إبراهيم الجبين
لم تتوقف عجلة الحياة في سوريا إبان حكم البعث وحافظ الأسد ثم بشار الأسد ،واستمرت تنتج أشكالاً لا نهائية من التوافق مع المعطيات الجديدة التي ظهرت فجأة ثم أخذت تتطور وتتعقد أمام السوريين، ولم يستطع أي من مؤرخي الستينيات الجهر بحقيقة أن هناك مؤامرة ما، أو خطة ما، أو ترتيباً ما لتلك الرقعة من الشطرنج المسماة سوريا، والتي كانت تسير إلى منعرجٍ لا يعلم به إلا الله، وهو أصل معضلة إقليم بلاد الشام وسر تميزه، أنه يمضي خارجاً من لحظة معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة العربية اللادينية الأولى بلا منازع، وصولاً إلى تفتيته بعد انتزاعه من رعوية وتبعية دينية أكثر منها سياسية جعلت من دمشق عاصمة روحية لطالما طاب للباب العالي وصفها بـ )شام شريف(.
فُكّك الإقليم وقُسم وشاءت له طبائع نفوس من خرجوا من بين حواريه وضيعه ومدنه أن ترنو أنظارهم إلى الأفق، فهو تارة أفق أممي إسلامي يمتد من إندونيسيا إلى واحدة من بدائع الصنيع الدمشقي التي تعلم الغرب منها درساً لم ينسه يوماً..)الأندلس(، وتارةً هو منبع إشعاع لفكرة جديدة قديمة، أحيت النبض القومي الذي لم يهدأ ضجيج أجنحته على امتداد الأرض من شواطئ الخليج إلى شواطيء الغرب، فاستمرت الشام مشكلة المشاكل لكل من أراد أو احتاج إلى السيطرة على المنطقة، أو على الأقل حماية مصالحه فيها، أو افتتاح بوابات مصالح أخرى جديدة.
ولم تجد اتفاقية سلام واستقلال وقعتها الحكومة الفرنسية مع ممثلي الكلتة الوطنية، نصت على استقلال تدريجي لسوريا، نفعاً، فقد وقف ضدها وخطب في كل المدن والاصقاع السورية مندداً باتفاقية الاستسلام، صاحب أكثر الكاريزمات حضوراً في المنطقة، وموجّه التفكير القومي العلماني الاصيل طيلة العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، فكان لابد من التخلص من الزعيم ـ كما كان يطلق عليه الإعلام والأوساط السياسية في سوريا والعالم العربي ـ الدكتور عبدالرحمن الشهبندر، في عملية ظهرت وكأنها انتقام بضعة إسلاميين من مفكر انتقدهم أكثر من مرة، وفي جانب منها مؤامرة داخلية لم يكن أطرافها سوى الجابري والقوتلي ومردم بيك، ولكن الخافي الأكبر كان دور سلطة الاحتلال التي تسيطر تماماً على سوريا في العام 1940 ودور أحد أقارب أسرة الجميل الذي عمل في تلك الفترة نقيباً في الاستخبارات الفرنسية، وتم الاغتيال في العيادة الدمشقية كما تم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في أحد منعطفات بيروت في العام 2005 ، وكأن اللحظة تحتاج إلى إزاحة زعامة ما عن المنطقة يشكّل وجودها تهديداً كبيراً لما هو مرسوم وما هو متفق عليه.
لكن الخطر كان قد بدأ بالتشكل أصلاً بقدوم مصطفى السباعي من مصر وتأسيسه لأولى خلايا تنظيم الإخوان المسلمين في سوريا، في الوقت الذي تشكّل فيه تيار قومي وريث مثله البعث العربي الاشتراكي قبل دمج جناحيه الأسياسيين وبعده، وصعود خالد بكداش والحزب الشيوعيفي سوريا، واعترافه السريع بما اعترف به ستالين في العام 1948 ، قرار تأسيس دولة دولة إسرائيل، والإرباك الكبير الذي دخلت فيه المنطقة منزلقةً متعجلة، ليكون نواةً لما سيخلق الصراع في سوريا فيما بعد بين تيارات لم تكن قد بدأت بعد في التنافس على الساحة الشعبية والرأي العام، ولكن كيف سيغامر العالم ببلاد الشام في مقامرة لن تكون نتائجها محسوبة؟! فكان القرار أن تبدأ الانقلابات وتعزّز، ويبدأ عصر العسكر، ولن ينتهي بعصر سميناه طويلاً عصر الديمقراطية الذهبي في الخمسينيات، ولكنه تكرّس أكثر بمشروع الوحدة الذي أجبرت عليه الطبقة السياسية انسجاماً مع رغبات الجماهير والمد القومي الثائر الذي مثلته حنجرة جمال عبدالناصر أكثر من بندقيته.
