دمشق-سلام السعدي
صيرورة الانتقال من الدفاع الى الهجوم
تعيش سوريا منذ ما يزيد عن العام ونصف العام، ثورة شعبية ضد نظام استبدادي امعن في نهب البلاد وإفقار العباد، وعمل بشكل منهجي عبر سنوات حكمه المديدة على تصفية الاحزاب والحياة السياسية، وإدارة السياسة من فوق، ومنع كل اشكال الاحتجاج والمشاركة بالشأن العام.
وقد مرت هذه الثورة بمراحل متعددة وصولاً الى هذه اللحظة التاريخية الحرجة من عمرها حيث تسود لغة السلاح، وحيث تحولت نسبة كبيرة من جموع المحتجين السلميين التي ملأت الساحات بتظاهرات شعبية حاشدة في جميع المدن السورية، الى ثوار مسلحين في كتائب تطورت تدريجياً واشتد عودها وباتت اليوم تشكل مكوناً اساسياً من مكونات الثورة.
يمكننا اليوم ان نلحظ بأن الثورة السورية ترتكز على شكليين نضاليين بارزين، هما الشكل الشعبي السلمي من جهة والشكل العسكري من جهة أخرى، وقد تبادل هذين الشكلين المواقع والهيمنة عبر مختلف مراحل الثورة في صراعها المرير مع النظام، وفيما احتل الشكل الشعبي السلمي الموقع المهيمن في مراحل الثورة الأولى )منذ بداية الثورة في 15آذار وحتى شهر آب 1102(، برز مؤخراً العمل المسلح كشكل نضالي اساسي في صراع الثورة ضد النظام.
تطور اشكال النضال
لا يوجد صيغ جامدة ووصفات جاهزة لأشكال النضال في الثورات الشعبية، حيث تثبت حركة التاريخ ودراسة الثورات العالمية الظافرة والمنتصرة بأن وسائل نضالها كانت تتنوع بتعدد الثورات وتنوع الواقع السياسي والاجتماعي لكل منها، كما تتغير بتغير الظروف التي تمر بها الثورة.
التقط المتظاهرون السوريون منذ البداية تجربة خروج التظاهرات من المساجد في يوم الجمعة والتي ازدهرت في الربيع العربي، حيث سادت رغبة جامحة لديهم في “تقمص” اساليب النضال السلمي للثورة المصرية والتونسية، لكنهم فشلوا مراراً في محاولة احتلال حيز مكاني يضغطون به على السلطة لترحل )كميدان التحرير في مصر(، وهكذا دفعهم القمع العنيف من قبل السلطة وسقوط اعداد متزايدة من الشهداء الى الابتعاد عن التقليد الأعمى والسعي الى ابتكار اشكال نضالية “سرية” تتناسب مع طبيعة السلطة القمعية وتتجنب المواجهة المباشرة معها، وهكذا بدأنا نشاهد ما عرف بالمظاهرات “الطيارة”)وهي تظاهرات سريعة تباغت قوى الامن وتنفض بسرعة ولها اثر معنوي يرتبط بالإصرار على مواصلة الثورة رغم عمليات القمع( وكتابة الشعارات الثورية على الجدران في الظلام الدامس، ووضع مكبرات الصوت التي تصدح بأغاني الثورة في الأسواق، وصولا إلى الإضراب العام الذي كان اعلى اشكال النضال السلمي، كل ذلك كان نتاج مدرسة الجماهير الثورية في سوريا التي طورت لاحقاً تحت ضغط القمع العنيف حماية شعبية مسلحة للتظاهرات، ومن ثم انشأت مكوناً عسكرياً للثورة تطورت مهامه من حماية التظاهرات السلمية الى الكفاح المسلح لإسقاط النظام، في صيرورة طويلة)حوالي العام( للانتقال من الدفاع الى الهجوم.
