دمشق-العدد4-5-يوسف فخر الدين
منذ أن تفتحّ الربيع العربيّ في تونس، ثمّ مصر، طرُح السؤال عن علاقة هذا الربيع بفلسطين وقضيّتها. الكثير من الكلام بهذا الخصوص بقي مأسورا في قوالب جاهزة، وحتىّ هؤلاء الذين رفضوا مركزيةّ القضيّة الفلسطينيّة وقفوا عند حدود السجال مًع من يخالفهم الرأي، دون الاهتمام بتفسير تمسّك الناس بمنهجيّة تبتعد عن الإطلاق والتعميم )هذا إذا لم ينكروا هذا التمسّك أصلاً باندفاع وتسرّع(، بما فيه تفسير اهتمامهم هم أنفسهم بالحديث عن فلسطين وقضيّتها. كان معظم ما اطلعّنا عليه من كتابات يؤّشّر إلى أنّ أصحابها ينطلقون من الاعتقاد بأنّ ما يسطرّونه هو جزء من العمليّة السياسيّة، وهو ما يبرّر طغيان طابع السجال على حساب تفكير متحرِّر من النتائج المسبقة.
في الجانب الآخر، تشجّع أغلبيّة الكتاّب الفلسطينيّين ودعموا التغيّر الجاري بتلقائيّة، بدافع ثقافتهم التحرّريةّ ونتيجة وعيهم لسوء أحوال الأنظمة العربيّة وانعكاس ذلك على الوضع الفلسطينيّ. ليعمّ التفاؤل في أوساطهم، منذ رصدوا تباشير تدخّل الشعوب في الشؤون العامّة لدولهم، بأن يكون هذا الربيع فاتحة علاقات أفضل للمحيط مع القضيّة الفلسطينيّة. وقد عكست تفاؤليّة المثقّف الفلسطينيّ اشتدادَ الضيق من تجربة سيّئة بين النظم العربيّة والشعب الفلسطينيّ، وإدراك المثقّفين كيف أنّ الديمقراطيّة كانت فضاءً أنسب لهم لعرض قضيّتهم في أرجاء العالم، حيث مكّنتهم من الحصول على مكاسب لدى شعوبٍ لا يربطها بالقضيّة الفلسطينيّة رابطٌ خاص.
البحث في نتائج الربيع العربيّ المتوقعّة على فلسطين مهمّة شاقةّ، فجزء من الموضوع يبدو مستقبليّاً الأمر الذي يدُخل الباحث في متاهات التنبّؤ غير المبرّرةِ، رغم ذلك هناك ما هو بديهيٌّ في هذا الشأن ،من وزن أنّ من الطبيعيّ أن تستفيد قضيّة حريةّ من إشاعة الحريةّ في محيطها. ولا يقللّ من صحّة هذه البديهيّة ما يبدو من تركيز الموجة الديمقراطيّة الجارية على شؤونها الداخليةّ، فهي أيضا تركّّز على الحريةّ أكثر بكثير من اهتمامها بالعدالة الاجتماعيّة، وليس من المعقول أن نتصوّر أنهّ موًضًوع قليل الأهميّة، أو أنهّ لن يطُرح على جدول أعمال الشعوب لاحقا )وهذا ما بتنا نشهد تباشيره في تونس ومصر(. ما يحصل، هو أنهّ قد هيمنت على الناس قناعةٌ استخُلصتً من الخبرة تفيد بأنهّم لن يستطيعوا تغيير أيّ من شؤون حياتهم دون الخلاص من الاستبداد. والديمقراطيّة بهذا المعنى ليست حلّا سحرياّ،ً إنمّا هي الفضاء السياسيّ الذي أصبحت شعوبُ المنطقة تعتقد محقّة أنهّ الأنسب لبناء حلولً تمكّنها من التدخّل في الشأن العامّ، ومنه الشؤون الخارجيّة.