سحقت سوريا التي كانت قبل الوحدة، طيلة سنوات الوحدة، ودمرت العلاقات الاجتماعية المدينية الراسخة في أنحائها وطبقاتها، وتم تبديل المليكات، وتأميم المصانع والأراضي وأزيحت البرجوازية التي حملت مشروع الاستقلال والنهضة والفكر القومي وكانت حاضنته أصلاً في بلاد الشام، وصعد الريف، والمزيد من العسكر، حتى ضج أهل المدن أو من سموهم وقتها )الضباط الشوام( واتخذوا قراراً بتصحيح مسار الوحدة، فصمها أو تقويمها، ولم تقبل سلطة عبدالناصر أن يملي عليه أحدٌ من رعاياه ما يجب أن يفعل أو كيف ينبغي أن يتصرف، فقرر تنفيذ إنزال عسكري في اللاذقية مني بالفشل وسرعان ما جاءته الإشارة الأميركية بعدم التدخل في سوريا بعد الآن.
ولكن هناك من كان ينتظر الفرصة كي يضيعها، بينما ترقّب آخرون فرصاً قلما سنحت، في عهد الانفصال، فابتعدت القيادات التاريخية للحراك السياسي عن المشاركة، وظنت أنها تعبر في غيمة سريعاً ما تنجلي، في الوقت الذي استقبلت فيه دمشق ضيفاً لم يكن ثقيل الظل على كثيرين ،بينما أرخى ما فعله بظلاله المريعة على سوريا كلها والمنطقة طيلة خمسين سنة مضت..إنه كامل أمين ثابت أو الياهو كوهين.
إلياهو كوهين وتأسيس نظام المقاومة في دمشق
الياهو بن شاؤول كوهين يهودي من أصل سوري حلبي، ولد بالإسكندرية التى هاجر اليها أحد اجداده سنة 1924 وفي عام 1944 انضم ايلي كوهين الى منظمة الشباب اليهودي الصهيوني في الإسكندرية وبدا متحمسا للسياسة الصهيونية العدوانية على البلاد العربية، وبعد حرب 1948 اخذ يدعو مع غيره من اعضاء المنظمة لهجرة اليهود المصريين الى فلسطين وفي عام 1949 هاجر أبواه وثلاثة من أشقائه إلي إسرائيل بينما بقي هو في الإسكندرية.
كان كوهين يعمل تحت قيادة إبراهام دار وهو أحد كبار رجال الاستخبارات الإسرائيليين الذي وصل إلى مصر ليباشر دوره في التجسس ومساعدة اليهود علي الهجرة وتجنيد العملاء ،وهو ذاته الشخصية الشهيرة )جون دارلينج( وشكل شبكة للمخابرات الإسرائيلية بمصر نفذت سلسلة من التفجيرات ببعض المنشأت الأمريكية في القاهرة والإسكندرية بهدف افساد العلاقة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية وفي عام 1954 تم إلقاء القبض على أفراد الشبكة في فضيحة كبرى عرفت حينها بفضيحة )لافون(، وبعد انتهاء عمليات التحقيق كان كوهين قد تمكن من إقناع المحققين ببراءة صفحته إلي أن خرج من مصر عام 1955 إلى إسرائيل حيث التحق فيها بالوحدة رقم 131 ضمن جهاز )أمان( لمخابرات جيش الدفاع الإسرائيلي ثم أعيد إلي مصر فاعتقلته المخابرات المصرية مع بدء العدوان الثلاثي ضد مصر في أكتوبر 1956، ولكن وبظروف غامضة تم الإفراح عن إيلي كوهين في مصر ليعود إلى إسرائيل من جديد بعد سنة من الإقامة هناك، حيث عمل محاسبا في إحدى الشركات، وانقطعت صلته مع )أمان( لفترة من الوقت، ولكنها استؤنفت عندما طرد من عمله وعمل لفترة كمترجم في وزارة الدفاع الإسرائيلية ولما ضاق به الحال استقال وتزوج من يهودية من أصل مغربي عام 9591.