هكذا فإن كل انتفاضة أو ثورة جماهيرية تحمل معها أساليب نضال جديدة ومتنوعة، لا بل فإن كل فترة تمر من عمر انتفاضة معينة تضفي أساليب نضالية متمايزة عن الفترة التي تسبقها أو تليها، وذلك وفقاً للواقع ولظروف المواجهة الشعبية مع السلطة، لذلك تطورت اشكال النضال في الثورة السورية وصولاً إلى العمل المسلح، وبناء على ذلك فمن المتعذر جداً ان ترتبط الاشكال النضالية برغبات وإرادة المثقفين والنخب والأحزاب من دون النظر الى سير العملية الثورية ،ودرجة اندفاع الجماهير ومشاركتها، وردود فعل السلطة واستعدادها للتسوية مع الحركة الجماهيرية )حيث رفضت الفئة الحاكمة في سوريا القيام بأي نوع من انواع التسوية مع كما في مصر وتونس(، وهكذا فإن تباكي البعض على سلمية الثورة السورية -التي قتلتها أجهزة النظام- واعتبارها الوسيلة الوحيدة والقطعية لإسقاط جميع النظم وفي جميع الظروف الاقتصادية والسياسية، هي نظرة مثالية لا تعي الواقع ولا تفهم بنية النظام وبنية الثورة وآلية تطورها.
اليوم وصلنا إلى مرحلة يشكل فيها العمل المسلح المكون الابرز من مكونات الثورة وذلك لأسباب متعددة، منها الاسباب المباشرة التي يمكن حصرها في العنف الشديد الذي مارسه النظام، ووضع الجيش في مواجهة الشعب وبروز ظاهرة الانشقاقات التي تطورت إلى عمل مسلح منظم، ومنها الاسباب العميقة والبنيوية التي مهدت لسيادة العنف كشكل نضالي في الثورة السورية وسننتقل الى هذه الاسباب.
العوامل البنيوية في ظهور العنف كشكل نضالي
يمكننا تحديد العوامل الرئيسية في الوصول إلى هذا المستوى من العنف كشكل نضالي بعاملين أساسيين: الاول يتعلق ببنية النظام، والآخر مرتبط ببنية الثورة.النظام، بنية تنتج العنف.
في بنية النظام، لا نقول جديداً اذ نشير الى طبيعة النظام السوري الأمنية المافيوية التي تتسمبالتحكم الشديد بموارد الدولة ومؤسساتها ونهبها لصالح المافيا الحاكمة، وكذلك التحكم التام بالمؤسسة الأضخم في البلاد أي الجيش، فلا استقلالية ولو نسبية خارج فضاء العائلة الحاكمة لأي مؤسسة سورية مهما صغرت مهامها وتدنت مسؤولياتها، أدت هذه البنية الامنية للنظام الى استخدام اكبر قدر من العنف والقوة في مواجهة الاحتجاجات السلمية التي بدأت بروح مطلبية إصلاحية، وهنا لا مجال للحديث عن اخطاء فردية )حيث تساق قصة عاطف نجيب وأطفال درعا كسبب لاندلاع الثورة(، وأما ان افراداً في النظام الامني قد ارتكبوا خطاء مجنونه فهذا امر مؤكد لا مراء فيه، لكنهم ارتكبوا هذه الاخطاء تحت ضغط البيروقراطية الامنية المافيوية القائمة، وضغط عناصر الطبقة المالكة التي كانت مصالحها مرتبطة بالحكم وبإبقاء قبضتها على البلاد، وهكذا فإن الاخطاء الفردية والتقديرات المغلوطة وأسلوب النظام في اخماد الثورة هو نتيجة حتمية للظروف الاقتصادية الاجتماعية ولطبيعة وبنية النظام، فعند هذه الدرجة من سوء الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية للغالبية العظمى من السوريين، وعند هذا المستوى من النهب للثروات والتحكم بالبلاد من قبل المافيا الحاكمة، فمن المؤكد ان يواجه النظام جمهور الثورة بهذا المستوى من العنف المفرط.
