوريا والشعب السوري وأطبق على مفاصل الحياة السورية حتى تاريخ اندلاع الثورة السورية في آذار 2011، ولا بأس من المرور على سيرة الدكتور محمد الفاضل الذي لولا رسمه لذلك الدستور وخلقه له لما تمكّن حافظ الأسد من الاستمرار بخنق السلطات السورية والدولة وأجهزتها كل تلك الأعوام .
ولد محمد الفاضل سنة 1919في قرية عين الجاش في محافظة طرطوس، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدارس المنطقة، وتعليمه الإعدادي والثانوي في مدارس طرابلس وحلب. ثم التحق بجامعة دمشق )الجامعة السورية( وحصل منها على شهادة الإجازة في الحقوق عام 1942، وتابع تحصيله العالي في أوربا، فحصل من جامعة باريس على دبلوم معهد العلوم الجنائية عام 1948، وعلى دبلوم معهد القانون المقارن، ودبلوم معهد الدراسات الدولية العليا عام 1949. وحصل من جامعة باريس على درجة الدكتوراه في القانون عام 1949، وفي عام 1952حصل الفاضل على منحة دراسية من منظمة الأمم المتحدة لدراسة الأساليب الحديثة في النظم العقابية ومحاكم الأحداث في غربي أوربا ،والاطلاع على مناهج تدريس قانون العقوبات والإجراءات الجزائية، وعلم الإجرام، والتشريعات المالية والاقتصادية والجزائية في الجامعات الأوربية، والتحق بجامعة كمبردج في إنكلترا، كما حصلعام 1961 على منحة دراسية من أكاديمية القانون الدولي في لاهاي للاشتراك في أعمال مركز البحوث الدولية والتعمق في دراسة القانون الدولي، وعُيّن إثر عودته من أوروبا عام 1949 مدرسا في كلية الحقوق بالجامعة السورية، ورقي إلى أستاذ مساعد فأستاذ وأصبح رئيساً لقسم القانونً الجنائي وأصول المحاكمات الجزائية عام 1959، فعميدا لكلية الحقوق عام 1964، ورئيسا لجامعة دمشق عام 1976، وإلى جانب عمله الأكاديمي مارس المًحاماة منذ العام 1944، واختير وزيًرا للعدل في عام 1966، تجاوز نشاط محمد الفاضل العلمي حدود عمله، أستاذا ومحاميا، فشارك فيً عضوية عدد كبير من المجالس والجمعيات ومراكز البحوث العلمية، العربية والأًجنبية، كًما مثل بلاده في عدد كبير من المؤتمرات العلمية والدولية، العربية والأجنبية، رئيسا وعضوا في وفد الجمهورية وممثلاً لجامعة دمشق، وكان لامعا فيها جميعا، منح الفاضل جائزة الدًولة التًشجيعية على إنتاجه العلمي عام 1960، عن كتابه )الًجرائم الواقعًة على أمن الدولة( كما نال جائزة الدولة عام 1968 تقديراً لمؤلفه
)التعاون الدولي في مكافحة الإجرام(، ومنح وسام الاستقلال من الدرجة الأولى ووسام التربية الممتاز من المملكة الأردنية الهاشمية، ومنح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة من الجمهورية العربية السورية، وضع محمد الفاضل عدداً كبيراً من الكتب أهمها: )المذاهب السياسية وأنظمة الحكم( عام 1950، )القضاء الإداري( عام 1950، )العلاقات الدولية في العصر الحديث( عام 1957، )محاضرات في الجرائم السياسية( عام 1962، )الجرائم الواقعة على أمن الدولة( عام 1965، )الجرائم الواقعة على الأشخاص( عام 1965، )قضاء التحقيق( عام 1965، )المبادئ العامة في قانون العقوبات( عام 1965، )التعاون الدولي في مكافحة الإجرام( عام 1966، )المبادئ العامة في التشريع الجزائي( ،)الوجيز في أصول المحاكمات الجزائية( عامي 1976-1977،كما ألف باللغتين الفرنسية والإنكليزية كتبا وأبحاثاً في مختلف فروع القانون، وقد اغُتيل في حرم الجامعة صبيحة يوم الثلاثاء في 22 شباط/فبرايًر 1977.
كان هذا محمد الفاضل، العقل العبقري الذي خلق كائنه الدستوري، ورتبّ أذرعه لتمتدّ وتشمل كافة نواحي الحياة السورية، وبالكاد يمكن للسوريين التنّفّس من بين ثنايا تلافيف الدستور الشيطاني؛ دستور العام 1974، ويمكن من خلال استعراض أسماء مؤلفاته فقط، تمّمّس الاتجاه الفكري الذي سيطر على ذهنه، فما معنى )الجرائم الواقعة على أمن الدولة؟!( وترويج فكرة )الجرائم السياسية!( وحصوله على جائزة الدولة التشجيعية على إنتاجه العلمي عام 1960، عن كتابه )الجرائم الواقعة على أمن الدولة(..وتوليّه حقيبة العدل في العام 1966. فأي وزير للعدل يمكن أن يعمل بعدالة في ظل حكم البعث والعسكر وتلك الفترة المليئة بالمجازر والجور والظلم؟!
جاء في تقرير كتبه الاستاذ جـان حبـش لمركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية بعنوانقراءة في الدستور السوري ما يلي: )لم يوضع هذا الدستور من قبل جمعية تأسيسية أو برلمانمنتخب، كما كان مع دساتير 1920 ) دستور الملك فيصل ( , دستور1930 الدستور المعدل 1943 ، دستور 1950, الدستور المعدل 1961 ) عهد الانفصال(، بل جاء مشابها في وضعه إلى حد كبير لدستور الوحدة 1958, ودساتير البعث كدستور 1964, والدساتير المؤقتة لأعوًام 1966, 1969 ,1971 التي أصدرتها القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي. حيث وضع دستور 1973 من قبل مجلس شعب معين من قبل قيادة قطرية معينة من قبل قائد عسكري وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري ،كما تم أخذ موافقة الشعب السوري على الدستور عبر استفتاء في يوم 12/3/1973.
ويذكر التاريخ أن الحكام كانوا دائما يحصلون على موافقة شعوبهم على مواضيع الاستفتاءات التي كانوا يعرضونها عليهم , وهذه بعضً الأمثلة:
استفتاء حسني الزعيم في 25 حزيران 1949 )وهو أول استفتاء في البلاد العربية(, وافق فيه أغلبية الشعب السوري على انتخابه رئيساً للجمهورية, وتخويله بوضع دستور وحق إصدار المراسيم التشريعية .
استفتاء أديب الشيشكلي في 10 تموز 1953 وموافقة شبه إجماعية على انتخابه رئيساً للجمهورية ,وعلى الدستور الذي وضعه تعديلاً عن دستور 1950 والذي يكرس النظام الرئاسي .
استفتاء جمال عبد الناصر في 21 شباط 1958 وموافقة الشعبين السوري والمصري على تأييد الوحدة وانتخابه رئيسا للجمهورية العربية المتحدة .
استفتاء عهد اًلانفصال في 1و2 كانون الأول 1961 وموافقة الشعب السوري على دستور عهد الانفصال 1961.
استفتاء السادات على معاهدة الصلح المصرية الإسرائيلية )كامب ديفد( في 20/4/1979 والذي وافق فيه الشعب المصري على المعاهدة بنسبة 99.9 %. وقد أتبع السادات هذه الموافقة بقرار جمهوري يقضي بتحريم نقد المعاهدة واعتبار ذلك جريمة يعاقب عليها القانون .
وفي جميع هذه الاستفتاءات وغيرها كان الشعب دائما )موافق( على مواضيع الاستفتاء .
ومما يجدر ذكره بأن مشروع الدستور, أثار عند نشره اًحتجاجات واسعة، لعدم تضمنه أي إشارة إلى دين رئيس الدولة, وقد أصبحت قضية شغلت الرأي العام السوري, فأوعز الأسد إلى مجلس الشعب بإضافة المادة التي تنص على أن )دين رئيس الدولة الإســـلام( )المادة 3/1 (.
ولحل مشكلة هل يعتبر العلوي مسلما, لجأ الأسد إلى الزعيم الشيعي موسى الصدر رئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان, الذي أفتى بأنً العلويين هم طائفة من المسلمين الشيعة(!
كان هذا مقتطعٌ من تقرير الاستاذ جان حبش، وقد تم نقد هذا الدستور وفضح تكريسه للسلطات كلها في يد حافظ الأسد الذي تعينه القيادة القطرية لحزب البعث الذي يقود الدولة والمجتمع وفقاً للمادة الثامنة الشهيرة من الدستور.
