ثائر الزعزوع
من ثورة الكرامة إلى ثورة الكفاح المسلح
لم تكن سوريا بحاجة إلى تمهيد كي تنطلق شرارة الثورة فيها، لكن آلة القمع التي أحكمت سطوتها عليها طيلة أربعة عقود، جعلت من المستحيل التفكير بحل ثوري أيا يكن مصدره ،بل إن الحل الثوري الذي كان مأمولاً ومنتظرا كان لدى البعض منتظرا من مؤسسة الًرئاسة نفسها ،ومن بشار الأسد بالذات، خاصة بعد خطابً القسم الذي أداه وأطلقً فيه مجموعة من الوعود والأكاذيب، وكان ذلك صيف العام 2000 بعد أن ورث الحكم عن أبيه في إهانة بالغة لكل ما تمثله قيم بناء الدول والمؤسسات. وكانت حادثة تعديل الدستور بتلك الطريقة السخيفة، سببا أساسياً لا لقيام ثورة بل لقيام ثورات، لكن الثورة لم تقم وقتها، بل رضي السوريون جميعا بالأمرً الواقع وانتظروا تغييرا قد يحدثه الوريث. بل إن مفكراً جليلاً هو الراحل أنطون مقدسي كًان من أوائل المباركين لتولي بًشار الرئاسة، رغم ما في الأمر من انتهاك لكل عرف وكل قيمة دستورية، فكتب في جريدة «الحياة «رسالة وجهها إلى الأسد بعد شهر من قسمه ليقول في مقدمتها: « اسمح لي أن أهنئك بالرئاسة الأولى،»
لينتقل بعدها، مؤمّلاً نفسه وناصحاً بأن يشقّ الفتى ابن الرابعة والثلاثين عصا الطاعة على المؤسسة الأمنية التي أوصلته إلى كرسي أبيه .1
وصدرت بيانات سُميت بعدد الموقعين عليها، ما بين بيان التسعة والتسعين وبيان الألف، وكلها توسمت في الوريث خيراً، وأمّل موقعوها أنفسهم بأن لا يكون الولد سر أبيه. وكل البيانات دعت ،وبلغة ناعمة لا صدامية، إلى إلغاء حالة الطوارئ وطالبت بإطلاق سراح المعتقلين والحريات.
لكن شيئا لم يتغير.، بل إن الأحوال ازدادت سوءا في بعض مناحيها، ووصل سوء الحال ذروته حين بدأ الوريث يسًتعيد سيرة الأب بضرب المعارضين بقسًوة، كما حدث مع تجمع ما يعرف بـ»ربيع دمشق »وسواه من الملتقيات، وعادت سطوة أجهزة الأمن لتظهر واضحة جلية، وإن تغيرت المسميات فقط ،وغابت وجوه بعض من عاصروا الأب وكانوا ركائز أساسية في حكمه .
ولم يتغير شيء على الإطلاق.
الملف الفكري الثورة السورية والانتفاضات العربية من منظور نقدي
بدأ العام 2011 بسيل جارف من الثورات، ولعّلّ الكثيرين استبعدوا أن تكون سوريا جزءا من لوحةأحجار الدومينو التي صورت الأنظمة العربية تهوي واحدا بعد الآخر، بل إن الأسد نفسه اسًتبعد وفي لقاء مع «الوول ستريت جورنال» أن تكون بلاده شبيهة بًالبلاد الأخرى، لأنها تكتسب ميزة خاصة ،وهي التقارب بين الشعب والقيادة، معتبراً أن الأمر لا يتعلق فقط بالاحتياجات وبالإصلاح لكنه يتعلق بالعقيدة والمعتقدات والقضية .2
ولم يكد العرش الثاني من العروش الديكتاتورية يتهاوى، حتى تحركت المياه السورية الراكدة، فاهتزت أركان النظام، الذي بدا واضحا أنه كان مطمئنا أن لا شيء قد يحدث في «مملكته السعيدة» إلا أنه حاول أن يسبق الزمن بمجموعةً من القرارات واًلمراسيم المرجأة، وليعلن عن رفع حالة الطوارئ، وكذا ليعِدَ ما يعرف في سوريا بـ «مكتومي القيد» من الأكراد بتسوية أوضاعهم، لكن بدا كذلك أن حركة الشارع كانت أسرع من قراراته التي لم تكن في أحسن حالاتها غير حبر على ورق.