ونجد أنّ الصعوبة ليست في توقعّ اهتمام الناس بقضيّة فلسطين، فهي لطالما فعلت وستبقى بارتباط مع الصراع الجاري على أرض فلسطين. ما يتطلبّ جهدا في البحث في هذا الخصوص من قِبل أهل الاختصاص، وعملاً حثيثاً من قِبل السّاسة والمثقّفين، هوً تدارك المستقبل وبناء تصوّر لأفضل تدخّل يسهم في الوصول إلى العدالة والحريةّ والديمقراطيّة للفلسطينيّين أيضا. ويرتبط هذا حكما بقدرة المعارضة على الانتقال إلى التفكير من منطلق الدولة الذي حرمت منه طوًيلاً نتيجةً لاحتكاره مًن قِبل النظم.
ومن منطلق أشدّ خصوصيّة في حالة الدولة المصريةّ والسوريةّ، حيث لا يمكن لهما تجاهل وجود دولة احتلال عنصريّ على حدودهما، وهي لا تزال تحتّلّ جزءا من الأراضي السوريةّ، ولديها طموح سياسيّ اقتصاديّ عسكريّ يطال مجالهما الحيويّ.
ومن نفس المنطًلق يمكن إدراك أنهّ إذا كانت نظم تقادمت شرعيتّها حوّلت فلسطين إلى قضيّة خارجيّة، وأوراق قوّة، في نفس الوقت الذي جعلتها أحد مصادر شرعيتّها، فإنّ دولاً تحوز على شرعيتّها من عمليّة انتخابيّة، وتشارك الناس عبر مؤسّسات مدنيّة في تقرير مصيرهم، ستميّز بوضوح الوجه الآخر للقضيّة الفلسطينيّة التي هي المشكلة الإسرائيليّة.
أمّا إذا أردنا فهم موقف الفلسطينيّين من الرّبيع العربيّ فسنجد أنّ الأغلبيّة قد أيدّته، بدافع من ثقافتها التحرّريةّ المتولدِّة من تجربة المعاناة الطويلة التي عاشتها، والمقاومة المستمرّة لهذه المعانٍاة. وهو ما جعل لديها محرضّا ذاتيّا للبقاء في أعلى درجات التحّفّز السياسيّ. وزاد من تنبهّها إلى التغيّرات وصعود وهبوط التيّارات السًياسيًّة في المنطقة، الاحتلال واللجوء والصراع المفتوح منذ مئة عام؛ وهي الظروف التي ضخّمت اهتمام الشعب الفلسطينيّ بشكل عامّ بالسياسة، ووهبت أفراده وقواه الحيّة القدرة على التدقيق في المنافع والمضارّ الممكنة من أيّ تحوّل يجري في محيطهم أو عليهم. وبنفس الحدّة نتج عن هذا التاريخ إرث ثقافيّ تحرريّ داعم لقضايا الحريةّ ومستعدّ دون تحّفّظ للمشاركة فيها. ومن تفاعل هاتين السمتين اللتين من الممكن أن تكونا متناقضتين بشدّة، تكوّنت ثقافة سياسيّة فلسطينيّة تحرّريةّ مبدئيّة ونفعيّة في آن واحد، نظرت للربيع العربيّ على أنهّ العالم الذي لطالما طمحت به. عالم محيط يتحرّر فيه الإنسان وتزداد حساسيّته للظلم والقهر الذي يعيشه الآخرون، ومن الأوَلى أن تزداد حساسيّته لمعاناة الّشّعبِ الفلسطينيّ، لروابط القربى والمصلحة واللغة والثقافة المشتركة.
وسنختار من هذه العلاقة المعقّدة، للنظر فيه، جانبا تتوفرّ معطياته ويمكن رصد انعكاساته عيانا، وهو تفسير مواقف القوى السياسيّة الفلسطينيّة راهناً منً الثورة والنظام السورييَّن عبر رصد سريع لًعلاقة الحكم في سوريا وقيادة منظمّة التحرير؛ وهو ما يوفرِّ في السياق نظرًةً على سبيل الفصل الذي حصل بين السياسة في الواقع والصورة التي قدُّمت للناس عنها.