واندلعت سلسلة من التظاهرات في دمشق وحمص وحماة بمناسبة تغيير الدستور، وعدم تنصيص المشروع الجديد على أنَّ الإسلام دين رئيس الدولة، إذ ورد في الدستور الجديد الذي أقرته الجمعية العمومية في كانون الثاني يناير 1973 نص يقول: )إن جمهورية سوريا العربية هي جمهورية ديمقراطية شعبية اشتراكية( فهاجم عدد كبير من العلماء الموالين للإخوان المسلمين الدستور، ووصفوه بأنه: )دستور علماني وإلحادي(، وأعقب ذلك تمردات وثورات في جميع أرجاء سوريا فأذعن حافظ الأسد(، وأصدر تعليماته بأن ينص الدستور على أن رئيس الدولة يجب أن يكون مسلماً، واستمرت موجة الغضب والاحتجاجات لأن المطالبة كانت تتجاوز التنصيص على أن الإسلام دين رئيس الدولة إلى مطلب قديم للحركة الإسلامية هو إعلان الإسلام دينًا رسميًا للبلاد، لذلك لم يقتنع العلماء بهذا التعديل الطفيف، ودعوا إلى تنظيم مظاهرات في جميع أنحاء سوريا، وخرجت مظاهرات كبيرة أصدر على إثرها العلماء تعليماتهم لأتباعهم بمقاطعة الاستفتاء الذي سيجرى على الدستور، واستمر الهياج الشعبي على فترات متقطعة، ثم حدثت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن ،وقام النظام في الوقت نفسه بإلقاء القبض على العلماء وتعذيبهم واعتبرتهم المسؤولين عن التمرد والاضطرابات، وفي شباط فبراير حافظ الأسد بزيارة الملك فيصل في السعودية في الرياض ثم قام بزيارة إلى مكة لأداء فريضة الحج.
احتلال لبنان واستنزاف سوريا
طوي ملف الدستور السوري المشؤوم دستور 1974، واعتمد لحكم سوريا وشعبها، والتزم حافظ الأسد بوقف اطلاق النار مع إسرائيل، والتفت لأداء الأدوار التي جاء من أجلها إلى الحكم في المنطقة ،وعلى رأسها تدمير كل ما يزعج إسرائيل ومصالحها في المنطقة، منظمة التحرير الفلسطينية ولبنان المزدهر، فكان دخول الجيش السوري إلى لبنان في كانون الثاني 1976، بينما كانت نار الحرب الأهلية مستعرة، تحت غطاء الجامعة العربية ليضع حدا للنزاع العسكري وليعيد الأمور إلى ما ما كانت عليه قبل الحرب. وقد رحبت بدخوله أحزاب اليمين اللبناني المسيحي والمسلمون المحافظون بينما رفضته الفصائل الفلسطينية وحلفاؤها في الحركة الوطنية اللبنانية، وبعد معارك في صوفر وصيدا ،بسط حافظ الأسد سلطته على لبنان، وبدأت حروبه مع الفلسطينيي والإسرائيليين واللبنانيين ووكل عدو يقرّره هو، وبدأت جثامين الشهداء السوريين بالتوافد يوميا على المناطق السورية قادمة من لبنان، في الوقت الذي خلقت فيه الفوضى اللبنانية فرصة للسورييًن لمغادرة سوريا والالتجاء الى بلد الحرب الأهلية والمقاومة الفلسطينية والفكر والثقافة والمعرفة، وبدأ التنكيل بلبنان والشعب اللبناني واستنزاف الطاقات السورية، والموارد بحجة الحرب في لبنان.
ثقافة سوريا السبعينيات
كثيرا ما وُصفَ عهد السبعينيات في سوريا بأنه عهد ذهبي للشباب والنضال الوطني والفكري والثقًافي نمت وازدهرت فيه الثقافة والآداب والفنون، ولكن هذا لم يكن سوى وصفا كريما مجاملاً لصبر السوريين، وتأقلمهم مع ظروف الاستبداد، واستبدالهم حيواتٍ بأخرى كّلّ مرة، كيً تنجوً مراكب الثقافة والسياسة والآداب والفنون، فأي مناخٍ هذا الذي دخله السوريون بعد العام 1970؟! وهم يزداد تكبيلهم كل يومٍ وتزداد التعقيدات أمامهم كل لحظة، فيما تضاءل فرصهم للخلق والإبداع والعمل بحرية وكرامة، وكان من قدم منهم من الستينيات قدم جاهزاً للتأقلم مع العهد الجديد ،فيما ظهرت المفاجآت للجيل الشاب، الذي لم يصادف تشي غيفارا في دمشق، ولم يعرف إن كان أدونيس يقيم في بيروت أم في الشام، ولم ير في السياسة إلا طابعها المبدئي وليس كونها طريق الحكم ،وانقض العالم بتدفق معلوماته وكتبه وشخوصه وأمثولاته على رؤوس الشباب السوريين، في وقت كان الخصم ـ الحكم، لا يؤمن بأي معنى لصمود المعتقلين في السجون بحجة التمسك بالمبادئ، فيمعن في استجوابهم وتعذيبهم، وقبل ذلك في التضييق عليهم في كافة أشكال الحياة والعمل، فكانت قد نشأت في سوريا منظمات شبابية وطلابية، حكرت النشاط على البعثيين وسمحت للبعض من الجبهويين بالمشاركة، أما بقية السوريين فكانوا يعتبرون خارجين على القانون، أو فوضويين، وبالتوازي مع هذا التكبيل المستمر نشأت في سوريا منظمات للمهتمين بالثقافة والآداب كاتحاد الكتاب العرب ،الذي عمل في لحظاته الأولى على برمجة الكتاب والمبدعين والأدباء السوريين، وفقا للناظم الأصلي للدولة والمجتمع الآن..ما ورد في الدستور، وما تنص عليه مبادئ البعث ومحدّداًته، وتم ابتكار أقسام الرقابة على المصنفات الأدبية والسينمائية في وزارات الثقافة والإعلام واتحاد الكتاب بإشراف مباشر من القيادة القطرية ـ كما ينص الدستور ـ فانحسر العمل الحر، وانشغل الشباب بالجوانب التنظيمية للعمل السياسي، والانشقاقات والأسس الفكرية لتلك الانشقاقات، وشرعيتها، والأوضاع الخارجية، والتطورات في المنطقة، وكانت في ذيل اهتماماتهم ما يحدث حقاً في سوريا من اختطاف دائم ويومي للدولة والمجتمع.
وراحت تظهر نصوص أدبية تشبه تلك المرحلة، متأثرة بالقليل من عالم الستينيات في العالم والمنطقة ،وبالكثير من الجفاف في الحياة السورية في السبعينيات، بينما انعزل بالتدريج المهتمون بالفكر والتأمل فمنهم من غادر سوريا لاستحالة الحياة فيها أو انطوى بعيدا كصادق جلال العظم والياس مرقص وياسين الحافظ وجورج طرابيشي وآخرين، أو فضل الحياة فيً مكان أكثر رحابةً كالشعراء والفنانين السوريين الذين غادروا سريعاً إلى لبنان وأوروبا هرباً من تلك المناخات.
من بقي في سوريا؟!
انقسم المجتمع السوري إلى مذاهب في فكرة البقاء في ظروف الحياة الصعبة ،
فمن السوريين من قرر مقاومة الاستبداد ورفض الانصياع له، وكان يدرك كم سيكون باهظا ثمن الاحتجاج والذي لم يتردّد حافظ الأسد بتكريسه في أذهان الناس، فكان مصير هذا النمط الأول السجن لأعوام طويلة ومجاورة صلاح جديد ونور الدين الأتاسي والآخرين أو الدفع به إلى الهرب.
النمط الثاني من أبناء المجتمع السوري قرّر الابتعاد إلى دول الخليج أوالدول العربية أوالغرب ،بهدف تطوير حياته أو تنمية كفاءاته العلمية والمادية، ومنهم من اضطرته الملاحقة والمتابعة الأمنية إلى مغادرة سوريا للنجاة بنفسه ومتابعة حياته .
أما النمط الثالث فقد قرّر البقاء في سوريا والانخراط في المجتمع، الذي لا حيلة بيده سوى الموافقة على دستورية ما يفعل حافظ الأسد ونظامه، وهم سواد الناس وعامة الشعب، وهؤلاء كان لهم منظروهم وقادة رأيهم، فوصف هذا النمط بالانتهازيين، على أن الدولة كانت كلها بيد النظام ،ولم يكن للشعب خيارٌ في الموافقة أو الرفض، فإما الحياة الطبيعية البسيطة البعيدة عن المعارضة والاحتجاج، أو الحبس والنفي والملاحقة والاتهامات المختلفة.
أما النمط الرابع من السوريين، فقد اختار البقاء في سوريا مع حفاظه على اختلافه ورفضه، وفي الوقت ذاته الحرص على الاستمرار بما يضمن له عدم زجّه في السجون أو اضطراره إلى الهرب إلى المنافي، أو الانخراط في فساد المجتمع.