رتبت المخابرات الإسرائيلية لكوهين قصة سورية كثيراً ما توجد وتحكى في بيوت السوريين ،عن مهاجرين غادروا سوريا في الماضي ويريدون العودة إليها بعد أن تحسنت أحوالهم، وقد تقرر أن يكون كوهين مسلما يحمل اسم )كامل أمين ثابت( هاجر وعائلته إلى الاسكندرية ثم سافر عمه إلى الارجنتين عام 1946 حيث لحق به كامل وعائلته عام 1947 وفي عام 1952 توفى والده في الارجنتين بالسكتة القلبية كما توفيت والدته بعد ستة أشهر وبقى كامل وحده هناك يعمل في تجارة الأقمشة.
وتم تدريبه على كيفية استخدام أجهزة الارسال والاستقبال اللاسلكي والكتابة بالحبر السري كما راح يدرس في الوقت نفسه كل أخبار سوريا ويحفظ أسماء رجالها السياسيين والبارزين في عالم الاقتصاد والتجارة مع تعليمه اصول الايات القرآنية وتعاليم الدين الإسلامي.
وفي 3 شباط ـ فبراير من العام 1961 غادر ايلي كوهين إسرائيل إلي زيوريخ، ومنها حجز تذكرة سفر إلي العاصمة التشيلية سنتياجو باسم كامل أمين ثابت.
وفي الارجنتين تعلم كوهين اللغة الاسبانية، وبمساعدة بعض العملاء تم تعيين كوهين في شركة للنقل وظل لمدة تقترب من العام يبني وجوده في العاصمة الأرجنتينية كرجل أعمال سوري ناجح، فكون لنفسه هوية لا يرقى إليها الشك، واكتسب وضعا متميزا لدى الجالية العربية في الأرجنتين، باعتباره قوميا سوريا شديد الحماسة لوطنه، وأصبح شخصية مرموقة في كل ندوات العرب واحتفالاتهم، وسهل له ذلك إقامة صداقات وطيدة مع الدبلوماسيين السوريين وبالذات مع الملحق العسكري بالسفارة السورية، العقيد أمين الحافظ، خلال المآدب الفاخرة التي اعتاد كوهين أو كامل أمين ثابت إقامتها في كل مناسبة وغير مناسبة، ليكون الدبلوماسيون السوريون على رأس الضيوف، لم يكن يخفي حنينه إلي الوطن الحبيب، ورغبته في زيارة دمشق، لذلك لم يكن غريبا أن يرحل إليها بعد أن وصلته الاشارة من المخابرات الاسرائيلية، ووصل إليها بالفعل في كانون الثاني ـ يناير 1962 )ولا يجب التغافل عن توقيت الإنفصال ما بين سوريا مصر الذي يتزامن مع تطورات تحرك كوهين فقد وقع الإنفصال في 28 أيلول ـ سبتمبر 1691( أي قبل اربعة اشهر فقط من انطلاق مهمة كوهين على الأراضي السورية، الذي كان قد قام بجولة طيران واسعة للتمويه على عواصم أوروبية، قبل أن ينزل في مطار دمشق وسط هالة من الترحيب والاحتفال ،بسبب سمعته التي نقلها العقيد أمين الحافظ عن وطنية هذا الرجل وشوقه إلى بلاده، حينها أعلن كامل أمين ثابت أنه قرر البقاء في سوريا ونقل أعماله التجارية إليها.
