الإسلاموية واليسار الفلسطيني… يمكن أن تجدوا أنه من العجيب أن أناديكم بهذا الشكل، ولكن كيف بإمكاني أن أخاطبكم بغير ذلك؟ لو كنتم في مكاني فكيف ستبدؤون بهذه الرسالة؟ أتمنى مخاطبتكم بأسمائكم واحدًا واحداً، أو التحدث إليكم كلكم أو النظر في أعينكم، لكن مع الأسف هذا الشيء مستحيل.
حسنًا، أنا على علم بأنني قد أطلت. يوجد عندنا مرض في الشرق، مثل عدم الاستطاعة على البدء بالكلام. لن أقوم بفعل ذلك. وأنتم تعلمون، أننا نحن، بالعموم، نحب أن نخفي مشاعرنا وأفكارنا الحقيقية، ربما بسبب الخجل؛ لذلك بوسعنا التكلم بقدر ما نستطيع، لا بقدر ما يجب.
يقول أومبرتو ايكو “يمكن لأي انسان أن يقوم بارتكاب الخطيئة، إما بالتحدّث كثيرًا أو بالصمت كثيرًا.” بالنسبة لنا الأمر مختلف تمامًا. كلامنا مليء بالإيماءات. نقول شيئًا، ولكن نودّ لفت الانتباه إلى شيء آخر. نقول شيئاً ما لشخص ما، لكننا في الأصل نود أن نوصل كلامنا لشخص آخر. لا أعلم كيف وفي أي عصر من التاريخ اكتسبنا هذه العادة، لكن من بعد إذنكم، سأجرّب أن أكون واضحة تمامًا معكم.
تستند أول الصور التي أتذكرها عن فلسطين إلى فترة الانتفاضة الأولى. في ذلك الحين، كنت طالبة في الابتدائية، وكانت جميع أجهزة التلفزيون في تركيا (أسود وأبيض). كانت لدينا قناة واحدة فقط، وكانت الأخبار المسائية تبدأ قبل أن نذهب نحن الأطفال إلى النوم في الساعة 8:00 مساءً. وحينها فقط يمكننا أن نرى صور الانتفاضة في فلسطين.
أحياناً كانت الصورة تبدو على الشاشة مشوشة أو كان الصوت أو الكهرباء ينقطعان. ولكن، كما تعلمون؛ الشيء الذي يثير الإعجاب أكثر عندما نكون أطفالاً هو الشجاعة. فقد كان الشعب الفلسطيني محفورًا في ذهني جيداً. وحين اندلعت الانتفاضة الأولى، بدأت أنتبه أكثر كلما شاهدت أخبارًا عن فلسطين على شاشة التلفزيون أو في الصحف. يا لهذه الشجاعة التي بدا عليها كل هؤلاء الرجال والنساء وحتى الأطفال الذين رأيتهم جميعًا. كم كانوا جميلين. والأهم من هذا كله، كم كانوا حقيقيين.
مرت السنوات. وكبرت، وتمت إضافة آلاف الصور الجديدة لفلسطين. لقد بدا الأمر كما لو أنكم أخذتم بيدي وقمتم بجذبي إلى قصة خيالية، بفعلها بدأ طائر يرفرف في صدري. وهكذا قمت بالتعرّف على الأدب الفلسطيني. لأنني كنت أحسّ بالملل من السياسة وأحب الأدب أكثر من أي شيء آخر. ويمكن للأدب والفن وصف واقع الشعب الفلسطيني على أحسن وجه. فقد كان علي فعل شيء ما. لكن ما هو؟
أولاً، كتبت نصًا وثائقيًا من خمسة أجزاء عن حياة محمود درويش وغسان كنفاني وفدوى طوقان وناجي العلي وسميح القاسم. وفي تلك الأثناء، كنت أتحدث باستمرار مع أسرهم وأصدقائهم. ومن جهة ثانية، كنت أصور وأجري الحوارات عن الأدب في فلسطين و 8 دول أخرى. وقد حالفنا الحظ وتم بثّ هذا الفيلم الوثائقي على التلفزيون الحكومي. وبعد ذلك عملت عليه أكثر قليلاً وقمت بتحويل هذه النصوص التي أعددتها إلى كتاب.