إن استخدام النظام السوري هذا القدر الكبير من العنف لإخماد الثورة، هو مبرر جداً من وجهة نظر كل النظم الدكتاتورية المشابهة، حتى انه يشكل ضرورة لبقائها واستقرارها، وعلى مدار التاريخ كان استخدام النظم التسلطية للعنف أثناء قمع الاحتجاجات ضدها يتناسب عكساً مع قوة واتساع قاعدتها الاجتماعية، فمع انحسار القاعدة الاجتماعية لأي نظام يضطر إلى توسيعها بالترغيب والترهيب، كما يحمله خوفه من حالة العزلة الجماهيرية التي يعيشها على استخدام كل أنواع العنف التي يختزنها في مؤسساته القمعية، وهكذا يحق لنا أن نتساءل عن المستوى الذي وصل إليه النظام السوري في فقدان قاعدته الاجتماعية واضمحلال شرعيته حتى يستخدم هذا المستوى المرعب من العنف ضد المحتجين.
بنية الثورة ومكوناتها الاجتماعية
بينما نجح عنف ودموية الأجهزة الأمنية بمنع انخراط الفئات الوسطى بشكل اكبر ومستمر في الحراك السلمي، فقد عجز عن منع الفئات الشعبية المفقرة من المشاركة الكثيفة والمستمرة ،حيث شكلت هذه الفئات الأرضية الصلبة التي قامت عليها الاحتجاجات وكانت سر قدرتها على الصمود والاستمرار، كما كان لها الدور الحاسم في تبلور المكون العسكري لاحقاً، وذلك في خضم صراعها مع النظام، حيث أن وضعها الطبقي في سورية المعاصرة، يجعلها تفهم قبل غيرها بأن مسألة الحرية هي من المسائل التاريخية الكبرى التي لا تحل في نهاية الأمر في مثل هذه النظم المافيوية إلا بالقوة، وإن الظفر بالحرية لن يتم دون تقديم أكبر التضحيات، وبتحطيم قوة الحكم المطلق بجميع الوسائل بما فيها بقوة السلاح، لقد كانت أول من فهم هذه المعادلة، وأعظم من اندفع من أجل تحقيقها.
وفي تفاصيل التدهور الاقتصادي-الاجتماعي الذي لحق بهذه الفئات، نشير الى ان ازدياد أعداد الفقراء والعاطلين عن العمل كان سمة العقد الأخير من تاريخ سوريا، الذي تميز بانهيار قطاعات الإنتاج الزراعي والصناعي وانسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية وإفساح المجال لمافيات المال والعقارات والخدمات المتحالفة مع السلطة، فارتفعت وتيرة النهب والسطو على مقدرات الدولة والمواطنين ليغدو حجم من هم تحت خط الفقر نحو 7 ملايين نسمة، يمثلون %34.3 من إجمالي سكان سورية.
وخضعت جغرافية الانتفاضة السورية لجغرافية الفقر بشكل كبير، فكان التهميش التنموي سمة عامة ومشتركة للمناطق الثائرة والتي حملت السلاح لاحقاً، حيث تشير بيانات عام 2004 إلى تركز الفقر “المدقع” في المنطقة الشمالية الشرقية، وتٍحديداً إدلب وريف حلب ومحافظات الرقة ودير الزور والحسكة، التي استحوذت على أكبر عدد من الفقراء بالعام 2004، وتعد المنطقة الشمالية الشرقية اليوم احد اهم حوامل المكون العسكري للثورة، بينما ازداد في الأعوام الأخيرة الفقر الشديد و العميق في المنطقة الجنوبية التي شهدت مدنها )ومنها درعا شرارة الثورة( أكبر زيادة في معدلات الفقر منذ عام 2004 حيث أصبحت نسبة الفقر في عام 2007 ضعف نسبة الفقر في عام 2004 تقريباً، وبالتالي فإن هذه المنطقة التي كان لديها أدنى مستويات الفقر في عام 2004، غدت ثاني أفقر منطقة في عام 7002.)الأرقام من المجموعات الاحصائية للمكتب المركزي للإحصاء، ومن كتاب محمد جمال باروت، العقد الاخير في تاريخ سوريا: جدلية الجمود و الإصلاح(وهكذا نجد أن شرارة الانتفاضة انطلقت من المنطقة الجنوبية التي شهدت اكبر وأسرع تدهور تنموي خلال الخمس سنوات الماضية، وامتدت وتوسعت في المدن المهمشة وفي الأرياف )ريف دمشق، ريف حماه، ريف ادلب، ريف حلب(، وإذا كان من سمات هذه الثورة أنها أخذت شكلا مناطقياً واضحاً، فقد استمدت ذلك من الشكل المناطقي الذي يأخذه الفقر في سوريا، حيث شكل سكان “مناطق الفقر” شرارة الانتفاضة وجموع المتظاهرين والمكون العسكري لاحقاً، وهكذا أثبتت الطبقات الشعبية بأنها الوحيدة القادرة على القتال على رأس الشعب بكل ما تعنيه كلمة قتال من معنى، في سبيل تحقيق الحرية الكاملة، وتحقيق حياة كريمة وعادلة، كانت مستعدة للقتال حتى الموت في سبيل ذلك.