يوم الثامن عشر من آذار عام 2011 نظمت أولى التظاهرات وأطلق على يوم الجمعة تسمية جمعة الكرامة، ويومها ظهر الوجه الحقيقي للنظام، فضرب وقتل متظاهرين خرجوا يطالبون بالإصلاح، لم تتضمن المطالب وفق ما وثقت ذلك عدسات الناشطين أية إشارة لا لبشار الأسد ولا لنظامه، بل كان المطلب الأساسي هو الإصلاح.
بعد ذلك بأيام قليلة أطلت بثينة شعبان مستشارة الأسد لتقول وفي مؤتمر صحفي إنهم يريدون بث الفتنة الطائفية.
وهنا بدأت المعركة الحقيقية
لكن هل كان الثوار يعون أبعاد مثل هذا التصريح الخطير وقتها؟ والذي زاد عليه بشار الأسد نفسه وأمام مجلس الشعب، حين قال: «إذا فرضت علينا المعركة اليوم فأهلاً وسهلاً بها»، ووفق هذا المبدأ اجتهدت ماكينته الإعلامية في شيطنة الآخر أيا يكن شكله، وصنعت نماذج غبية شبيهة لتلك التي صنعتها في عهد أبيه، لتجعل منها شهودا على أنً المؤامرة التي تتعرض لها سوريا هي مؤامرة كونية ،هكذا سوّقت الفكرة، وهكذا تحولت مجًموعة من المتظاهرين إلى متآمرين، طبعاً بشار الأسد في كلمته تلك أسقط من اعتباره أولئك الواقفين على الحياد، فإما أن تكون مع النظام، أو تكون ضده ،فـ» لا مكان لمن يقف في الوسط.»
ولعل قلةّ معرفة مطلقي شرارة التظاهرات الأولى بطبيعة النظام الذي يثورون ضده، جعلتهم ،وباعتراف الأسد نفسه، يرجئون فكرة الكفاح المسلح حتى بعد انقضاء ستة أشهر على انطلاق الثورة، وإن كان هو، أي النظام، قد سوق لفكرة «العصابات المسلحة، التنظيمات التكفيرية، عملاء الصهيونية» منذ الأيام، بل الساعات الأولى للثورة.
من ثورة الكرامة إلى ثورة الكفاح المسلح
في موازاة ذلك لم يفكر الثوار الليبيون كثيرا في طبيعة نظام القذافي، فقد حسموا أمرهم منذ يوم السابع عشر من شباط / فبراير عام 2011 بأنً خيارهم هو الثورة المسلحة، لمعرفتهم الوثيقة بطبيعة نظام القذافي، الذي يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ نظام الأسد، ويختلف النظامان، تماماً، عن نظامي مبارك وبن علي في كل من مصر وتونس.
وبعد مرور قرابة الأربعة أشهر على بدء الثورة شكّلت مجموعة من الضباط المنشقين عن قوات النظام نواًةً لتنظيم عسكري أطلقوا عليه تسمية الجيش السوري الحر، وكان هدفه المعلن هو الدفاعُ عن أبناء الشعب، وعن الثورةِ في مواجهة آلة القتل التي يستخدمها النظام للقضاء على الثورة، إلا أن الجيش السوري الحر نأى بنفسه عن المشاركة في عمليات الثورة، واكتفى بدور الدفاع، نافياً تماماً نظرية الهجوم .
دخلت الثورة مرحلة الكفاح المسلح بالتزامن مع بدء تكتلات المعارضة الخارجية في لملمةِ صفوفها ،لتشكّل كيانا يوحّد فيما بينها على غرار التجربة الليبية، فتشكّل المجلس الوطني السوري برئاسة برهان غليونً، إلاّ أن المجلس استبعد كليا في مبادئه الأساسية خيار الثورة المسلحة بل نصّت الفقرة الثالثة من المبادئ الأساسية على الحفاظ عًلى سلمية الثورة السورية وأخلاقياتها. ولعل هذا ما جعل المجلس الوطني يتأخر عن حركة الشارع الثائر الذي فهم اللعبة، أخيرا، وأدرك أنه أمام خيارين لا ثالث لهما إما أن يعود عن ثورته، وإما أن يختار الدفاع عنها بل والقتًال في سبيل نجاحها، وكان الخيار الثاني هو الأقرب للمنطق بطبيعة الحال .