يسار البعث ومنظّمة التحرير
فترات متقطعّة تلك التي كانت فيها العلاقة الفلسطينيّة السوريةّ الرسميّة على ما يرام، فقد أثرّ الصراع بين حزب البعث والرئيس المصريّ جمال عبد الناصر )منافسه الأبرز في الفضاء القوميّ( وحركة القوميّين العرب، حليفة عبد الناصر وصاحبة التأّثير في المشرق العربيّ، على الحالة الفلسطينيّة بشكل مباشر .القضيّة الفلسطينيّة كانت أحد عناوين الخلاف.
القوميّون كانوا يتهّمون البعثيّين بعدم جديةّ اهتمامهم بقضيّة فلسطين، ويدّعون أنّ هذا هو السبب الأبرز للخلاف بينهما. ويسار البعث وجدها موضوعاً مناسبا لإحراج الرئيس المصريّ والنيل من صورته في عيون الناس. فبعد انقلاب قادة يسار البعث على رفاقهمً في الحزب والسلطة ،23 شباط 1966، سجنوا خصومهم السياسيّين السورييّن والفلسطينيّين ،ومن جملة من سجنوا أيضا أعضاء حركة القوميّين العرب، صاحبة القلب الفلسطينيّ؛ وفي نفس الوقت دعموا في أتون هذا الصرًاًع حركة فتح، وهي التنظيم الوطنيّ الفلسطينيّ الذي لم يكن يتفّق مع حركة القوميّين العرب في أنّ الوحدة هي طريق التحرير، بل يجعل الأولويةّ لاستقلال الفلسطينيّين بنضالهم، مرحّبا بالوحدة والمشاركة العربيّة دون اشتراط أولويتّها.
كان القاسم المشترك الأوّل بين فتح والبعثيّين هو الًصراع مع حركة القوميّين ووريثتها الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، والتي زادت من يساريتّها واعتمدت بعضا من إيديولوجيا يسار البعث، دون أن يؤدّي ذلك لتقاربها معه. وقد وصل دعم «الشباطيّين» لفتح، ومنظًمّة التحرير، حدّ التدخّل العسكريّ المباشر في الأردن لحمايتهما، وإعلان أنهّم على استعداد للدخول في حرب صريحة مع ملك الأردن، ومن يمكن أن يدعمه، لهذه الغاية. فعليّاً دعم اليسار البعثيّ النزعة الوطنيّة الفلسطينيّة، على الرغم من أنهّ كان يسمي أيّ تبلور وطنيّ في البلاد العربيّة «نزعة قطريةّ» وهي التهمة الأشدّ سوءا لديه. عكس ذلك حقيقة قلمّا تمّ التطرقّ لها عن أنّ المهمّة الأثيرة على قلبه كانت بناء الدّولة السورًيةّ.
ولعلهّ ذهب ضحيّة التناقض بين ما يريد وبين ما يقول ويفعل، تحت ضغط صراعه مع القوميّين حول قضيّتي الوحدة وفلسطين، ومع اليسارييّن بخصوص القضايا الاجتماعيّة الداخليّة.
والتشابهُ أيضا قد يؤدّي إلى الصراع
مع الانقلاب الذيً قاده الرئيس الراحل حافظ الأسد ،16 تشرين الثاني في عام 1970، جرت تحوّلات كبيرة على العلاقة الفلسطينيّة السوريةّ. مجموعة الحكم الجديدة أتت لحّلّ التناقض سابق الذكر، من خلال إيلاء الأهميّة لبناء دولة سوريةّ، كانت في بادئ الأمر دولة البعث، قبل أن يتمّ اختصار البعث والدّولة في شخص الرئيس. ظهر التحوّل في العلاقة فور انتقال السلطة ليد حكّام دمشق الجدد، الذين تبرّؤوا من الدّعم الكبير الذي قدّمه أسلافهم لقيادة منظمّة التحرير.