كنت أعرف بأن كل شيء كان في البداية، ولم أكن أستطيع حتى أن أخبر 10 ٪ مما أريد أن أقوله عن فلسطين. لهذا السبب واصلت العمل، وقمت بالتركيز على فترة ما قبل النكبة، وخاصة ثورة فلسطين الكبرى 1936-1939، وركزت أيضاً على الفلسطينيين العظماء مثل الشهيد عز الدين القسام، ونوح إبراهيم، وإبراهيم طوقان، عزة دروزة، وأسمى طوبي، وزليخة الشهابي، خليل بيدس، خليل السكاكيني، وكتبت كتابي الثاني الذي أحاول فيه سرد قصص الشخصيات. وحينما كنت أتجول في قصصهم، كان يظهر أمامي وجه مختلف من كل زاوية. على سبيل المثال، عند وصف عزة دروزة، هل يمكن البحث عنه بدون ذكر أكرم زعيتر؟ أم أن قصة زليخة الشهابي منفصلة عن عمّها الخطاط الكبير عبد القادر الشهابي؟ وبهذا الشكل، تقاطع طريقي مع مئات الأشخاص. وكنت سعيدة جدًا.
أريدكم أن تعلموا أنني لا أخبركم بكل هذا بدافع الغرور. فيجب أن أخبركم فقط بما قمت به حتى الآن، لتتمكنوا من فهم مشاعري بشكل أفضل. في تلك الأثناء، قمت بتعليق صور محمود درويش وغسان كنفاني وناجي العلي على جدران مكتبتي. وعندما دخلت الغرفة وقمت بتشغيل الضوء، قابلت أعينهم فجأة، بدا الأمر كما لو كانوا جالسين بالداخل ينتظرونني ليقولوا لي متسائلين “أين كنت؟”
* * *
كنت سعيدة، لكن بعد كل شيء جديد قرأته وقمت بكتابته، استمر قلبي في التعرّض لجروح عميقة. على سبيل المثال، عندما تلقى شقيق فدوى طوقان، البالغ من العمر 36 عامًا، نبأ وفاة الشاعر الكبير إبراهيم طوقان، ما الذي كانت تقوله فدوى العزيزة؛ “لقد حولت سجني إلى حديقة زهور يا إبراهيم”. وهذه إحدى الكلمات التي أثرت فيّ أكثر من غيرها طوال عمري. أو رسالة الوداع التي كتبها سميح القاسم بعد رشيد حسين التي كان ينادي بها صديقه العزيز “سأنتظرك لتنزل من القطار الأخير في المحطة …” وعندما أذهب إلى محطة القطار، يتبادر إلى ذهني هذا.
تعرفون الشاب الفقير نوح ابراهيم من حيفا أليس كذلك؟
ماذا عن المنزل الذي حلم به خليل السكاكيني؟
اللحظات الأخيرة لغسان كنفاني في بيروت في 8 تموز / يوليو والشوكولاتة التي سلمها لابنته قبل وفاته.
صوت أسمى طوبي الجميل يرتفع من إذاعة القدس “صباح الخير أيتها القدس”.
الرحلات التي لا تنتهي لعزة دروزة.
المقاومة الأسطورية للشهيد عز الدين القسام ضد الجنود البريطانيين، وتلك الكلمة التي ألقاها خليل بيدس في حفل النبي موسى.
لقد كنت أعيش داخل قصة حزينة مليئة بالمئات من هذه الذكريات. مليئة بالرجال والنساء والأطفال الذين علمونا الحياة. وكنت أتوقع أنه لا يوجد شيء يمكن أن يلوّثها. يا له من ضلال إن حصل ذلك، صحيح؟
هل تعرفون ماذا حدث بعد ذلك؟
لقد خيبتم أملي بشكل فظيع، أيقظتموني من حلم لم أرغب في أن ينتهي. والأبشع من ذلك كله، أن هذه القصة لم يلوثها الآخرون، بل قمتم بتلويثها أنتم، أي الإسلاموية الفلسطينية واليسار.
أين كنتم في آذار 2011 عندما كتب شباب في درعا بسوريا شعارات مناهضة لنظام الأسد على جدران بالقرب من مدرستهم؟ يجب أن يكون بعضكم في فلسطين، وبعضكم في دول عربية مجاورة أو أوروبا أو أمريكا.