مراحل تطور العمل المسلح:
خضع العمل المسلح أثناء الثورة لثلاث مراحل، في المرحلة الأولى بدأ كردود فعل فردية على عمليات القتل ضد المتظاهرين وكانت ردود الفعل تلك تطال أفراد من الأمن المتورطين بالقمع وكانت تأخذ طابع انتقامي فردي أكثر من أي شيء آخر، ثم تطور في المرحلة الثانية ليأخذ شكل تنظيمي بسيط ومرتبط بالحركة الشعبية وداعم لها وكان يقوم بثلاثة مهام:
الملف الثورة السورية: الواقع والتحديات والآفاق
حماية التظاهرات الشعبية التي خرجت باستمرار من جميع الأحياء والبلدات الثائرة والتي كانت تتعرض لهجمات الأمن و الشبيحة، فطور الحراك الجماهيري وسائل مسلحة لحماية حراكه وكان ذلك يجري بالتعاون مع المنشقين عن المؤسسة العسكرية.
تامين مصادر مالية من خلال مصادرة أموال تعود لمؤسسات الدولة أو لأفراد يعملون مع الدولة وذلك بهدف تمويل عمليات التسليح وتقديم المعونة للناشطين والمسلحين المتفرغين لذلك.
القيام بعمليات اغتيال لشخصيات هامة وللمتعاونين مع الأجهزة الأمنية.
في هذه المرحلة من التطور البسيط للعمل المسلح ظهرت تخوفات وانتقادات مبدئية لاستخدام السلاح ونظر البعض إلى هذا الشكل النضالي على انه مجرد أعمال قام بها أفراد منفصلون عن الجماهير ومرتبطون بالخارج، وبأنه يضعف معنويات الجماهير ويقلل من انخراطهم بالثورة و يصرفهم عنها، إن العمل المسلح وفقاً لهؤلاء كان يشوش أهداف الثورة و يسيء إليها.
هذا ما توصل إليه البعض متجاهلين أن العمل المسلح في الثورة السورية هو شكل نضالي حتمي في هذه المرحلة من الثورة وعند هذا المستوى العالي من الحراك الجماهيري ومن رود الفعل العنيفة جداً للسلطة، كما ان التدقيق في العمليات المسلحة وتطورها يشير إلى أنها رفدت الثورة بوسيلة نضالية هامة حافظت عليها ومنعت إمكانية سحقها عبر حماية التظاهر السلمي الذي استمر بالاتساع مع بروز ظاهرة حماية التظاهرات، لقد ابتكر الحراك الثوري شكلين نضاليين متكاملين مترابطين، ليس لأحدهما أن يستمر دون الآخر، التظاهر السلمي من جهة، والعمل المسلح المرتبط بنشاط الثورة من جهة أخرى.