وبعد أقل من شهرين من استقراره في دمشق، تلقت أجهزة الاستقبال في أمان أولى رسائله التجسسية التي لم تنقطع علي مدي ما يقرب من ثلاث سنوات، بمعدل رسالتين على الأقل كل أسبوع. وفي الشهور الأولى تمكن كوهين من إقامة شبكة واسعة من العلاقات المهمة مع ضباط الجيش والمسئولين الحربيين، وكان من الأمور المعتادة أن يقوم بزيارة أصدقائه في مقار عملهم ،ولم يكن مستهجنا أن يتحدثوا معه بحرية عن تكتيكاتهم في حال نشوب الحرب مع إسرائيل ،وأن يجيبوا بدقة عن أي سؤال فني يتعلق بطائرات الميج، أو الغواصات التي وصلت حديثا من الاتحاد السوفيتي أو الفرق بين الدبابة تي ـ52 وتي ـ45.. الخ من أمور كانت محل اهتمامه كجاسوس.
أنقل هنا ما تتداوله الكتب والمقالات عن مهمة كوهين، ولكن هل كانت حقاً هذه هي مهمة رجل إسرائيل في دمشق؟! كان الكثير من المعلومات يصل من كوهين إلى إسرائيل، ومعها قوائم بأسماء وتحركات الضباط السوريين بين مختلف المواقع والوحدات، حيث تمكنت المخابرات الإسرائيلية من رسم خارطة كاملة للعسكرين السوريين، وصار بإمكانها تحديد أهدافها بدقة ،وفي سبتمبر1962 صحبه أحد أصدقائه في جولة داخل التحصينات الدفاعية بمرتفعات الجولان. وقد تمكن من تصوير جميع التحصينات بواسطة آلة التصوير الدقيقة المثبتة في ساعة يده ،وهي احدى ثمار التعاون الوثيق بين المخابرات الإسرائيلية والأمريكية.
وفي العام 1964، عقب ضم جهاز أمان إلى الموساد، زود كوهين قادته في تل أبيب بتفصيلات وافية للخطط الدفاعية السورية في منطقة القنيطرة، وفي تقرير آخر أبلغهم بوصول صفقة دبابات روسية من طراز تي ـ54، وأماكن توزيعها، وكذلك تفاصيل الخطة السورية التي أعدت بمعرفة الخبراء الروس لاجتياح الجزء الشمالي من إسرائيل في حالة نشوب الحرب.
وكان كوهين كما وصفه البعثيون في ذلك الوقت الراعي المالي لحزب البعث، الذي عاش في دمشق طيلة مراحل الانفصال وانقلاب البعث في الثامن من آذار 1963، وأغرق البعثيين بالأموال ،ودعمهم كي يعيدوا بناء تنظيمهم الذي كان قد تم حلّه أيام الوحدة مع مصر.
تظل بقية القصة معروفة للجميع ودور الجاسوس المصري رفعت الجمال في اكتشاف شخصية كوهين، ولكن هذا لا يمنع أن من قام بتسريب معلومة تقول إن كامل أمين ثابت هو جاسوس إسرائيلي إنما هو جاسوس إسرائيلي آخر، أي أن مصدر المعلومة إسرائيل نفسها، التي خلقت كوهين ليبعث حزب البعث من جديد، ويسلمه السلطة في سوريا، ويهيء شبكته التي حكمت سوريا حتى اللحظة، وها هي تقرر الآن التخلص من الحلقة الأضعف وتبقي على الشبكة.
أوردت نشرة الاشتراكيين العرب وقتها ما نصه: )إننا نضم صوتنا الى أصوات طلاب الجامعة ونطالب بإجراء محاكمة نزيهة تكشف تآمر الاستعمار واسرائيل على بلادنا، ان الشعب يرقب بعين يقظة ما يدور على المسرح من أمور ظاهرة، وما يدور خلف الكواليس من أمور مستترة ،والشعب لن يسكت على التلاعب بمصيره أبداً، مهما تفنن الحاكمون في إبعاده عن حلبة الأحداث(.