فبقي في سوريا نمطان ثالثهما في السجن، المنخرط في نظام الحياة التي أعدّها له نظام حافظ الأسد ،والرافض للانخراط المتمسك بالبقاء، أما الثالث فمغيّب في السجن، وكانت كلما تقدّمت الأعوام والتطورات، تطوّرت أيضا أمثولات الأنماط الثلاثة، فما بين علي عقلة عرسان ونجاح العطار ودريد لحام، ومحمد الماغوط وزًكريا تامر ومحمود السيد وعماد شيحة تماوجت الحياة السورية وتباين الحكم عليها من قبل السوريين أنفسهم.
شباب شيوعيون سوريون غاضبون
وجد الشباب الشيوعي نفسه خارج اللعبة، بعد أن سلمّ خالد بكداش لحافظ الأسد بميثاق يمنعه من توسيع نشاطات الحزب بين صفوف الطلبة والجيش والقطاعات العامة، وبعد اتضاح ابتعاد خط المكتب السياسي عن التشارك مع طبخة الجبهة الوطنية، وبدأ البحث في الأوساط عن تنظيم جديد تمثل في ما سموه الاجتماع الأول والثاني الموسع, وجاء دخول الجيش السوري إلى لبنان ليعجل بولادة التنظيم الجديد الذي أطلق على نفسه اسم )الرابطة( وأعلنت كتنظيم جديد في سوريا بعد 28 أب 1976.
شن النظام أول حملة قمعية على الرابطة في 24 نيسان عام 1977. لتليها سلسلة من الحملات القادمة, وتحوّلت الرابطة إلى تنظيم سرّي مطارد تغلب على مزاجه الثورة العاطفية أكثر من البراعة في اللعب السياسي، الذي ربما لم يكن له أي مكان في سوريا السبعينيات.
كتب كامل عباس في تأريخه لرابطة العمل الشيوعي: )ظهرت تنظيمات شيوعية مثل منظمة النهوض .والفصيل الشيوعي، واتحاد النضال الشيوعي. والمنظمة الشيوعية العربية في سوريا وكلها يمكن أن تجد لها شبيهاً في روسيا آنذاك، إضافة إلى الماركسيين العلنيين والشرعيين التي كانت تعج بأصواتهم صحف سوريا وروسيا في المرحلتين المذكورتين. وكانت أهم أوجه التشابه أيضا طبيعة القمع المعمم على الشعبين وازدياد شدته ووتيرته. ففي روسيا هناك جنود القيصر يلاحقون كل معارض بلا حسيب أو رقيب، وفي سوريا هناك قانون طوارئ قائم منذ سنين. كل عام يتوسع ليشمل مجالاً جديدا يرافقه نمو الأجهزة الأمنية وتضخمها: أمن سياسي, أمن عسكري, أمن دولة, أمن سرايا, أمن جوي, أمنً قصر ,ولكل فرع دولته المستقلة وجواسيسه ومخبروه. ولكن أوجه الاختلاف كانت أكبر بكثير من ذلك التشابه الظاهري. فالحلقات الماركسية في روسيا كان للمسألة الطبقية الدور الأول في نشوئها. أي التناقض بين الغنى والفقر. في حين جاءت الحلقات الماركسية في سوريا وليدة المسألة الوطنية, أي نتيجة الهزيمة, ولم يكن المجتمع يعاني من الفقر المدقع، بل كانت الجماهير في بحبوحة نسبياً بعد التأميم وبعض الإصلاحات الاجتماعية .
الحلقات الماركسية في روسيا جاءت ردا على إفلاس نظام أوتوقراطي قيصري من كافة الجهات في حين جاءت الحلقات الماركسية في سوريا ضًمن نظام يعُتبر وطنياً بعرف المعسكر الاشتراكي، وكل حركات التحرر في العالم وفي مجابهة مع الإمبريالية. جاءت الحلقات في روسيا وسط تناغم بديع بين الحركة السياسية التقدمية بشقيها الشيوعي والقومي )الشعبيين(، وبين الحركة العفوية. في حين جاءت في سوريا وسط تفارق واصح بين الحركتين حيث الشيوعيون والقوميون معزولون في الشارع تقريبا .
وبعد كل حملة قمع كان الرفاق يهربون إلى الأمام نحو رغباتهم وعواطفهم وابتعادا عن العقل, فبعد حملة عام 1978 الشهيرة. نسفوا أهم موضوعة في خط الرابطة – خط الثورة الوطنية الديمقراطية ليستبدلوها بثورة اشتراكية تتيح لهم رفع شعار إسقاط السلطة البعثية القائمة, لكن جذوة العقل الموروثة من فترة الحلقات لم تنطفئ كليا عندهم وخاصة اهتماماتهم النظرية التي قادتهم عند انفجار الصراع المسلح بين السلطة والحركة الدينية المسلحة إلى رؤية الصراع بين شريحتين بورجوازيتين هما البورجوازية البيروقراطية والبرجوازية التقليدية, من أجل السيطرة الطبقية على السلطة ،عرضوه فيما عرف بتقرير آب الشهير الصادر عن مركزيتهم بالأغلبية عام 1980 – فالبورجوازية التقليدية ممثلة بالحلف الرجعي الأسود المشكل داخل سوريا )من الأخوان المسلمين وبعث العراق( والمدعومة من محيط عربي وعالمي, تجد فرصتها في الانفضاض على السلطة, وكل من الشريحتينيقاتل الآخر بجزء من جسد الشعب السوري, والمفروض العمل من القوى الوطنية على خلق تيار ثالث يخلص الشعب من بين أرجل المتقاتلين, ولكن الرابطة سترقب الصراع وتطوره علما بأنها ترى أن الحلف الرجعي الأسود أخطر من السلطة القائمة ومن يتوهم أنه من خلال الوصول إلى السلطة سيعطي بعض الحريات مخطئ جدا لأنه قادم من خلال أزمة تؤهله أن يحكم بشكل فاشي وعلى أرضية طائفية, وقد راقبت الصراع وقالت إبان ذروة الأزمة أن الصراع وصل مرحلة كسر العظم, وانه اذا دخل عصام العطار – كورنيلوف )دمشق( يجب نقل البندقية من كتف إلى كتف والقتال إلى جانب كيرنسكي )الأسد( لكن لغة العاطفة تغلبت بالنهاية على لغة العقل داخل صفوف الرابطة ولم تتمكن من العمل سياسيا بتلك الرؤيا لأن أعضاء ومناصري الرابطة المكويين من قمع السلطة كانوا ضد ذلك التكتيك، وقد حسم الموضوع في مؤتمر عقد في لبنان تحولت به الرابطة إلى حزب العمل كما هو معروف (
كانت هذه كلمات كامل عباس التي لن أعلقّ عليها.
عودة مروان حديد
كان هذا الاسم قد اختفى من أذهان السوريين، بعد أن علاه غبار الأحداث المتتالية، وكانوا قد سمعوا به لأول مرة في أحداث حماة الأولى في العام 1964 حيث عاد مروان في أوائل شهر آذار 1964 من مصر بعد حصوله على بكالوريوس الهندسة من كلية الزراعة – جامعة عين شمس، وبوصفه مسؤولاً عن قطاع الطلاب في حركة الإخوان المسلمين فقد شارك في مظاهرات طلاب ثانوية عثمان الحوراني بمنطقة الحاضر في مدينة حماة بتاريخ 7/4/1964، احتجاجا على اعتقال السلطة أحد الطلاب الذي كتب على السبّورة )اللوح في الصف( آية قرآنية وهي: )ومًن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون(، فاحتجَّ الطلاب البعثيون ودارت مصادمات فيما بين الطلبة الإسلاميين والبعثيين تدخلت المخابرات على إثرها واعتقلت الطالب وقدمته لمحكمة أمن الدولة التي حكمت عليه بالسجن لمدة عام مع تغريمه مبلغا من المال، وطالب الطلاب في مظاهرتهم مدينة حماة بالإضراب فاستجاب التجّار وأبناء الشعب وأغًلقوا محلاتهم، وتدخل الجيش لرفع حالة الإضراب فرفض أهالي حماة هذا الطلب وتقدموا بمطالب لمحافظ المدينة عبد الحليم خدّام الذي رفض هذه المطالب، فاعتصم المصلون في مسجد السلطان وقرروا الإبقاء على حالة الإضراب حتى تنفيذ مطالبهم، فاستدعى عبد الحليم خدّام الجيش الذي حاصر المسجد الذي كان يتواجد فيه أثناءها حوالي تسعين مصليا، بينهم أربعة أو خمسة أشخاص يحملون مسدسات صغيرة عيار 6 مم، و زجاجات المولوتوف التيً لم يتجاوز عددها سبعة أو ثمانية زجاجات، فشارك مروان في ما اعتبر وقتها اعتصاما سلميا القائم في جامع السلطان، فقرّر العقيد حمد عبيد قائد قوّات المغاوير، والعقيد بأوامر مباشرة من حافظأسد وصلاح جديد وعزت جديد بقصف المسجد بالمدفعية والدبابات ودارت اشتباكات بين الجانبين انتهت باستشهاد بعض المعتصمين منهم منقذ صيادي، ومحمود نعيم، وتوفيق مدني، وعبد الله المصري الذي توفي وهو في طريقه إلى المستشفى متأثرا بجراحه، وتم اعتقال الآخرين الذين سيقوا إلى سجن حماة المدني، بينما حاصر الجنود مروان داخلً المسجد وأخذوا يطلقون عليه النار بشكل عشوائي وكثيف، وعندما تأكدوا بأنه أعزل من السلاح دخلوا عليه وكبلوه وانهالوا عليه ضربا بكل ما وصلت إليه أيديهم من أدوات، عصي وخيزرانات وبأعقاب البنادق وبأسلاك معدنية وغًيرها ،ثم حملوه في دبابة إلى مبنى دار الحكومة )السرايا( حيث كان الرئيس أمين الحافظ موجودا ومعه مجموعة من الضباط الآخرين وتورد مصادر الإخوان المسلمين المحاورة التي دارت بين أمين الحافظ ومروان حديد على الشكل التالي:
كان معروفا عن أمين الحافظ بأنه بذيءٌ وفاحش اللسان، فعندما رأى الشيخ مروان شتمهُ وسبّه.