ساعد هذا التحوّل، مترافقا مع ضعف عبد الناصر ووفاته ،28 أيلول 1970، على حسم ملك الأردن للمعركة وطرد الفصائل الفلسطيًنيّة من مناطق حكمه، أيلول 1970، فيما بات يعُرف لدى الفلسطينيّين «مجزرة أيلول الأسود.»
التماسّ الأول بين العهد الجديد وقادة منظمّة التحرير كان خذلانهم، في الوقت نفسه بدأت محاولة لاحتواء الحالة الفلسطينيّة. خلال ستّ سنوات، حتىّ عام 1976، كان كّلّ من الطرفين قد كوّن رؤيته الواضحة حول ما يريد لمصيره وعلاقته بالآخر، في منطقة تخوض صراع تثبيت التشكيلات السياسيّة. كان دخان الإيديولوجيات يتصاعد، إلّا أنهّ، في الواقع، قلمّا وجدنا من يعني ما يقول حينذاك. ومن فعل كان عدوّ الجميع فعليّاً، ومن عداوته تكوّنت تحالفات بين الأطراف الإقليميّة لقمعه. في مثل هذا الصراع تغذّي الأطراف من تتناقض معهم ثانوياّ، لضمان الانتصار على ما تعتبره الصراع الرئيسيّ. ولم يكن هذا ليمنع التناقضات الثانويةّ من التعاظم فيً فترات احتدام الصراع بين أطرافها، والتحوّل لصراع رئيسيّ في حالات موصوفة.
عوامل عدّة كانت تجعل من حركة فتح في الخندق المواجه للنظام السوريّ، فالاتفاق على الوطنيّات من الصعب أن يؤدّي لاتفاق مديد طالما أنّ أحد الطرفين يعاني الاحتلال وهو معنيّ، ضمن هذا الشرط، بأن يخرق شيئا من سيادة الآخر. فبالرّغم من موافقة حركة فتح على أنّ محيط فلسطين هو بلاد الآخرين، إلّا أنّ هًذا لم يمنعها من محاولة اختراق سيادتهم للقيام بعمل مسلحّ ضدّ الاحتلال انطلاقاً من أراضيهم، أو من الارتباط بعلاقة خاصّة مع أبناء وطنها اللاجئين على أراضيهم لا تمرّ عبر الدولة المضيفة، بل وبتعارض معها حين تنزل قهرا عليهم. وطالما يعتمد الطرف الثاني منهجاً سياسيّاً يعتبر أنّ مصلحته تتطلبّ تحويل قضايا الآخرين لأورًاق قوّة له بغية تحسين شروطه.
تناقض آخر جرى بين الطرفين، حينما سعى كّلّ منهما للاستفادة من الاضطرابات السياسيّة والاجتماعيّة في الإقليم لتوسيع دوره. كان مركز السياسة الإقليميّة هو المملكة العربيّة السعوديةّ، المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكيّة، والمستفيدة من تراجع الدور المصريّ إثر هزيمة 5 حزيران 1967، وتوقيع مصر معاهدة السلام المنفردة مع إسرائيل ،17 أيلول 1978، ما جعل العلاقة معها والتفاعل مع رؤيتها للصراعات الإقليميّة مثار اهتمام ومنافسة بين الطرفين.
قبل أن تدخل الجمهوريةّ الإسلاميّة الإيرانيّة على خطّ المنافسة على الزعامة الإقليميّة، ويجد الحكم في سوريا نقاط التقاء معها، كان في مقدّمتها العداء المشترك للنظام العراقيّ، وبحثهما عن حلفاء لتوسيع هامش كّلّ منهما في المناورة.