لقد كانت محاكمة كوهين مهزلة من المهازل، وإهانة لذكاء الشعب في سورية، وفصلاً من فصول الكذب والتزوير الذي ما زال يعم عالمنا العربي حتى الآن، فلقد تجنب كوهين -ولا شك أن ذلك تم بتوصية من المحكمة العسكرية- ذكر أسماء من تعرف عليهم من المدنيين والعسكريين البعثيين ،بينما ذكر أسماء بعض من كانوا يمدونه بالمعلومات من موظفي الإذاعة ودوائر الدولة، وذلك لأن الناس في سورية وكذلك وسائل الاعلام العربية كانت تتهم بعض أعضاء المحكمة العسكرية بعلاقاتهم المشبوهة معه، وكان أكيداً ومعروفاً في بعض الأوساط، أن إحدى فتيات كوهين، وهي مضيفة طائرة ورد اسمها في المحاكمة، كانت عشيقة لصلاح الضلي رئيس المحكمة الذي حاول بغباء نفي التهمة عن سليم حاطوم في الوقت الذي كان فيه متهماً هو بالذات، قال الضلي لكوهين:
هل تعرفت على سليم حاطوم في السابق؟ أجاب كوهين: ما بعرفو… ما شفتو…
فقال له الضلي: طلّع عليه، بلكي بتلاقيه هون!
فقال كوهين: بكون رائد على كل حال.. ليكون هذا؟ وأشار الى حاطوم.
قال الضلي: شو أعطاك معلومات؟ إذاعة بغداد بتقول إنك تعرف سليم حاطوم وإنك صديقه وصديق شخصيات كبيرة في البلد.
قال كوهين:
هي أول مرة بشوفو واسألوه إن كان رآني من قبل!
وعندما كال رئيس المحكمة الشتائم للإذاعات وأصحاب الصحف العربية واتهمهم بأنهم عملاء مأجورون، سأل كوهين عن رأيه فوافقه بأنهم عملاء مأجورون بالمصاري.
وكان أخطر ما جاء في أقوال كوهين لرئيس المحكمة عندما نهره قائلاً: اسكت جاسوس.
فأجابه كوهين: أنا مبعوث مو جاسوس.
فوافقه رئيس المحكمة على ذلك قائلاً: أنت مكلف وغيرك مأجور، أنت تقوم بواجبك بس هؤلاء.. فقاطعه كوهين قائلاً: مأجورون بالمصاري.
في تلك الفترة أجرى الصحافي السوري زهير المارديني، وكان يعمل آنذاك مراسلاً في مجلة الأسبوع العربي التي تصدر في لبنان، مقابلة مع أحمد سويداني رئيس المخابرات في سورية، ولا بد أن تلك المقابلة كان موعزاً بها من سويداني الذي وضع تحت تصرف المارديني ملف التحقيق مع كوهين، وقد وردت في ذلك العدد، نقلاً عن ملف التحقيق، تفصيلات ومعلومات عن قضية كوهين أكثر مما ورد في المحاكمة، ومن المؤسف أنني فقدت ذلك العدد، وكانت النشرة الداخلية للاشتراكيين العرب قد لخصته كالآتي: صرح المقدم أحمد سويداني لمجلة الاسبوع العربي بأن المعلومات التي كان يرسلها كوهين إلى إسرائيل هي:
معلومات عن القوات المسلحة السورية بالتفاصيل.
معلومات عن رجالات القطر السوري، وعن كل ما له علاقة بهم وبتصرفاتهم.
معلومات اقتصادية وزراعية وتجارية.
معلومات عن التحويل الاشتراكي.
معلومات عربية عامة.
وقد علقت النشرة على ذلك: إن الجاسوس لم يعترف أمام المحكمة إلا بمعلومات تافهة أرسلها لدولته، وقبلت منه المحكمة أقواله على علاتها، فهل هذا يعني أن المحكمة لم تنظر إلى تحقيقات المخابرات السورية بصورة جدية؟
كما أثبتت النشرة الداخلية للاشتراكيين العرب أوائل عام 1965 بعض أقوال الصحف في ما يتعلق بقضية كوهين:
(إن كوهين قد دخل سورية كمغترب مليونير باسم كامل أمين ثابت وأصبح صديقا مقرباً لقيادة البعثيين عن طريق تغطية النفقات المالية للحزب )المحرر اللبنانية.