فقال له مروًان: لتِكَُنْ خصومتكَُ يا أمينُ شريفة، وعندها تدخّل المقدم عزت جديد وأمسك بلحية الشيخ مروان وكانت طويلة، وقال له :هذه المكنسة لا أريد أن أراها ثانيةً، فزجره الشيخ مروان وضربه، وتمت إقامة محكمة عسكرية من محاكم أمن الدولة برئاسة مصطفى طلاس في حمص قدُِّمَ إليها الشيخ مروان وإخوانه من المعتقلين، وتمت محاكمتهم محاكمة صورية، وتم إصدار أحكامها المقررة سلفا، وقد دار حوار لافت بثته إذاعة دمشق على الهواء مباشرة حينها، بين الشيخ مروان وبين قاضيه اًلعسكري مصطفى طلاس في بعض الجلسات التي كانت علنية جاء فيه ما يلي:
قال طلاس للشيخ مروان: أنت عميل.
قال مروان لطلاس: أنا عميٌلٌ لله.
قال طلاس: أنت مأجور.
قال مروان: أنا مأجورٌ من الله.
قال طلاس: حكمت عليك المحكمة بالإعدام شنقا حتى الموت.
فرد مروان بابتسامة ساخرة: والله يا مسكين لو عرًفتُ أنّ بيدك الموت والحياة لعبدتكَُّ من دون الله.
فضجت الصالة بالتصفيق الحاد والصراخ والاستهزاء بالمحكمة، هنا قاموا فوراً بقطع الكهرباء عن صالة المحكمة، وتم إيقاف البث الإذاعي المباشر.
وحكموا عليه بالإعدام في محكمة صورية برئاسة المقدم مصطفى طلاس، ولكن الحكم لم ينُفذ وأطُلِقَ سراح مروان والمسجونين بعدما تدخل الشيخ محمد الحامد وعلماء حماة عند رئيس الجمهورية أمين الحافظ آنذاك.
يختفي مروان لسنوات عدّة ويعمل سرًا على مقاومة نظام حافظ الأسد، ويختار دمشق للعمل فيها ،إلى أن داهمت المخابرات بيته في دمشقً صباح يوم 30 حزيران 1975 ولم يكن هناك محاكمةٌ سريةٌأو علنيةٌ لمروان حديد فقد تعرض للتعذيب الشديد بالضرب و بالأضواء المبُهِرة وإبقائه عارياً طيلة الوقت، ثم بعد ذلك ساءت حالته الصحية فنقل إلى مستشفى حرستا العسكري، وفي مساء أحد الأيام عاد إليه أهله ليجدوه يلفظ أنفاسه وقد أشار إليهم بإصبعه إلى رقبته وأنه قد أعطي حقنة في عنقه ،وإذ بالأجهزة الطبية تشير إلى أن ضغطه أخذ يهبط من جديد وأن حالته صارت تسوء وتسوء، مات مروان حديد في سجن المزةّ العسكري في شهر 6/1976 ولم يسُمح لأهله بدفنه في حماة، فدُفِنَ في دمشق في مقبرة الباب الصغير تحت حراسة الأمن المشددة التي أحاطت بالمكان، وبعد دفنه بقيت الحراسة على القبر شهورا حيث كانوا يعتقلون كل من يزور القبر. وكان مروان حديد قبلها قد أسّس تنظيما مسلحا اشتهر وقتًها باسم حركة الطليعة في سوريا.
وجاء مًقتل مرًوان بهذه الطريقة المستفزة، صاعقا على أسماع السوريين، الذين عادت واختلطت الأوراق في أذهانهم، فمنهم من كفر بالمشي إلى جانًب الحائط، وقرّر الثورة والكفاح المسلحّ ومنهم من رضخ أكثر ومنهم من اتخّذ مواقف سياسية حادة بعد تلك الشرارة التي قدحت في اللحظة السورية الحساسة.
زيارة السادات إلى القدس
تزامنت هذه الأحداث مع صدور تقرير معهد بروكنغز الذي يعتبر من أقدم مراكز الأبحاث السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة ونص التقرير على ضرورة اتباع )منهج حوار متعدد الأطراف( للخروج من مستنقع التوقف الكامل في حوار السلام في الشرق الأوسط، من الجانب الآخر بدأ أنور السادات تدريجيا يقتنع بعدم جدوى «قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338» القرار رقم 338 بسبب عدم وجود اتفاق كامل لوجهات النظر بينه وبين الموقف الذي تبناه حافظ الأسد والذي كان أكثر تشددا من ناحية القبول بالجلوس على طاولة المفاوضات مع إسرائيل بصورة مباشرة .
فقرر السادات زيارة إسرائيل بعد تفكير طويل حيث قام بزيارة رومانيا وإيران والسعودية قبل الزيارة وصرح في خطاب له أمام مجلس الشعب المصري انه )مستعد أن يذهب اليهم في إسرائيل( وقام أيضا بزيارة سوريا قبيل زيارة إسرائيل وعاد في نهاية اليوم بعد أن حدثت مشادة كبيرة بينه وبين حافظ الأسد ، وسبقت زيارة السادات للقدس مجموعة من الاتصالات السرية، حيث تم إعداد لقاء سري بين مصر وإسرائيل في المغرب تحت رعاية الملك الحسن الثاني، التقى فيه موشى ديان وزير الخارجية الإسرائيلي، وحسن التهامي نائب رئيس الوزراء برئاسة الجمهورية.
في افتتاح دورة مجلس الشعب في 1977، وفي هذه الجلسة الشهيرة أعلن السادات استعداده للذهاب للقدس بل والكنيست الإسرائيلي، وقال: )ستدُهش إسرائيل عندما تسمعني أقول الآن أمامكم إنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم( .
ألقى السادات خطابا أمام الكنيست الإسرائيلي في نوفمبر 1977وشدد في هذا الخطاب على أن فكرة السلام بينه وبين إسرائيل ليست جديدة، وأنه يستهدف السلام الشامل.
وصل الوفدان المصري والإسرائيلي إلى كامب ديفيد يوم 5 أيلول سبتمبر 1978. وتم توقيع اتفاقية السلام العربية الإسرائيلية الأولى في 17 أيلول سبتمبر 1978 الاتفاقية التي حوّلت حافظ الأسد إلى الجبهة المقاومة الوحيدة أمام إسرائيل..الجبهة الباردة التي لم تطلق فيها رصاصة واحدة منذ اتفاقية الهدنة في العام 1974 وحتى هذه اللحظة.
رفض نظام حافظ الأسد الاتفاقية التي وقعها السادات وأطلقت على الرئيس المصري أوصاف أقلهّا الخائن والعميل، وبهذا الموقف )الشكلي( ورّط كثيرين من خصومه من المعارضين في الشارع السوري ،بالاتفاق معه حول الملف المركزي، وهو مقاومة العدو الاستراتيجي والتاريخي للبلاد، فاختلطت الأمور أكثر أمام الشارع السوري، وبات من يؤيد موقف حافظ الأسد من كامب ديفيد يقترب من تأييد حافظ الأسد شخصياً في حكم سوريا وممارسته ضد شعبها.
حلب ـ مدرسة المدفعية 1979
اتهم حافظ الأسد جماعة الإخوان المسلمين السورية بتسليح عدد من كوادرها وتنفيذ اغتيالات وأعمال عنف في سوريا من بينها قتل مجموعة من طلاب مدرسة المدفعية في يونيو ـ حزيران 1979 في مدينة حلب شمال سوريا، ورغم نفي الإخوان لتلك التهم وتبرّئهم من أحداث مدرسة المدفعية فإن حافظ الأسد قرّر حظر الجماعة بعد ذلك وشن حملة تصفية واسعة في صفوفها، وأصدر القانون 49 عام 1980 م الذي يعاقب بالإعدام كل من ينتمي لها.