لكن لا بد أنكم شاهدتم الأشخاص الذين نزلوا إلى الشوارع يوم 15 آذار/ مارس لمحاسبة هؤلاء الشباب الذين تعرضوا للتعذيب الشديد والذين نظموا الاحتجاجات التي دخلت التاريخ باسم “جمعة الغضب” وأشعلوا نار الثورة.
لا أعلم ما إذا كنتم قد فكرتم في الأمر أيضًا، لكنني كنت أفكر في هؤلاء الشباب الذين كتبوا على الجدار لسنوات. لطالما كان هذا السؤال في ذهني؛ هل يمكن لهؤلاء الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و16 عامًا فقط، أن يتنبؤوا بأن أفعالهم ستسبب زلزالًا كبيرًا ليس فقط في سورية، ولكن أيضًا في حياتنا جميعًا؟ هل اعتقدوا يومًا ما أنهم سيشطرون ليس فقط حياتهم، بل حياتنا أيضًا؟ أنا لا أعتقد ذلك.
بعد تلك الكلمات القليلة التي قاموا بكتابتها بغضب على الجدار، أصبحنا بشراً مختلفين تمامًا. فقد دمرت صرخة دمشق وحلب وإدلب ودرعا وغيرها من المدن عالمنا. ماذا سيكون معنى ما قرأناه وتعلمناه حتى الآن لو تصرفنا وكأن شيئًا لم يحدث، عندما قُتلوا بشكل مأساوي أو عُذبوا في السجون أو تناثروا مثل حبات المسبحة؟
لهذا السبب أصبحت سورية امتحاناً كبيرًا لنا.
لقد وضعت أمامنا مواجهة كبيرة بشكل حاد. لأنه بعد ذلك بدأنا نرى الوجه الحقيقي للجميع. كان الأمر كما لو أن الحياة التي عشناها حتى ذلك الوقت كذبة كبيرة. كان الأمر كما لو كنا نعيش في “حفل تنكري” وفجأة تم الكشف عن الجميع. لقد صفعتنا سورية بالشر العظيم ونفاق بعض الناس.
أثناء ذلك عانيت من أشد صدمة في حياتي. لأنني عندما تحدثت عن الأدب الفلسطيني، كان بعض الناس الذين استمعوا إليّ باهتمام قد غيّروا مواقفهم عندما كان يتعلق الأمر بسورية. فقد استقر تعبير مريب على وجوههم.
يمكننا التحدث بحرية عن فلسطين، لكن عندما تحدثنا عن سورية، قوبلنا بالتلميحات والمظهر السيئ والاتهامات. نصحونا كما لو كنا أغبياء أو لا نعرف شيئًا. وكانوا يقولون “فلسطين مختلفة، وسورية وضعها مختلف تمامًا”. عندما سمعت هذه الكلمة لأول مرة، بدا الأمر وكأن سكينًا يغرز في قلبي. لقد ميّزوا بين الأطفال المقتولين، والأشخاص الذين تم قصفهم بالقنابل، والنساء الذين تم اغتصابهم. كانوا يفعلون هذا حقاً. وكانت هذه الضربة أكثر دموية لإيماني واعتقادي بالإنسانية.
* * *
أريد أن أسألكم الآن؛ ما الفرق بين هؤلاء الشباب الذين كتبوا على الحائط في درعا وأولئك الذين كتبوا على الجدران في فلسطين؟ كيف يختلف هؤلاء الآباء السوريون الذين يندبون على أطفالهم عن أمثالهم في فلسطين؟ ما الفرق بين الشعب السوري والشعب الفلسطيني الذي قصف بالقنابل؟
أحد أصدقائنا، الذي يذهب إلى غزة كثيرًا، رسم أطفالًا فلسطينيين في غزة. لاحقًا، عرض هذه اللوحات في اسطنبول تحت عنوان “الحرب في عيون طفل”. هل تعرفون ما الذي احتواه معظم هذه الصور؟ أطفالاً قُتلوا وشوّهوا بسبب الطائرات والقنابل الإسرائيلية .
في وقت لاحق، عندما كان لدينا أطفالُ سوريون يرسمون الصور، رأينا أنهم رسموا نفس الأشياء. كما رسموا أطفالاً قتلوا أو شُوهوا بقنابل نظام البعث والدول الداعمة له.