بينما انحازت قيادة منظمّة التحرير للعراق معتبرة إياّه العمق الإستراتيجيّ لها. حينذاك صُنعت أدوار الطرفين من وجود كّلّ منهما في الإقليم المضطرب، وتداخلهما من حيث النشأة أو الواقع مع القوى الراديكاليّة، وكانت في الغالب يساريةّ قوميّة تعظمّ من شأن تحرير فلسطين، قبل صعود الإسلام السياسيّ لاعبا أساسيّا.
المشترك الأبرز بين الطرّفين كان وجود إسرائيل، واحتلالها كامل أرض أحدهما وجزءا مًن أرضً الثاني .الشخصيّتان المهيمنتان في كّلّ من الطرفين )حافظ الأسد وياسر عرفات( كانتا حتىًّ عام 1973 قد أتمّتا قناعتهما بأنهّ لا يمكن القضاء على إسرائيل، وأنهّ من الأفضل لهما التكيّف مع وجودها وانتزاع ما يستطيعانه. الأسد أصرّ على الجولان كاملاً، وعرفات قِبِل بدولة في الضّفّة والقطاع على 22% من أرض الشعب الفلسطينيّ.
نتائجُ حرب ذلك العام، والاتفاقيّة المصريةّ المنفردة مع إسرائيل، ستكرّس عندهما هذه القناعة، وأنّ إسرائيل لن تتخلىّ عن شيء إن لم تقتنع بأنهّا لا تستطيع الاستمرار بالسيطرة عليه.
كانت هذه الاستنتاجات تتحوّل لثقافة لدى الوسط القياديّ لديهما، ثقافة على قطيعة كاملة مع الخطاب السياسيّ الذي يتُلى على مسامع شعبيهما، وسيسمح احتكار السياسة من قِبل السلطة في الطرفين لفصل عالم الوقائع السياسيةّ عن عالم الصورة التي تسوَّق للجماهير. الاختلاف الأبرز بين الطرفين كان في أنّ قيادة فتح ومنظمّة التحرير تجمع عناصر القوّة لتقايضها بدولة مستقلةّ، بينما تحوّلت هذه العمليّة إلى وظيفيّة سياسيّة رئيسيّة للنظام السوريّ يرى نفوذه واستمراره من خلالها. وفي كانون الثاني من عام 1976 تصادمت نوايا وغايات ومصالح الطرفين ليدخل الجيش السوريّ، ضمن غطاء «قوّات الردع» وبقرار عربيّ ودعم أمريكيّ، إلى لبنان «لضبط» الجبهة الوطنيّة اللبنانيّة ومنظمّة التحرير ،الحليف الذي التجأت إليه الجبهة وتشابكت مصلحتها معه.
فاصل للإعلام والإيديولوجيا
الخطاب الإعلاميّ في منطقتنا، طوال فترة السبعينات وصولاً إلى مطلع الألفين، كان محصّلة تواطؤ جميع الأطراف على تصوير إسرائيل محور الصراع الوحيد، وهو ما مكّنهم من تبادل اتهامات العمالة لها. بينما نستطيع تبيّن أنهّا كانت أحد عناصر محور الصراع، ولكن ليست وحيدة، ولا تتحركّ الدول والقوى للإجابة عن تحدّي وجودها ومطامعها بشكل حصريّ كما تدّعي، إنمّا أيضا، وبشكل رئيسيّ، لتلبية مصالحها وصراعاتها البينيّة. لابدَّ أنّ وجود إسرائيل أربك المنطقة، وساهم فيً تعقيد مهمّاتها ،ولكنّ الملاحظة الأبرز كانت أنهّا وفرّت حجّة مفيدة جدا للدول من أجل توطيد الحكم وتبرير الصراعات.
كما أن بروز القضيّة الفلسطينيّة وبسالة الشعب الفلسًطينيّ ودمويةّ الاحتلال وعنصريتّه، أعطى لمن يثور على الحكم قضيّة نبيلة ليتهّمه بأنهّ يخونها، دون طرح برنامجه المختلف للتعامل معها، في حال الوصول إلى الحكم.