فتصاعد الموقف بين الشارع الذي يميل بمعظمه إلى الإسلام المعتدل، وبين موقف النظام الذي قرّر صناعة خصم إرهابي رجعي بالقوة، ومن ثم مقاومته مقاومةً عنيفة، وتشريع تلك المقاومة بسن قوانين كالقانون 49 الفريد من نوعه في العالم والذي يحكم بالإعدام على من يحمل عقيدة فكرية ،وليس على ارتكاب جريمة فعلية!
وبدأت الحرب التي لم تتوقف للسنوات الأربع التالية إلا بمجازر مريعة شهدها العالم ولم يحركّ ساكناً.
عودة صلاح البيطار
بعد وصول البعث إلى الحكم في 8 آذار 1963، تولى صلاح البيطار رئاسة الوزراء أربع مرات، وإثر قيام حركة 23/2/1966 التي قام بها صلاح جديد اعتقل البيطار لكنه استطاع الفرار إلى لبنان، فصدر حكم غيابي بإعدامه. وفي كانون الثاني حافظ الأسد الذي كان يأمل في أن يستقر البيطار في دمشق كثقل مضاد لعفلق المؤسس الأول لحزب البعث والذي استقر في بغداد، وبعد خمس ساعات من المحادثات فشل الأسد بإقناع البيطار بالبقاء، فعاد البيطار إلى باريس وأنشأ مجلة دورية أطلق عليها اسم )الإحياء العربي(، وهو الاسم القديم الذي بدأ به، شن في أعمدتها حملات للمطالبة بالحريات العامة والديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية، فأصدر حافظ الأسد قرارا باغتيال صلاح البيطار بمسدس كاتم للصوت في باريس في 21 تموز1980وبعد موته نقَل جثمانه ليدًفن في بغداد.
البعث الآخر خلف الحدود
في العام 1978 شهدت العلاقات ما بين حكم حافظ الأسد البعثي وحكم أحمد حسن البكر البعثي تحسنا سببته اتفاقية كامب ديفيد, وعقدت بين سوريا والعراق اتفاقية العمل المشترك وتم توحيد بعض اًلمؤسسات في خطوة أولى للوحدة الكاملة بين )القطرين( غير أن بعض الاطراف في القيادة العراقية وخصوصاً نائب رئيس مجلس قيادة الثورة حينذاك صدام حسين ومؤيديه أعلنوا عن وجود مؤامرة ضد نظام الحكم اشتركت فيها أطراف من داخل القيادة العراقية وبتأييد من سوريا وأن الغرض منها أن يكون الرئيس الراحل حافظ الاسد رئيسا للدولة الموحدة وأعدم اعضاء القيادة العراقية أمثال محمد عايش وعدنان حسين وأعقب هذا الًحادث قطع العلاقات كافة بين البلدين بما فيها إمكانية سفر مواطني كل من البلدين إلى الاخر، وأغلقت الحدود وصار يوضع على جواز السفر السوري عبارة )السماح بالسفر لكافة البلدان العربية ما عدا العراق( وبدأت مرحلة جديدة من ملاحقة البعثيين السوريين بتهمة )بعثي عراقي(، فلم يسلم حتى الكثيرين من النمط الذي سار مع نظام حكم الأسد واتهم بالانتهازية والتبعية للدكتاتور.
تأثير الدكتور جمال الأتاسي وظهور التجمع الوطني الديمقراطي
كان جمال الأتاسي شخصية سورية مرموقة، وكان يعدّ مفكرا قوميا عربيا ساهم في التأسيس الفعلي لحزب البعث، ومن ثم انتقل منه إلى الناصرية، ليؤسس حركتًه الناصًرية اًلخاصة، بعد أن يتم تعيين جمال الأتاسي وزيرا للإعلام في حكومة صلاح الدين البيطار ويصبح عضوا في مجلس قيادة الثورة الذي حكم سوريا علًى إثر انقلاب الثامن من آذار 1963.
وكان لجمال الأتاسي فلسفة خاصة بالتعامل مع حكم حافظ الأسد كواقع موضوعي، وأن على السياسيين السوريين التفاوض معه والكسب منه، بدلاً من الانقلاب عليه كما فعل هو وكما تفعل الأنظمة الانقلابية التي تأتي على الدبابات، فقام بتأسيس ما عرف باسم التجمع الوطني الديمقراطي ،وهو إطار سياسي مفتوح لأحزاب ومنظمات سياسية، وشخصيات عامة، ومواطنين مستقلين عن الأحزاب، تأسس عام 1979 ويتألف من أحزاب سورية معارضة ومحظورة، ومن أطياف أيديولوجية
متعددة منها العلماني، والوحدوي، والقومي والاشتراكي، ومن أهم المبادئ التي قام عليها التجمع ،الاعتراف بالتنوع والاختلاف، واعتماد الحوارالديمقراطي، والانطلاق من الوحدة الوطنية والمصلحة العامة والاحتكام إليهما، والثقة بقدرات الشعب، والاعتراف بحقه في اختيار النظام السياسي ـ الاجتماعي ـ الاقتصادي الذي يحقق مصالحه، ونظام الحكم الذي يحمي هذه المصالح ويصونها ،ويعبر عن هويته القومية أما الأعضاء المؤسسون فكانوا كالتالي:
الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي – منشق عن حزب الاتحاد الاشتراكي العربي في سورية والذي كان الحزب الناصري الرئيسي في سوريا.
– جماعة رياض الترك ـ حزب الشعب الديمقراطي السوري، والذي كان يسمى سابقا الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي .
ـ حزب العمال الثوري العربي – وهو فرع يساري ماركسي انبثق عن حزب البعث في الستينات.
ـ حركة الاشتراكيين العرب – ذات توجهات اشتراكية عربية لها جذور في حركة أكرم الحوراني في مرحلة ما قبل البعث.
ـ حزب البعث الديمقراطي العربي الاشتراكي – من بقايا فصائل يسارية لحزب البعث التابعي لصلاح جديد وبقيادة إبراهيم ماخوس وزير خارجيته.
حيث انتخب الدكتور جمال الأتاسي أمينا عاما للتجمع الوطني الديمقراطي ليصبح رئيس المعارضة السورية، وجاء بروز هذا التجمّع المعارض، ليكون بمواجهة أو بموازاة الكفاح المسلح الذي أعلن من قبل الطليعة المقاتلة وبعض اتجاهات الإخوان المسملين في سوريا، بحيث عاد المجتمع السوري إلى حالة الفرز بين رافض كليا لنظام حافظ الأسد وموافق على التعاطي السياسي معه.
قاد هذا التجمّع فلسفة الًاعتراف بنظام حافظ الأسد كخصم سياسي، ومحاولة كسب ما يمكن عبر التفاوض وإجبار النظام على تقديم التنازلات، أو هكذا فكّر جمال الأتاسي ومن معه، ولكن هذا الخط سرعان ما اصطدم بقدرة نظام الأسد على تحويل اللعبة السياسية إلى لعبة أمنية وعسكرية ،فبدلاً من عناء طاولة المفاوضات، كان بمقدور حافظ الأسد وعلي دوبا وعلي حيدر ورفعت الأسد ومصطفى طلاس استخدام صبطانات الدبابات ومدافع الهاون والسجون والمعتقلات والتعذيب والاختطاف والاغتيالات، واستمر نهج الأتاسي راسخا في الحياة السياسية السورية حتى اندلاع الثورة السورية في آذار 2011، فتسبب في شق المعارضة السًورية إلى عقلين مختلفين على الأقل، عقٌلٌ قطع تماما مع النظام وعقٌلٌ لا يستطيع أن يقطع معه، لأنه التزم بذهنية جمال الأتاسي، وهو ما تمثله هيئة التنسًيق الوطنية السورية حسن عبدالعظيم وعبدالعزيز الخيّر وهيثم المناع وآخرين.