(نفت السلطات السورية أن يصبح يهودي بعثياً قيادياً كبيراً، ولكنها أقرت بأن كوهين كان يرسل أسرار سورية، لسنوات، إلى اسرائيل، ووفقاً لإحدى الاشاعات كان كوهين على صلات وثيقة مع ثلاثة من أعضاء المحكمة) )مجلة التايم).
)كان لكوهين أكثر من بيت يستقبل في بعضها من وثق عرى الصداقة معهم، أو فتياته المقربات ،وأفرد بيتا خاصا لشؤون التجسس وكانت كل أدوات المطبخ فيه عبارة عن أوعية تضم اللاسلكي الذي يخابر به، وكان يقصر مدة مخابرته إلى ثلاث دقائق على أبعد حد حتى لا تستطيع الدولة التقاط موجاتها( )مجلة الموقف العربي 4/3/56( وهي المجلة التي كانت السلطة تصدرها في سورية عن “مؤسسة الوحدة للطباعة والنشر والتوزيع”، وقد نشرت في ذلك العدد أيضاً صوراً لما كان يستعمله كوهين من أدوات التجسس.
(قال ضابط سوري شاب: كنا نرى الهدايا الثمينة تخرج من البيت الأنيق متجهة إلى دور بعض النساء والرجال فنتبعها، إذ كان كوهين يرصد المناسبات، فلكل مناسبة هدية()الاسبوع العربي(. ولقد جرى في الغرب، خلال الثمانينات، نظير هذه القضية عندما استطاع أحد جواسيس ألمانيا الشرقية أن يصبح مديراً لمكتب المستشار الألماني ويلي براندت. ولكن المستشار الألماني تحمل مسؤولية هذا الموضوع مما أدى إلى استقالته.
كتب أكرم الحوراني في مذكراته:
)بعد عشر سنوات تقريباً من اعدام كوهين، وكنت قد أصبحت لاجئاً في بغداد، دعاني رئيس المكتب السوري آنذاك السيد نزار حمدون إلى وليمة غداء في نادي المنصور وكان مدعوا إليها الفريق أمين الحافظ واللواء زياد الحريري والأمين المساعد للقيادة القومية شبيل العيسمي والسيد مصطفى حمدون وعدد آخر من اللاجئين السوريين الى العراق، وعندما قادنا الحديث إلى قضية كوهين روى لنا الضابط محمد وداد بشير، وهو أحد الضباط الذين اشتركوا بالقاء القبض على كوهين، أن عدداً من الضباط قدأشهروا مسدساتهم لينتزعوا كوهين من بين أيديهم بعد إلقاء القبض عليه، ومن الجدير بالإشارة إليه أن هذا الضابط قد اختطف فيما بعد في لبنان ،من قبل المخابرات السورية ولا يزال هذا الضابط رهن الاعتقال حتى الآن )كتب هذا القسم من المذكرات عام 0991(.
ويتابع الحوراني )لقد كان هدفه الأول الاطلاع على خفايا السياسة السورية من مصادر الحزب والحكم، والقيام بدراسات دقيقة عن تطور الأوضاع العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في سورية، والسعي لتوجيه حزب البعث بما يلائم سياسة اسرائيل في سورية والمنطقة العربية ولذلك لم تقتصر جولاته على الجبهة بل إنه تجول في انحاء سورية وألقى في إحدى جولاته محاضرة في مقر حزب البعث في مدينة إدلب عن أهمية استرداد الأحواز بالنسبة للوطن العربي، قاصداً من ذلك صرف أنظار العسكريين عن الاهتمام بقضية فلسطين وموضوع تحويل نهر الأردن، واعتقد انه لعب دوراً خبيثاً جداً بإثارة النعرات الطائفية والمطامع الشخصية بين فرقاء الحاكمين في حزب البعث(.
بتاريخ 8/1965/5 صدر حكم الاعدام على كوهين، وجاء في حيثيات الحكم أن المتهم دخل سورية خلسة عام 1962 حاملاً جواز سفر أرجنتيني باسم كامل أمين ثابت، وأنه حصل على معلومات يجب أن تبقى سرية ونقلها إلى العدو لذلك استحق الاعدام. كما حكمت المحكمة بمدد مختلفة على عدد من المتهمين. وأمرت بإطلاق سراح ثلاثين متهماً بينهم تسع نساء.