كان أطفالكم وأطفال السوريين يرسمون نفس الصور. فلماذا لم يرفع سوى عدد قليل منكم أصواتهم حول هذا الموضوع ؟، رضي الله عن هؤلاء الأشخاص الفاضلين الذين أتشرف بمعرفتهم والذين نطقوا بالحق، لكن لماذا ظل الباقون صامتين؟.
الأسوأ من ذلك كلّه، أنكم دعمتم علنًا النظام القاتل في سوريا؟
قال المفكر الروسي ألكسندر هيرزن، الذي عاش في القرن التاسع عشر، في رسالة كتبها إلى صديق أثناء وجوده في المنفى؛ “كل ما رأيته حولي كان يتخلله برودة شديدة. أدب ميت، مسرح ميت، سياسة ميتة، برلمان ميت”.
لماذا رأينا مثل هذا البرودة الميتة على العديد من الإسلاميين واليساريين الفلسطينيين؟
لماذا قلتم “فلسطين مختلفة” كما قال آخرون غيركم بشجاعة “فلسطين ليست مختلفة”؟ لماذا طعنتم قلوبنا بسكين؟
لكن الأهم من ذلك كله، ألا يناسبكم، يا من تعيشون في سجن مفتوح منذ ما يقرب من 80 عامًا، أن تعارضوا الاضطهاد؟ فالشر يبدأ وينتهي به.
أتساءل لماذا يجلس اليساريون والإسلاميون الفلسطينيون سويًا على طاولة نظام البعث، بينما يبتعدون عن بعضهم البعض حتى في المخيمات ويختلفون في الكثير من القضايا؟ وبأي شبهة “مرتهنة” تنتهي كل خلافاتكم الفكرية العنيدة عندما يتعلق الأمر بسورية؟
قرأت شيئًا أثار إعجابي كثيرًا منذ سنوات أيضاً عن أنطونيو غرامشي. وهو كما تعلمون، أمضى سنوات عديدة في السجن، وحين كان الكثير من المعتقلين يخرجون من السجن، لم يطلق جلادوه سراحه.
في أحد الأيام، ذهب إلى مدير السجن الذي يقيم فيه وسأله: لماذا لم تنته عقوبتي بعد؟ رد عليه مأمور السجن الإيطالي ضاحكًا: سيد غرامشي، لا يمكنني فعل شيء. إذا كنت لا تزال هنا، فهذا يعني أن لديك “زملاء” لا يريدونك في الخارج!.
هل لديكم أصدقاء سوريون لا تريدون أيضًا أن يكونوا أحرارًا؟ هل تريدونهم أن يظلوا في الظلام حتى لا يعترضوا طريقكم بينما تقومون بتقوية أوضاعكم؟
هل لهذا السبب تنسون التاريخ والألم المشتركين بينكم؟
أداوم على السؤال لأنني أحاول أن أفهمكم.
لماذا تختبئون خلف ذريعة أن النظام السوري معادٍ لإسرائيل لإخفاء شبكة الرهائن الخاصة بكم؟
إذن من باع مرتفعات الجولان ذات الأهمية الحيوية لإسرائيل عام 1967 مقابل 100 مليون دولار؟ أليس والد الأسد وعمّه من عقدا تلك الصفقة؟
عندما دخل جنود حافظ الأسد مخيم تل الزعتر في 12 أغسطس 1976، بعد حصار دام 52 يومًا، قاموا بقتل الآلاف من الفلسطينيين، بما في ذلك العديد من النساء والأطفال، واغتصبوا النساء أمام أطفالهم، حتى تلك الـ 3 و 5 قروش من النقود التي خبأها المسنّون في صدورهم سرقوها منهم.