دور بعث العراق في تحريك الشارع السوري
في شهر أيار عام 2004 , صدرت وثيقة في باريس عن )هيئة الخارج( للحزب الشيوعي السوري )المكتب السياسي( , عبر نشرة ) المسار( تتحدث عن علاقة سياسية )منذ العام 1976( ومالية )ابتداءً من 1978( بالنظام العراقي أقامتها أطراف المعارضة السورية )رياض الترك ـ أكرم الحوراني ـ صلاح الدين البيطار(, وتكشف هذه الوثيقة عن كشوف لمبالغ مالية أخذها الحزب الشيوعي )المكتب السياسي( من العراق ومن ياسر عرفات, بين عامي 1983 – 1985 على سبيل المثال لا الحصر, بلغت ) 1.140.300 مليون فرنك فرنسي( وكانت أطراف أخرى ضمن المعارضة السورية مرتبطة علناً بالعراق والأردن كجماعة )الإخوان المسلمين( و)الطليعة المقاتلة( إلا أن ارتباط المعارضة الرافضة للهيمنة السوفياتية والتي انشقت عن قيادة خالد بكداش ـ لهذا السبب تحديدا ـ بطرف خارجي ما تزال تعتبره ديكتاتوراً آخر، لم يكن ليمرّ على الشارع السوري دون رد فعل، فقدً بدأت تتسرّب أخبار من هذا النوع، أدّت إلى زعزعة قناعات كثيرين من النخب الشبابية المولعة بشخصية ومبدئية الترك، إلا أن هذا لم يفقده بريقه الذي تصاعد بعد فترة حين تم اعتقاله من قبل المخابرات السورية ولسنوات عديدة تالية، ولكن ردّ فعل حافظ الأسد لم يكن متسامحا على الإطلاق تجاه تعاون التجمّع الوطني الديمقراطي مع النظام العراقي، ومع تفاقم الخلاف العرًاًقي السوري، شعر حافظ الأسد بالتهديد الفعلي وبأن عليه أن يتخذ المبادرة بدلاً من انتظار أن يتم الإطباق عليه من المعارضة العلمانية والدينية معا، وبدأت في الشهر العاشر من العام 1980 حملة الاعتقالات الواسعة التي تخلصّ فيها الأسد من عبًء لاعبين أساسيين في المشهد السوري، مما خلق فراغا كبيرا، لن يتم سدّه إلا بالعمل المسلحّ الذي تنطعّ له الإخوان المسلمون بعد حل خلافاتهم مع الطلًيعة اًلمقاتلة ولو شكلياً.
سقوط الشاه
بلغت الاحتجاجات الشعبية في إيران ذروتها في كانون الأول/ديسمبر 1978، وخلال شهر محرم. وفي 12 كانون الأول/ديسمبر خرج إلى شوارع طهران نحو مليوني شخص وامتلأت ساحة أزادي )شاهياد( مطالبين بإزالة الشاه وعودة الزعيم الديني الشيعي آية الله الخميني من من منفاه، في 16 كانون الثاني يناير 1979 غادر الشاه والملكة فرح إيران نزولاً عند طلب رئيس الوزراء الدكتور شهبور بختيار، الذي كان لفترة طويلة زعيم المعارضة، وظهرت مشاهد الابتهاج العفوي، ودمرت خلال ساعات )كل رموز سلالة بهلوي(، وأعلن بختيار حل البوليس السرى ) سافاك(، وأفرج عن السجناء السياسيين، ووعد بانتخابات حرة وأمر الجيش بالسماح للمظاهرات الشعبية. وبعد عدة أيام من التوقف سمح بعودة الخميني إلى إيران وطلب إليه تأسيس دولة مثل قم، ودعا المعارضة للمساعدة على الحفاظ على الدستور، وفي 1شباط فبراير الخميني إلى طهران، استقبلته لدى ترجله من الطائرةالجموع الحاشدة بتحية: )السلام عليكم أيها الإمام الخميني( قال الخميني عن شهبور بختيار في خطاب ألقاه في اليوم نفسه )سوف أركل أسنانهم حتى أقلعها.(
ولكن هذا لم يحصل تماما كما أراد الخميني أو كما أراد بختيار، بل إن الخميني وآيات الله الذين معه، سيطروا على الساحةً والثورة الإيرانية وتمكنوا من تحويل المملكة الفارسية شرطي أميركا في المنطقة، إلى الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي ترمي إلى تحرير القدس وتصدير القيم الإسلامية والثورة، ولكنها ما لبثت أن تحولت إلى ثورة مذهبية فارسية، يدفع الشعب السوري في ثورته ضد نظام الاستبداد ثمنا لانحراف الثورة الإيرانية عن أهدافها المعلنة، وتحوّلها إلى فيلق انتقامي بعد أن كانت ثورة حرية وًكًرامة.
وفي تموز يوليو 1980، اجتمع زبيغنيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأميركي بالحسين بن طلال ملك الأردن في عماّن لمناقشة خطط مفصلة يرعى من خلالها صدام حسين تقديم انقلاب في إيران ضد الخميني، الحسين بن طلال الذي كان قد بدأ في صنع التقارب ما بينه وبين صدام حسين على حساب العلاقات الأردنية السورية الأمر الذي أفقد حافظ الأسد رشده، وكانت الخطة تقضي بأن يبدو الغزو العراقي لإيران سيكون تلبية لدعوة من الضباط الإيرانيين الموالين الذين يخططون لانقلاب أو انتفاضة في 9تموز يوليو1980 في عملية أطلق عليها اسم )نوجة(، تيمنا باسم قاعدة جوية في همذان، تم تنظيم الضباط الإيرانين بواسطة بختيار الذي كان قد فر إلى فرنسًا بعد تسلم الخميني السلطة، لكنه كان يدير العمليات من بغداد والسليمانية في الوقت الذي تم فيه اللقاء بين بريجينسكي والملك حسين، ولكن حصل أن تسربت أنباء الخطة إلى الخميني عن طريق عملاء سوفييت في فرنسا وباكستان وأمريكا اللاتينية، وسرعان ماتمكن الرئيس الإيراني الحسن بني صدر من تطويق قرابة 600 من الضباط وأعدم كثيرا منهم، واضعاً نهاية حاسمة لخطة نوجة للانقلاب .وقرر صدام إتمام المخطط من دون معونة الضباًط الإيرانيين، وبدأت الحرب العراقية الإيرانية بدفع من دول الخليج والولايات المتحدة والمجتمع الدولي الذي رأى في ظهور دولة إسلامية متطرفة على ضفاف الخليج ومنابع النفط تهديدا كبيرا لمصالحه العليا، ثم تبع هذا تطبيق سياسة الاحتواء المزدوج تجاه العراق وإيران وتدخّل حافظً الأسًد في اللعبة داعما نظام الخميني ضد النظام البعثي في العراق، وكانت علب السمن والزيت السورية التي طالما ادًعت الحكومة السورية بأنها غير متوفرة، توزعّ على الجيش الإيراني مجانا، إضافة إلى الدعم العسكري الكبير الذي زوّد به الأسد إيران في حربها ضد ما كان يعرف بالبوابة الشرًقية للعالم العربي..العراق.
ولكن الزمن الذي اندلعت فيه ثورة الشعب الإيراني وانتصرت كان مختلفا عن يومنا هذا، فكيف يمكن للشارع السوري فهم تلك المعادلات، وهو يدعم نهج المواجهة والممانًعة، وكانت دمشق ولم تزل في وعي العرب قلب العروبة النابض، فكيف ينبض هذا القلب لمن يستكثر على الخليج العربي أنيطلق عليه اسمه، ويصرّ على فارسية التاريخ والجغرافيا، علاوة على فلسفة الثأر والانتقام الدموية التي ستدخل سوريا قريبا على يد جمعية المرتضى التي أسسها جميل الأسد شقيق حافظ الأسد برعاية من أخيه رفعت، وذًلك لدعم التشيّع والتبشير به في المناطق السورية الفقيرة.
اللاذقية عرين الأسد تتفجّر رفضاً
ضمن سلسلة الاغتيالات التي تبادل النظام والاخوان المسلمون في سوريا الاتهامات حول مدبريها والمسؤولية عنها، تم قتل الشيخ العلوي يوسف صارم في 30-8-1979في منطقة الرمل الشمالي ذي الغالبية العلوية، وكان الشيخ يوسف متعاطفا مع صلاح جديد الذي كان ما يزال مغيبا في السجن الذي وضعه فيه حافظ الأسد، كما كان الشيخً يوسف ينتمي إلى فرقة الحيدرية، بينما كًان حافظ أسد ينتمي إلى فرقة الكلازية، وعلى الرغم من فرار القاتلين اللذين يرجح أنهما اقترفا جريمتهما لأسباب عائلية بحتة، فإن تبعية القتل ألقيت تلقائيا على الإخوان المسلمين، فسارع شباب الطائفة العلوية إلى التجمهر يتقدمهم ضابط من سرايا الدفاع هو الملازم نبيل داوود، فتم الهجوم على السكان المسلمن السنة كما يروي الشهود وتحت حماية عناصر الشرطة العسكرية والمخابرات ،وأحرقوا السيارات وكسروا واجهات المحلات التجارية، وأشعلوا النار في محطات الوقود، وهاجموا الفنادق وأحرقوها، وتعرضوا لسائحين سعوديين بالضرب، وسلبوا ونهبوا كل من مر بهم .