إعدام كوهين
وفي فجر يوم الثلاثاء 18/5/65 تم اعدام كوهين شنقاً في ساحة المرجة بدمشق، وحضرت اعدامه هيئة المحكمة وعدد من كبار الضباط والمسؤولين، كما حضر الاعدام حاخام الطائفة اليهودية في دمشق نسيم أنديو يرافقه مختار حي اليهود لتلقين المحكوم الذي طلب قبل إعدامه كتابة رسالة خطية لزوجته فسمح له بذلك، ثم تولى الحاخام تلقينه باللغة العبرية، فلوحظ انه يتقن العبادة اليهودية حتى أنه صحح للحاخام بعض العبارات.
وفي صباح اليوم نفسه توافد إلى الساحة عشرات الألوف من سكان دمشق وضواحيها حيث كان معلقاً على صدر كوهين نص قرار المحكمة بالاعدام لارتكاب الجرائم التالية:
جناية دخوله متنكراً أحد “المحلات العسكرية”.
جناية الحصول على معلومات يجب أن تبقى مكتومة حرصاً على سلامة الدولة وذلك لمصلحة العدو.
وذكر في نص القرار ان الحكم صدر وجاهياً، وصدق من قبل رئيس مجلس الرئاسة )أمين الحافظ( بتاريخ 17/1965/5، أي بعد عشرة أيام من صدور الحكم ،(رغم النداءات الكثيرة التي وجهت في هذه الفترة من أفراد ومؤسسات كثيرة) كما ورد في البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية الاسرائيلية التي أعربت عن ذهولها من هذا الحكم. )الحياة 91/5/5691).
نبقى مع أكرم الحوراني في سرده: )بعد أيام قلائل من اعدام كوهين أخبرني العقيد أدهم عكاش -وكان آنذاك مديراً للسجن المركزي في دمشق )سجن القلعة( بهذه الواقعة التي حدثت على الحدود بين سورية ولبنان في منطقة سرغايا، عندما وجد بعض الرعيان جثة مخبأة في كهف فأخبروا مدير المنطقة الذي أجرى تحقيقاً مع السلطات في دمشق حول الموضوع، فتبين ان الجثة هي جثة كوهين وكانت في طريقها إلى اسرائيل عبر لبنان، ولا بد أن الفجر قد فاجأ المهربين فتركوها إلى اليوم التالي، وكان تعليقي آنذاك: لا شك ان تهريب جثة يحتاج إلى عدد من المهربين مما يظهر أن سورية مخترقة بأعداد كبيرة من الجواسيس، بعد هزيمة الخامس من حزيران عام 1967 بعثت قضية كوهين من مرقدها واكتسبت أهمية خاصة فأشادت وسائل الاعلام الاسرائيلية التي وزع بعضها سراً في لبنان، مغفلاً من التوقيع والمصدر، بالدور الهام الذي قامت به الموساد في سورية ولا سيما بالدور الذي قام به كوهين، وقد ركز هذا الاعلام على الفريق أمين الحافظ ،مغفلة من عداه من السوريين، وكان غرض الموساد من هذه الاتهامات الكاذبة الاساءة الى سمعة أمين الحافظ والانتقام منه لأنها اعتبرته المسؤول عن إعدام كوهين برفضه كل وساطة لإنقاذ حياته، لقد منحت الحكومة الاسرائيلية بعد هزيمة حزيران أعلى وسام لرئيس الموساد آنذاك وقدم رئيس دولتها لذلك بكلمة أشاد فيها بالدور الذي قامت به المخابرات الاسرائيلية التي كان لها الفضل في تحقيق الانتصار في حرب الأيام الستة، وكانت الحكومة الاسرائيلية قد منحت كوهين بعد موته وساماً مماثلاً وأطلقت اسمه على أحد شوارع تل أبيب، كما نقش اسمه تخليداً له على النصب التذكاري الذي أقامته اسرائيل لعظماء الرجال الذين قدموا لها خدمات كبرى، إن قضية كوهين قد دمغت حكم الثامن من آذار بنظر الرأي العام في سورية مما هدده بالسقوط ،بالإضافة الى تناقضات فرقائه، فلم يبق من مجال لاستمراره إلا بقيام أحد الفرقاء الأقوياء بانقلاب عسكري، وهذا ما قام به بعد عام صلاح جديد.(
أنجزت مهمة كوهين الذي تم إعدامه وبدا غير نادم على ما فعله، ولكنه كان حزيناً جداً لأن إسرائيل تخلت عنه، تخلت إسرائيل عن اليهودي الشرقي الرخيص كي تتحق أهدافها في المنطقة وقد تحققت بالكامل بعد سنتين باحتلال الجولان )عدا عن الأراضي العربية الأخرى في فلسطين والأردن ومصر( وبتأخير التنمية والحياة في سوريا وتعطيلها لخمسين سنة قادمة.