البعض ربط تخوفاته من العمل المسلح بتجربة أحداث الإخوان المسلمين ويؤكد انطلاقا من ذلك على فشلها، لقد كان العمل المسلح بالثمانينيات عبارة عن هجوم يائس من قبل مجموعات الإخوان على سلطة قوية عسكرياً وسياسياً ومتماسكة اجتماعياً )بسبب الاستقرار الطبقي الذي أوجدته عمليات التأميم والإصلاح الزراعي(، وكان هذا الهجوم فاقد لكل ارتباط شعبي وهنا صبت المعادلة بكل تأكيد في صالح السلطة الأكثر تنظيما وقوة وعتادا، فالتعبئة الثورية للجماهير في ظل وضع ثوري هي السبيل الوحيد لتجاوز معادلة تفوق سلاح السلطة، وهذا ما حدث في الحالة السورية، حيث شهدت سوريا اندفاع سيل جماهيري جارف ليشارك بالسياسة وتعبئة جماهيرية ثورية لم تشهد لها سوريا مثيل في تاريخيها الحديث، إن ارتباط العمل المسلح كشكل نضالي بالتعبئة الجماهيرية هو مصدر قوته، فوحدها التعبئة الثورية للجماهير يمكنها أن تهزم التفوق العسكري والتقني وان تبطل مفعوله، وهنا ينبغي دراسة تكتيك العمل المسلح وتطويره بما يضمن الحفاظ على هذه المعادلة، فالتاريخ اثبت انه يمكن إخماد أية ثورة، وحتى أكثر الثورات بعثاً للآمال قد أمكن تدميرها عندما انفصل قادتها الثوريين وطليعتها الجماهيرية عن القاعدة الشعبية الأوسع واختاروا العمل “النخبوي” الثوري المسلح، وعندما لم تأخذ قيادتها بضرورة الحشد والتعبئة الجماهيرية في مواجهة قوى السلطة القمعية.
مما لا شك فيه أن العتاد والسلاح ودرجة تطوره هام في الثورات التي يكون فيها السلاح احد أشكال نضالها، ولكنه غير حاسم في أهميته، ولو كان حاسما لفشلت جميع تلك الثورات، لان السلطات الحاكمة تدخل دوما المعركة مع الطبقات الشعبية وتحت إمرتها مؤسسات الجيش والأمن وقوى القمع المنظمة داخل المجتمع )البلطجية، الشبيحة…( ومع ذلك نجحت ثورات عديدة في العالم بإسقاط أعتى الأنظمة، إن ما يحدد في النهاية انتصار الطبقات الشعبية الثائرة هو أصالة أهداف الثورة وارتباطها بالواقع السياسي- الاقتصادي، وبالتالي توفر القدرة على تعبئة الجماهير حول برنامج الحركة الثورية، وهنا تأتي أهمية البرنامج الثوري وأهمية طرائق التنظيم والتكتيك الثوريين وكذلك فطنة وتوقد ذهن القيادات الثورية، والتي تمثل جميعها نقاط ارتكاز مفقودة في الثورة السورية، وذلك لأسباب ذاتية تتعلق بطبيعة وتكوين المعارضة السورية، وكذلك لأسباب موضوعية تتعلق بطبيعة الدولة السورية المحكومة بقوة الاستبداد والأجهزة الأمنية التي سحقت الحياة السياسية، ففي سوريا لا يوجد أحزاب سياسية قوية ولا حتى قيادات وطنية تقود الثورة ،بالإضافة لعجز الثورة حتى الآن عن إيجاد قيادة ميدانية موحدة، وذلك بحكم المخاطر الأمنية الكبيرة التي تحيط بالناشطين والمتظاهرين وانعدام الحيز العلني للنشاط، هذا ما يجعل من النشاط المناطقي السري، المتصف بالتشتت والاعتماد على الذات هو أساس العمل الثوري في سوريا مع قدر ضئيل )يرتفع باستمرار( من التواصل والتنسيق بين فعاليات الثورة على الصعيد الوطني، وهذا مكمن ضعف في الثورة وفي برامجها المطروحة أو ربما الغائبة.