بدأ الغاضبون برفع أصواتهم بهتافات طائفية تنال من شخصيات دينية مثل أبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، فاشتبكوا مع أهل مدينة اللاذقية، وقتل قائد المظاهرة الملازم نبيل داوود .وعلى طريق كسب اللاذقية، والشاطئ الأزرق اللاذقية، نصبت سرايا الدفاع حواجز للتفتيش، فتم قتل كثيرٍ من السائقين العابرين وكان منهم ثلاثة مواطنين من حلب من آل الصباغ، وانتقل غضب المواطنين العلويين إلى منطقة حي علي الجمال حيث يسكن التركمان، فقاموا بالاعتداء على مسجد علي الجمال، ونهبوا أثاثه، ومزقوا المصاحف، وأحرقوا المسجد، وكسروا زجاجه، فتعطل المسجد عشرة أيام لا تقام فيه الصلاة، وكان محصلة قتلى التركمان عشرين شهيدا، وفي مدينة اللاذقية قام أحد عناصر المخابرات في حي الصليبة بقتل المواطن اللاذقي نادر حصري، وهو ابن ثمان وعشرين سنة ،فانطلق المسلمون يحملون شهيدهم على أكتافهم يوم الجمعة في 31-8-1979، وساروا بها إلى ساحة الشيخ ضاهر، فأطلق ثلاثة مسلحين النار على المشيعين، فسقط منه في الحال ثمانية قتلى، وجرح خمسة آخرون، فوقع النعش على الأرض، غير أن المشيعين صمموا على السير به، حتى تم دفنه .
أصدر الإخوان المسلمون بيانا في 6-9-1979 حول أحداث مدينة اللاذقية، جاء فيه: )لقد سمعتم الأكاذيب والأباطيل التي لفقها النظام السوري ضد الإخوان المسلمين بقتل شيخ من العلويين، لإيقاظ فتنة طائفية، ذهب ضحيتها الكثيرون من المسلمين، إن الإخوان المسلمين يطالبون الجامعة العربيةوالدول العربية، كما يطالبون حكام المسلمين، وهيئة الأمم، ودول العالم، ولجان الدفاع عن حقوق الإنسان، ولجنة العفو الدولية، بإجراء تحقيق عادل نزيه حيادي ليقف العالم بأسره على الحقيقة الناصعة، من براءة الإخوان المسلمين، ومن تخطيط النظام الطائفي الذي دبر المجزرة للمسلمين في اللاذقية، وفي الساحل السوري، إن الإخوان المسلمين يضعون في أعناق المسلمين مسؤولية التدخل لإيقاف المذبحة( .
كان هذا هو وضع الشارع السوري في اللاذقية، حين قرّر النظام استغلال صراعه مع الإخوان المسلمين إلى أقصى الحدود ولا بأس أن يضحي ببعض المشايخ الذين أراد أساسا التخلص منهم كي يكشف سقف الطائفة العلوية ويجعلها بلا مرجعيات، وليتحوّل هو إلى مرجعيتهًا الوحيدة.
النقابات تلفظ بالاحتجاج أنفاسها الأخيرة 1980
كثرت جيوش حافظ الأسد في سوريا، وتعدّدت أسماؤها فلا تبدأ بـ )الوحدات الخاصة، وسرايا الدفاع ،وسرايا الصراع، والميليشيات المسلحة ـ الكتائب العمالية ـ الكتائب الطلابية، وفتيان علي، وفتيات علي، والفرسان الحمر، وفرق المظليات، وجمعية الإمام المرتضى، والآلاف المؤلفة من عناصر المخابرات وعملائهم من المخبرين(.. وحوصر الشعب في كل مسكن ودار عبادة ونقابة وجمعية ونادٍ، وارتفع صوت نقابات المهن العلمية، كنقابات المحامين والمهندسين وأطباء الأسنان والصيادلة، والمهندسين الزراعيين، والأطباء. وكانت مطالب الشعب الإصلاحية تنحصر في ما يلي:
رفع حالة الطوارئ، وإلغاء المحاكم العرفية الاستثنائية .
إعادة جميع صلاحيات التقاضي إلى القضاء المدني .
استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية .
احترام مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فعلاً وممارسةً وعدم الاكتفاء بالقول، واعتبار كل نص تشريعي مخالفٍ لمبادئه ملغيا ولو توافرت فيه الشروط الشكلية .
إجراء انتخابات حرة يختار الشًعب بها رجال السلطة التشريعية .
وتم الاتفاق بين كافة قطاعات الشعب على إعلان الإضراب العام يوم 31 آذار1980 تأييدا لهذه المطالب، فأضربت النقابات، وأغلقت الأسواق، وتوقفت الحركة في المدن والأرياف، وطبعت عشًرات الآلاف من النشرات، تبين المطالب المتفق عليها، ووزعت في أنحاء سوريا، وخرجت المظاهرات الشعبية الصاخبة، في مختلف المدن والقرى تضامنا مع هذه المطالب .
ونفذ الشعب إضراب اليوم الواحد، ولكن حافظ الأًسًد لم يشأ أن يستجيب لتلك المطالب، فبادر إلى حل النقابات العلمية، ومجالسها وفروعها، ومؤتمراتها العامة، واعتقل أعضاءها، كما اعتقل عدداً كبيراً من أساتذة الجامعات والمحامين والأطباء والصيادلة والمدرسين وعلماء الدين، وآلافاً من طلابالجامعات والمدارس الثانوية، وقتل المئات منهم، وألقى بجثثهم في الشوارع، من أمثال الدكتور الشهيد أدهم سفاف –الأستاذ بكلية الزراعة في جامعة حلب- والمربي الأستاذ الشهيد عبد القادر خطيب –مدرس الرياضيات في ثانويات حلب- وأغلق عددا كبيرا من دور العبادة ودمر قسما منها ،وصار الجنود يدخلون المساجد بأحذيتهم، يطلقون النار علىً المصًلين، ويمزقون المصاحف، ويتحًدون مشاعر المصلين.
ولم يجد حافظ الأسد أفضل من المجازر لقمع تلك الانتفاضة الشعبية المتعددة الوجوه والاتجاهات.
جسر الشغور 1980
قامت القوات الطائفية المسماة بالوحدات الخاصة التي يرأسها العميد الطائفي علي حيدر بتطويق مدينة جسر الشغور وقصفها بمدافع الهاون، ثم اجتاحها في آذار 1980، وأخرج منها 97 مواطنا سورياً من الرجال والنساء والأطفال، وأمر عناصره بإطلاق النار عليهم، وقد شهد هذه المجزرة وشارًكً فيها توفيق صالحة عضو القيادة القطرية لحزب البعث، وأمر حيدر وصالحة بتدمير البيوت وإحراقها فدمروا ثلاثين منزلاً، وأمرا بالتمثيل ببعض الجثث أمام الناس الذين حشروهم حشراً.. وممن مثلوا بجثته طفل أمرا بقتله أمام أمه والتمثيل بجثته وشقها نصفين.
قرية كنصفرة 1980
كنصفرة في جبل الزاوية وليس في أي مكان آخر.. في محافظة إدلب، وفي آذار 1980 وصل أمينفرع حزب البعث في محافظة إدلب، ومديرا التربية والتموين فيها، إضافة إلى مسؤولين آخرين، وقد اجتمعوا في القرية مع بعض الحزبيين فيها، وفي نهاية الاجتماع حاول الأهالي البسطاء اغتنام الفرصة فعرضوا بعض مطالبهم الضرورية كالماء والكهرباء والمدارس، ولكن الزائرين سخروا من المواطنين وأهانوهم، ثم أمروا عناصرهم المسلحة بإطلاق النار عليهم، فقتلوا مواطنا وجرحوا عشرًةً آخرين ،ثلاثة منهم بجراحٍ خطيرة، وما لبثوا بعد أيام أن أمروا بحملة اعتقالات واسعًة بين المواطنين .
سجن تدمر 1980
التاريخ 27 حزيران 1980 صدر الأمر من العميد رفعت الأسد إلى عناصره من سرايا الدفاع بقيادة صهره الرائد معين ناصيف باقتحام سجن تدمر وقتل كل من فيه من المعتقلين، وروج النظام أن محاولة فاشلة لاغتيال حافظ الأسد كانت قد وقعت قبل هذا اليوم بساعات، وحمل جماعة الإخوان المسلمين المسؤولية، وقد شارك أكثر من 100 عنصر بمختلف الرتب في تنفيذ الأمر ـ المجزرة، حيث نقلوا من دمشق إلى مطار تدمر العسكري، بواسطة 12 مروحية، ثم توجه نحو 80 منهم إلى السجن ،ودخلوا على السجناء في زنازينهم وأعدموا المئات منهم رميا بالرصاص والقنابل المتفجرة، ونقلت جثامين القتلى بواسطة شاحنات وتم دفنها في حفر أعدت مسبقا في وادِ يقع إلى الشرق من بلدة تدمر، وتقول منظمة هيومن رايتس ووتش إن )وحدات كوماندوس من سرايا الدفاع تحت قيادة رفعت الأسد، شقيق الرئيس «حافظ الأسد» حافظ الأسد قتلت ما يقدر بنحو 1000 سجين أعزل ،غالبيتهم من الإسلاميين، انتقاما من محاولة اغتيال فاشلة ضد حافظ الأسد مؤكدة أنه لم يتم الإعلان عن أسماء الذين قتلوا إطلاقا.(
بعد سنة من هذا التاريخ اعتقلت السلطات الأردنية اثنين من عناصر المخابرات السورية من المشاركين في المجزرة، كانا ضمن مجموعة اتهمت بالتخطيط لاغتيال رئيس وزراء الأردن الأسبق مضر بدران، حيث أدليا بتفاصيل المجزرة، فسارعت في حينه منظمة العفو الدولية إلى مطالبة السلطات السورية بإجراء تحقيق في المجزرة، لكن هذا لم يحدث، ووصفت لجنة حقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة -في حينه- المجزرة بأنها تتعدى حدود جرائم القتل العمد المعاقب عليها بموجب قانون العقوبات السوري، حيث يعتبر الآمرون بها وكل منفذيها مسؤولين جنائياً عن هذه المجزرة.