حينما أصبحت الحالة الفلسطينيّة أوراق لعب
فقط بعد الاجتياح الإسرائيليّ للبنان ،4 حزيران 1982، وإخراج منظمّة التحرير منه، توفرّت الظروف المناسبة للحكم في سوريا لتأكيد نفوذه في الحالة السّياسيّة الفلسطينيّة، وذلك عبر شقّها والهيمنة على تحالف القوى المتسّمة بالراديكاليّة. وقد وفرّ غياب الجغرافيا، التي يمكن للقيادة الفلسطينيّة ممارسة شيء من السلطة عليها لجمع فلول القوى الفلسطينيّة المنكسرة، الفرصةَ للنظام السوريِّ لاستقطاب جزءٍ منها على أراضيه. وأدّى الانشقاق إلى دفع القيادة الفلسطينيّة لمحاولة تأكيد شرعيّتها عبر تحسين علاقتها بالنظم العربيّة الأخرى، حتىّ مع المملكة الأردنيّة التي كانت تخوض صراعاً مصيرياًّ معها على تمثيل الشعب الفلسطينيّ، واتهمتها طويلاً بحماية إسرائيل. كان الظرف الجديد للقيادة الفلسطينيّة متناقضا ومضطربا، فمن جهةٍ شعرت بخفة التحرّر من القوى الأخرى، ممّا جعلها أكثر قدرة على المناورة، ومن جًهة أخرىً اجتاحها التخوّف من سحب الشرعيّة منها، فركّّزت مناورتها على محاصرة خصومها الفلسطينييّن وراعيهم السوريّ. واستطاعت مع الوقت تحويل صراعها هذا إلى تبرير إضافي أمام الشعب الفلسطينيّ للتحولات السياسيّة التي قادتها وصولاً إلى اتفاقيّة أوسلو. قبل هذه النتيجة ،كانت الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى قد حسمت جزءا من الصراع على التمثيل الوطنيّ، حين أصبحت قيادة الانتفاضة هي مصدر الشرعيّة، فتراجع دور اًلقوى الفلسطينيّة التي سُمّيت: «قوى دمشق ،»وساعد على ذلك عودة الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين للانضواء في منظمّة التحرير. وبقي هذا الحال حتىّ اجتياح العراق – حليف القيادة الفلسطينيّة – للكويت 2 آب 1990، وحرب تحريرها 17 كانون الثاني إلى 28 شباط 1991، التي شارك فيها، وفي تغطيتها، النظام السوريّ ليخرج بمكاسب كبرى ،بينما خرجت هي مكسورة. ولتبدأ التسوية السياسيّة مع إسرائيل برعاية الولايات المتحّدة القطب العالميّ الوحيد، والاتحاد السوفيتيّ الآيل للسقوط، واستضافة إسبانيا في مدينة مدريد 30 تشرين الثاني 1991. حيث وجدت القيادة الفلسطينيّة نفسها في صراع مركّّب: أوّلاً تثبيت شرعيتّها وحقّها في تمثيل الشعب الفلسطينيّ، وثانيا الوصول لأوّل طريق حلمها المستحيل بالدولة المستقلةّ. بينما لم يحظَ النظام السوريّ بالنتائج المًرجوّة كمكافأةٍ لمواقفه في حرب الخليج، وموافقته على التسوية الشاملة ،التي بنُي مؤتمر مدريد للسلام على أساسها.
فبَحث كّلّ من الطرفين عن عناصرِ القوّة. ومرةّ أخرى عاد النظام السوريّ للوضع الفلسطينيّ لتفعيل تبعيّته واستخدام هذه التبعيّة كورقة مساومة، خاصّة بعد أن وجد إضافة كبيرة لرصيده في الحركة الإسلاميّة الصاعدة في الضّفّة الغربيّة وقطاع غزة، في منافسة مع منظمّة التحرير وقيادتها. لنكون مرةّ أخرى أمام تصادم الحكم في سوريا مع قيادة منظمّة التحّرير، ومرّ ًةًّ أخرى تجري محاولة لسحب شرعيّة الأخيرة. لكن هذه المرةّ جازفت القيادة السوريةّ بالتحالف الوثيق مع فرع الإخوان المسلمين الفلسطينيّ، على الرغم من علمها أن مركزهم هو أشدّ خصومها راديكاليّة.