بالنتيجة حدث اتساع كبير في نشاط العمل الثوري المسلح خلال هذه المرحلة، لكنه حافظ على ارتباط وثيق بنشاط الثورة الشعبية فكان يمارس تكتيكاته على ضوء استمرار هذه العلاقة، كان ينسحب من المدن لكي لا يوفر ذريعة لقوى الأمن والجيش بقصفها، ثم يعود ويدخلها بعد حين ،ساهم بالإضراب في المدن الكبرى، وقدم أمور عديدة أثبتت انه ابن شرعي للثورة وهو يدعمها ويوضحها أكثر من كونه يشوش عليها، وان غيابه عن الثورة -الذي يطلبه البعض- عدا عن كونه غير ممكن حسب السير الموضوعي للأحداث، لكنه أيضا كان ليضع الثورة الشعبية في طريق مسدود ويدخلها في مرحلة من الإحباط واليأس والتخبط أمام جبروت النظام، فكان لا بد للثورة من أن تطور أشكال نضالها بما يجعلها تفتح افقأ جديداً على أرضية افقها الأول أي العمل الشعبي كوسيلة أساسية وإستراتيجية في إسقاط النظام، هذا التكامل هو ما أزال التشويش عن الثورة ووضحها و جعل خطواتها أكثر ثقة وثبات على طريق النصر.
المرحلة الثالثة، المكون العسكري كشكل نضالي مستقل:
انتقل النظام من دائرة الحل الامني الى دائرة الحل العسكري وراج يتبع سياسة الارض المحروقةمن دون رادع، وتزايد معها الاعتماد على السلاح لحماية التظاهرات وكذلك تزايدت الانشقاقاتعن الجيش، فكان العمل المسلح يتطور تدريجياً، وكان التنظيم والتسليح والتدريب والتكتيكيتطور معه أيضا في ضوء الحاجات المتزايدة له، وهكذا اشتد عود العمل المسلح في الثورة وراح يأخذ شكلاُ أكثر اتساقاً وانضباطاً وتنظيماً، وارتفعت أعداد المسلحين الذين يدافعون عن الثورة إلى حد جعل العمل المسلح يجتاز مرحلة جنينية سابقة ليدخل بمرحلة أخرى يكون فيها تأثيره أكبر وقدرته أعلى، وذلك بالتزامن مع ارتفاع مستوى التكتيك القتالي ضد أجهزة النظام ومليشياته وحيازة الثوار على بعض الأسلحة المضادة للدبابات والمدرعات التي جعلت من اقتحام المدن مهمة عسيرة ومكلفة للغاية، هذا ما دفع النظام لاستخدام المدافع والحوامات العسكرية والطيران الحربي لقصف مناطق خارج سيطرته وعاجز عن دخولها، وبالنتيجة فإننا شهدنا تطور نوعي في العمل المسلح حيث أصبح له بنية تنظيمية ومهام ونشاطات لا ترتبط بشكل مباشر بالحراك الشعبي كما كانت سابقاً )مهام حماية التظاهرات واغتيال المخبرين( انها مهام “عسكرية”، تعمل على تحقيق انتصارات عسكرية على النظام، أي انه اتجه للتشكل التنظيمي والعسكري تحت شعار: “إسقاط النظام بالكفاح المسلح”.
لذلك بات يتحصن في مدن وبلدات معينة، وتعجز السلطة عن الدخول إلا بتدمير شامل للمدن ،حيث ينزح السكان عن المدينة ويتوقف الحراك الشعبي فيها ويتحول إلى عمل مسلح مباشر، كما أن ارتفاع أعداد المنشقين وتطوع أعداد متزايدة من المدنيين في الجيش الحر بعد تدمير مدنهم وقتل أهلهم أدى إلى تغير نوعي في أعداد الجيش الحر، وباتت كتلته كبيرة بحيث يصعب معها تنفيذ انسحابات تكتيكية كما كان يفعل سابقا لكي لا يدمر المدن، هذا دفعه للتمركز في أماكن والدفاع عنها حتى النهاية لتتحول إلى مناطق عسكرية مدمرة وغير مأهولة بالسكان لا تصلح إلا كساحات قتال وتمركز للجيش الحر.