حلب ـ سوق الأحد 1980
بتاريخ 13/7/1980 هاجمت عشرون سيارة عسكرية محملة بالعناصر )سوق الأحد في مدينة حلب( المزدحم بالناس الفقراء البسطاء من عمال وفلاحين ونساء وأطفال، وأخذت تلك العناصر المسلحة تطلق النار عشوائياً على الناس، فسقط منهم/ 192/ مئة واثنان وتسعون قتيلاً وجريحاً.
سرمدا 1980
اليوم 25/7/1980 طوقت قوات )الوحدات الخاصة( قرية سرمدا، ثم داهمتها وجمعت ثلاثين رجلاً من سكانها في ساحة القرية، ثم أطلقت نيران الرشاشات على 15 منهم ثم ربطت بعض شباب القرية بالسيارات والدبابات، وسحلتهم أمام الناس وتركت الجثث الأخرى في القرية .
حلب ـ حي المشارقة 1980
صباح عيد الفطر 11 آب 1980، أمر المقدم هاشم معلا رجاله بتطويق حي المشارقة الشعبي ،وإخراج الذكور من بيوتهم، ثم إطلاق النار عليهم، فقتل منهم/ 86/ ستة وثمانين مواطناً أكثرهم من الأطفال .
حلب ـ بستان القصر 1980
في 12 آب 1980جمعت قوة من عناصر الفرقة المدرعة الثالثة التي احتلت حلب، خمسة وثلاثين مواطناً أخرجتهم من بيوتهم. وأطلقت عليهم النار فقتلتهم جميعاً.
تدمر ـ سجن النساء 1980
التاريخ19 كانون الأول 1980حفرت )بلدوزرات( نظام حافظ الأسد خندقا كبيرا )قبرا جماعيا( وساقت إليه مئة وعشرين امرأة من أمهات الملاحقين وأخواتهم، كانت المخاًبرات قد اًعتقلتهنً كرهائن. وأودعتهن في سجن تدمر الصحرواي، ثم أطلقت عليهن النار، وهنّ على حافة القبر الجماعي، وتم دفن بعضهن وهن على ما زلن على قيد الحياة .
حماة 1980
نيسان 1980 حوصرت حماة من كل الجهات، وقطعت عن العالم الخارجي. وقطعت عنها المياه والكهرباء. وفتشت بيتا بيتا وقتلت قوات حافظ الأسد المختلفة عدداً من أعيان المدينة وشخصياتها .كما اعتقل المئات الذينً لم يفًرج عنهم بعدها أبدا، وفي 24من نيسان 1980 طوقت المدينة بالدبابات وبقوات كبيرة من الوحدات الخاصة، مدعومة بًمجموعات كبيرة من سرايا الدفاع فاستشهد من سكان حماة ثلاثمئة وخمسة وثلاثون مواطناً ألقيت جثثهم في الشوارع والساحات العامة، ولم يسمح بدفنهم إلا بعد عدة أيام .
وكان من شهداء حماة في هذه الحملة، الدكتور عمر الشيشكلي 45 عاماً رئيس جمعية أطباء العيون في سورية الذي قلعت عيناه وألقيت جثته في حقل قرية مجاورة لحماة، وخضر الشيشكلي 80 عاماً أحد زعماء )الكتلة الوطنية( وصاحب )بيت الأمة( أيام العمل ضد الاستعمار الفرنسي الذي قاموا بإحراقه بصب الأسيد عليه في بيته، ثم نهبوا ما فيه من تحف أثرية، والدكتور عبدالقادر قنطقجي طبيب الجراحة العظمية الذي ألقوا جثته بعد التعذيب، على طريق الشيخ غضبان على بعد 30 كيلومترا عن المدينة، والمزارع أحمد قصاب باشي 55 عاماً الذي قلعوا أظافره وقطعوا أصابعه قبل أن يقتلوًه.
خطاب حافظ الأسد 1980
عقد رؤساء أجهزة الأمن لقاء ضم علماء وشخصيات هامة، أعلن فيه رئيس فرع مخابرات أمن الدولة في حلب العقيد )علي سعد الدين(، أن كل الأحداث التي وقعت، ومنها حادثة المدفعية، كان وراءها تنظيم الطليعة، وأن الإخوان المسلمين لا علاقة لهم بأي منها .
وألقى حافظ الأسد خطابا في 23 آذار 1980، وسط كل العنف الدائر في سوريا حينها، قال فيه: ) إن الإخوان المسلمين في سورية ليسوا مع القتلة، ولا خلاف لنا معهم إطلاقا بل نحن نشجعهم، ولهؤلاء الحق، بل وعليهم واجب أن يقترحوا علينا وأن يطالبونا بكل ما من شأنه خدمة الدين ورفع شأن الدين(. )ورد جزء من هذا الخطاب في الفصل الذي كتبه جمال باروت في مجلد الأحزاب والحركات القومية العربية في القرن العشرين- الذي صدر عن المركز العربي للدراسات الاستراتيجية في دمشق .( وبعد ستة أيام من خطاب الأسد قامت أجهزة الأمن في 31 آذار باعتقالات واسعة شملت قيادات النقابات المهنية )المهندسين، الصيادلة، المحامين، الأطباء،(، وكان ممن اعتقل أيضا رياض الترك الذي انتقد بصراحة،الأسلوب الأمني الذي يتم به معالجة الأوضاع في سوريا وأصر الترك حينها، على أنه لا بد من العودة بالبلاد إلى الديمقراطية، المغيبة منذ عام 1963، إذا أريد تجنيب سوريا حمامات الدم ،فزج به في السجن ليبقى فيه مدة 17 عاما متواصلة، وبعد أقل من أربعة أشهر فقط، أصدر حافظ الأسد القانون/49/ لعام 1980، الذي يحكمً بالإعدام على مجرد الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين التي امتدحها في خطابه .
هزيمة الإخوان
كان أن اعتبر الإخوان المسلمون ما يحدث للطليعة المقاتلة )هزيمة للإسلام في سوريا( فقاموا بتوحيد الجناحين الشمالي والجنوبي وأعلنوا عن قيام الجبهة الإسلامية في سوريا في تشرين الأول أكتوبر1980م، وتم اختيار الشيخ( محمد أبوالنصر البيانوني الحلبي ) أمينًا عامًا لها.. وضمت هذه الجبهةالإخوان وجماعة الاستاذ عصام العطار المنشقة وبعض العلماء والجماعات الإسلامية الصغيرة، وكان محركها عدنان سعدالدين من حماة، والتالي له الشيخ سعيد حوى المنظرِّ العام للحركة الإسلامية في سوريا، وقد أصدرت الجبهة في 9 تشرين الثاني نوفمبر 1980م بياناً يحتوي على برنامجها الذي وضعت خطوطه العريضة في ميثاقها الذي نشر في كانون الثاني يناير 1981.
تلك الفوضى
أية شخصية تستطيع الحفاظ على توازنها في المناخ السوري الذي جمعت صور مشاهده من مصادر مختلفة أعلاه؟ وما الذي تبقى من وعي السوريين أصلاً ليواصلوا حياتهم بشكل طبيعي، وسط سيول الدماء والاضطراب والتشتت التي لم تترك لهم خيارا سوى الولوج إلى الثمانينات، خائري القوى، بلا بوصلة، لا يملكون من غدهم أكثر مما خسروا في أمًسهم؟! ما بين السجن والمجزرة والمنفى ولقمة الخبز التي عزتّ وعزّت حتى صار كل شيء في أزمة في ذلك الوقت…أزمة السكر..أزمة الرز..أزمة الطحين..أزمة السمن..أزمة الزيت…أزمة الإنسان
*جزء من قراءة تاريخية واسعة وفي الأجزاء التالية رصدٌ لتحولات السوريين ما بين الأعوام 1981 ـ 2000 ثم عهد بشار الأسد 2000 ـ2011 وصولا إلى زمن الثورة.