وماذا عنكم أيها اليساريون الفلسطينيين؟ هل نسيتم رفاقكم الذين ذبحهم جنود البعث في تل الزعتر؟ هل فكرتم يومًا في آلاف الفلسطينيين الذين قُتلوا بوحشية بعد ذلك الحصار؟ ألم تقرؤوا قصيدة محمود درويش؟ هل هذا هو حزب البعث المعادي لإسرائيل؟
أليس حافظ الأسد هو من قام بإنهاء وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان ومهّد بذلك الطريق أمام تحقيق مجزرة صبرا وشاتيلا؟
وماذا عن الفلسطينيين الذين اختفوا في السجون السورية؟
ماذا عن مخيم اليرموك؟
هل لديكم ما تخبرونا به عن مئات الفلسطينيين ومعظمهم من النساء والأطفال، الذين ذبحوا في اليرموك عام 2013؟
هل نسيتم أنه في هذا العصر، وفي العاصمة السورية ذاتها، وبينما كان حكام حزب البعث يتمتعون بموائد الطعام الفاخرة، وبينما كانت زوجاتهم ترتدين أفخم الملابس وتركبن أغلى السيارات، كان الفلسطينيون يتضورون جوعاً وحتى الموت؟
لماذا لم تخبروا صديقكم أحمد جبريل الذي كان يحوّم فوق مخيم اليرموك مثل نسر متعطش للدماء، ليقتل لشعبه والشعب السوري؟ لماذا لم تقولوا له: إن شعبنا بريء، ترك بيوته مرغماً عام 1948واحتفظ بمفاتيحها معلّقة حول الأعناق. رجال أهلنا شرفاء ونساؤهم مقاتلات وأطفالهم شجعان. شعبنا لا يبيع شرفه بالمال.
يمكننا أن نرى في سوريا أن هناك نظامًا يبدو معاديًا لإسرائيل، ولكنه في الأصل مشروع إسرائيلي، وبالتالي يقف إلى جانب إسرائيل في كل لحظة حرجة بالنسبة للفلسطينيين. لماذا لا تعترفون بذلك؟
هناك صورة لن تغادر ذهني أبدًا. ذات يوم، في أحد الأحياء الفقيرة في اسطنبول، كنت أزور عائلات سورية مع أصدقائي. كان هناك رجل في الستين من عمره في حي فقير قديم. كان يمسك بالقضبان وينظر من النافذة. عندما رآنا، لوّح ودعانا إلى الداخل.
بعد أن دخلنا، رأينا أن هذا الرجل بلا ساقين. كان يجلس على كرسي عالٍ قديم حتى يتمكن من النظر من النافذة. بُترت أرجله بالكامل بسبب إلقاء القنابل عليه. احتضنته زوجته كالطفل، وحملته عبر النافذة، وجعلته يجلس إلى جوارنا. كان الجلوس بجانبه من أكثر اللحظات المحرجة والحزينة في حياتي.
إذا أتيتم إلى اسطنبول، يمكننا أن نأخذكم إلى هذا الرجل. أنا متأكدة من أنه سيكون سعيدًا جدًا بزيارتنا لأنه أخبرني أنه يفتقد إلى الدردشة مع الناس، وسيطلب على الفور من زوجته إعداد القهوة بالهيل، كما يفعل دائمًا. سنشرب القهوة ونتحدث. لكن هل ستتمكنون من شرب القهوة التي سيقدّمها لنا؟ هل ستسري تلك القهوة في حلوقكم؟
جون بيرغر لديه جملة أحبها كثيرًا. يقول “الجمال هو الشيء الذي يوجد دائمًا على الرغم من أي شيء. وهذا هو السبب في أنه يؤثر فينا”.
الزهرة تتفتح رغم الجو العاصف، والحب يولد رغم المستحيلات، والخير يظهر رغم الشر، والحقيقة تظهر رغم الكذب .
ربما يكون هذا أحد أكبر أسباب تأثير سورية علينا إلى هذه الدرجة. سورية الجميلة التي تحاول النجاة على الرغم من كل شيء.
سورية التي كثيراً ما تتعرض للخيانة، وتُجبر في كل مرّة على مواجهة الظلم والنفاق، تُترك وحدها، ويحزن قلبها دائمًا، ويتم شرح حكايتها دوماً بشكل خاطئ، و يجري حظر. الحديث عنها، سورية التي لمل تتوقف يوماً الافتراءات المتنوعة بحقها وحق شعبها.
سوريا بلد أصدقائنا الأقوياء الذين ظلّوا موجودين على الرغم من أي شيء.
وفلسطين بلدنا الجميلة التي سنظل نحبّها ونؤمن بها رغماً عنكم.
فلسطينكم تختلف عن فلسطيننا.
وفلسطيننا لها مكان في قلوبنا لن نتركه لكم.
بيرين بير سايغلي موت: كاتبة وناشرة تركية – مؤسسة ورئيسة تحرير دار “فارابي كتاب”