النظام الوظيفي
واستمر العمل الحثيث على المزيد من هتك الأواصر المتطورة بين الناس، فبرزت الطائفية والعشائرية والتعصب القومي، على حساب المواطنة والهوية السورية التي كادت أن تستقر ،واستبدلت سوريا جشع التجار بفساد الموظفين، وسطوة الأغنياء بسلطة المخبرين.
ويظهر مما سلف أنه لا حاجة لدليل على عملية الزراعة القصدية التي رمت إلى خلق نظام وطيفي في المنطقة، باركته القوى الكبرى، واعترفت به، وتوافقت فيما بعد على تكليفه بمهام معقدة، ليس أقلها تفكيك منظمة التحرير الفلسطينية، والحراك السياسي اللبناني، والقوى المدنية المتطورة في المنطقة العربية من العراق إلى موريتانيا.
أما الواقعية السياسية التي تقول بقراءة الحدث بعيداً عن نظرية المؤامرة، فترى أن البعث قام بالاستيلاء على السلطة في بلد حساس كسوريا، ونفذ المجزرة تلو المجزرة، وخسر حرباً في ستة ساعات دون أن يحرك ساكناً في العام 1967، في عهد وزير دفاع ما لبث أن صحح مسار حزب البعث نفسه واعتقل رفاقه وأبقاهم في السجون، ودخل لبنان كقوة احتلال غيرت المعادلات العسكرية والسياسية والديموغرافية على الأرض اللبنانية، وحارب المقاومة الفلسطٍينية في بيروت والمخيمات وساهم بشكل مباشر في طرد الفلسطينيين من لبنان إلى مناف جديدة ،ونصب العمائم والملالي على رأس المقاومة الشعبية في لبنان وعلى حساب اليسار والوسط اللبناني، ودعم الثورة الدينية في طهران، ضد البعث العراقي، وسحق كل من يخالفه الرأي داخل سوريا، ورفض التوصل إلى سلام مع الإسرائيليين، مع وجود ما يسمى بوديعة رابين التي تنص على تعهد اسرائيلي بتوقيع اتفاق سلام إذا قبل الأسد، ولعب بالورقة الكردية ضد تركيا وضد العراق، ولعب بورقة الأقليات في كل الدول العربية التي استضاف معارضاتها بحجة نصرته للثورة المستمرة، ثم ورث الحكم من رئيس جاء بانقلاب إلى ابنه الذي جاء بتعديل دستوري عاجل، وتورط في الاغتيالات السياسية داخل وخارج سوريا من صلاح الدين البيطار إلى بنان الطنطاوي وعشرات السوريين والعرب الذين لم يكن أولهم ولا آخرهم كمال جنبلاط والشيخ صبحي الصالح والمفتي حسن خالد والرئيس رينيه معوض وسمير القصير وجبران تويني ورفيق الحريري…وقصف شعبه بالطائرات والبراميل والمدافع والفوسفور وصواريخ سكود….تقول تلك الواقعية إن هذا النظام نظام مقاوم ممانع عروبي جاء هكذا عفو الخاطر وأن وجوده ضرورة في المنطقة لحفظ التوازن لا سيما ما يتعلق منه بملف الأقليات، التي أيقظ نزعاتها.