حصاد السنين.
هناك الكثير من الاضطراريةّ في التحالفات السوريةّ في العقد الأخير، وظهر ذلك جليّا بتحالف السلطة هناك مع حركة حماس. التحالف الذي ساعد في تسهيله اعتدادٌ بالنفس مبالغ به، نابع مًن قراءة لمسيرة حافظ الأسد وهبت لما صنعه قدسيّة وقدريةّ، وتحوّلت لثقافة سياسيّة لأهل الحكم، جعلت معتنقيها يعتقدون أنّ بإمكانهم المناورة بالسفينة إلى ما لا نهاية، معتمدين على ما اعتبروه واقعا داخليّا صلباً، وعلى موقع جيوسياسيّ سوريّ يجعل الحذرَ هو القانون المعتمَد من قِبل الدول في التًعامل مًعهم .
وعندما تحركّت أغلبيّة سوريةّ مطالبة بسقوط النظام، بدءا من 15 آذار 2011، وفشَلَ الحُّلُّ الأمنيّ معها ،وبدت الدّول الغربيّة الكبرى، مع معظم المحيط الإقليميًّ، متحرّرًةً بتزايد من الحذر في التعامل مع النظام، انحازت الكتلة الأوسع في حركة حماس لمركزها الإخوانيّ، فلم يبقَ للنظام السوريّ من القوى الفلسطينيّة إلّا تلك التي يمكن عدّها جزءا منه وتفتقدُ للشعبيّة. الأمر الذي أضعف قدرته على الاستفادة من أحد مصادر شرعيّته، بشكلٍ لا يمكن تًعويضه حتىّ بانحياز حزب الله الصريح له.
خاتمة
كانت عجالة لتسليط الضوء على عناصر وجدناها مهمّة في العلاقة بين النظام السوريِّ وقيادة منظمّة التحرير الفلسطينيّة. وكغيرها من محاولات رصد علاقات سياسيّة خلال زمن طويل عبر نصٍّ قصير ،احتوت على نقص، وشابها التسرّعُ. إلّا أنّ ما نعتقد أنهّ يغفر لنا هو محاولتنا تسليط الضوء على خلفيّة مشهد العلاقة بين السلطة السوريةّ والحالة السياسيّة الفلسطينيّة اليوم لتسهيل فهمه؛ وسعَينا لمقاربة المفارقة الحاصلة بين واقع العمليّة السياسيّة والصورة التي رُسمت لها عبر عقودٍ، من خلال نموذج صارخ عملتْ أطرافه على استخدام قضايا نبيلة لخدمة مصالح بعضها ضيّقة. ولعّلّ محاولتنا تكون ممّا يحرّض التفكير في الطريقة التي يمكن أن تقوم بها مؤسّسات سياسيّة لدول بمراعاة مصالحها بشفافيّة ،وبناء علاقات مع جوارها والعالم من خلال مراعاة كّلّ منهم لمصالح الآخر، وعبر التصريح عن الغايات والنتائج الممكنة، ومشاركة القوى السياسيّة والمجتمع في التفكير بهذه العمليّة وإقرار المناسب للدولة .
لعلنّا حينذاك نخَرج من عقدة الهوّة بين الممكن والمأمول، والمزايدات التي تهدّد بشكلٍ مؤكّّد سياسة الدّول التي لا تتغير بتغيّر الحاكم، لأنهّا تبُنى على قراءة وطنيّة لمصالح الوطن والمواطنين. ولربمّا عشنا حينذاك علاقات تكافل وتضامن حقيقيّة بين الشعوب العربيّة تساهم في تحقيق أهدافها في الحرّية والعدالة والدّيمقراطيّة والنمو.