إن انتهاء العمل الشعبي والتظاهر في المناطق التي يتمركز فيها الجيش الحر، بسبب تدمير المدن ونزوح السكان والتحول نحو الكفاح المسلح في المدن المدمرة، حدث بوتيرة سريعة ومتزايدة ،وهو أخطر ما حمله هذا الشكل من العمل المسلح على التعبئة الجماهيرية والمشاركة الشعبية.
لكن خطراً آخر لا يقل اهمية حمله هذا التشكل المستقل للعمل المسلح، وهو ارتفاع مستوى التدخلات الدولية والإقليمية في شؤون الثورة، وإذا كانت هذه التدخلات متعذرة في ثورة شعبية جامحة، فإنها ايسر في تشكيلات عسكرية محددة تحتاج الى دعم كبير بالمال والسلاح لتحافظ على مواجهة متوازنة مع النظام المدجج بالسلاح، الاسوء هو اشتراطات الداعمين ،والتي كانت تتضمن رفع مستوى الخطاب الطائفي في الثورة مستغلة البيئة الخصبة الناشئة.
إن مستوى العنف الذي استخدمه النظام ضد ثورة شعبية سلمية، وطول مدتها وارتفاع مستويات القتل والدمار الذي يحدثه النظام في البيئة الحاضنة للثورة، بالإضافة لتدني مستوى الممارسة السياسية لدى المعارضة، كل تلك العوامل جعلت من المحتم ظهور خطاب متطرف لدى قسم من أهل الثورة، خطاب أصولي اجتذبه الدمار والقتل والعنف الذي أمّنه النظام، بالإضافة لدعم سياسي مالي خليجي وجد في هذا الخطاب مخرجاً لنظامه السياسي من مأزق الثورات العربية
29
وشعاراتها المدنية الحداثية، فمن المؤكد بأن الهوة القائمة بين مطامح الثورات العربية والنظام السياسي العربي هي أعظم ما تكون مع النظم السياسية الخليجية.
هكذا تزايدت المظاهر “الدينية” في خطاب المكون العسكري للثورة، وهي تعبر في جزء منها كما قلنا عن لجوء روحي الى الاله الجبار القادر على كسر ارادة الطاغية الذي يفتك بالشعب، وعن غياب التشكل السياسي لهذا المكون، لكنها في شقها المتطرف “الأصولي” تعبر عن ارادة اقليمية ليست بريئة على الإطلاق، حيث عملت بجهد على خلق مجموعات اصولية متطرفة تحرف الثورة عن مسارها، وتضرب اهدافها المعلنة في دولة مدنية ديمقراطية الشعب فيها هو مصدر السلطات.
خاتمة:
من غير المتوقع ان يتمكن المكون العسكري للثورة السورية عند هذا المستوى من التسليح والترابط والتنظيم من إلحاق هزيمة عسكرية بالنظام الذي يدافع عن نفسه عبر جيش مدجج بالأسلحة ومخصص لمواجهة الكيان الصهيوني، كما أن النظام لن يتمكن من هزيمة المكون المسلح عند المستوى الذي وصل إليه ومع الالتفاف الشعبي الذي يحظى به، هذه هي المعادلة العسكرية السائدة، لكن العمل المسلح في الثورات الشعبية لا يبتغي حسماً عسكرياً بقدر ما يبتغي الحسم السياسي، وهكذا تتابع الثورة السورية طريقها بمسار ثابت نسبياً وبصفة عامة “مهيمنة” وهي: مزيد من القوة والتوسع للثورة وقواها، ومزيد من الضعف والتفكك والانهيار للنظام السوري ومؤسساته، تتابع الثورة طريقها وهي تتمسك بالاحتجاج السلمي وبالعمل المسلح جنباً الى جنب ،وسيأتي اليوم الذي ستتخلى فيه الثورة عن العمل المسلح، عندها ستكون ساعة الحسم السياسي قد حانت