من السلمية إلى السلاح
تطورت الثورة من سلمية إلى مسلحة، واجتازت ،وخلال أشهر، مرحلة الدفاع عن النفس إلى مرحلة الهجوم، لكنها، وبطبيعة الحال، لم تكن قادرة على مجاراة القوة العسكرية الهائلة التي يمتلكها النظام، سواء من ناحية التسليح أو من ناحية عدد المقاتلين، إذ لم يكتف النظام بمقاتلي الجيش النظاميين، الذين لا يثق بالكثير منهم سوء أكانوا قادة أم عسكريين، بل عمد إلى زج مؤسسته الأمنية في واجهة الصراع، مستخدما كافة صنوف الأسلحة، ولم يتأخر كثيرا في استخدام السلاح الثقيل ليدك به المدن والبلدات. وأمام الصمًت الدولي، والغطاء الذي وفره له الراعًي الروسي المؤمن بالحل العسكري تماما، فإن ازدياد قوة البطش كانت تلاحظ يوما بعد يوم، حتى وصلت إلى مرحلة استخدام المقاتلات الحرًبًية، والصواريخ، ولهذا فإن «المعارضة المسلًحة» بدأت تشعر بفداحة موقفها، فأطلقت نداءاتها للخارج لتزويدها بسلاح يمكّنها من مجاراة عدوها، ولم تتلقَ أية مساعدات. فيما بعد ستظهر حقائق تشير إلى أن إدارة الرئيس الأميركي أوباما هي التي تصدّت لفكرة تزويد «المعارضة المسلحة» بما يلزمها من السلاح، كما أشار إلى ذلك رئيس هيئة الأركان الأميركية الجنرال ديمبسي في تصريح له في يناير عام
الملف الفكري الثورة السورية والانتفاضات العربية من منظور نقدي
2013، وإن تكن واشنطن غضت الطرف عن التسليح الخفيف الذي يوصله مهربون ووسطاء إلى المقاتلين مقابل مبالغ طائلة، إلا أن هذا كله لم يكن كافيا ليجعل المعارضة تحقق تقدما يذكر على الأرض، بل إنها فقدت مناطق كانت تقع تحت سيطرتها، كًما حدث في بابا عمرو في حمصً في شهر آذار عام 2012 والتي زارها الأسد بعد أن اجتاحتها قواته العسكرية، وبإسناد كبير من ميلشيات حزب الله اللبناني، كما ذكر ناشطون وقتها.
على الجانب الآخر، فإن النظام، الذي بدا سعيدا بانتصاراته العسكرية الصغيرة، بدا بالمقابل وكأنه لم يعد قادرا على استيعاب ما يحدث، ولعل هذًا ما جعله يتخبّط، لتكون بابا عمرو هي المدينة الأولى والأخيرًة التي يستطيع «الأسد» الاحتفال باستعادة السيطرة عليها، فقد انشغل بانتصاره، فيما كانت المعارك تدور على جبهات عديدة، وبدأ ريف إدلب تحديدا يتفلت من قبضته رغم الضربات الموجعة التي يتلقاها المواطنون هناك، ما جعلهم يفرون بعشراتً الآلاف إلى الجارة القريبة تركيا التي ضاقت مخيماتها عن استيعاب أعداد اللاجئين المتزايدة يوما بعد يوم.
ازداد عدد المناطق «المحررة»، لكن بالمقابل ازدادت المعاناة، ربًحت الثورة الكثير من المساحات الجغرافية، لكنها لم تتمكن من تحقيق انتصار حاسم، كفيل بترجيح كّفّتها، خاصة وأن النظام ما زال قادرا على إطلاق طائراته لتقصف مختلف المناطق من درعا جنوبا إلى ريف حلب شمالاً إلى البوكمال في أقصًى الشرق، ولم يتغير المشهد كثيرا بل إنه وصل إلى ما يمكن تسًميته بمرحلة اللاحل، ولعل هذا ما ميز عام 2012 بأكمله، إذ إن جميع الحًلول أو مقترحات الحلول، سواء العربية منها أم الأممية، باءت بالرفض والفشل، ولم يكتب لها النجاح، ولم تقدم حتى بصيص أمل يمكن أن يخفف من وطأة المأساة الكبرى التي بات يعيشها نصف الشعب السوري تقريبا، بل إن واصفي الحالة السورية ومراقبيها انتقلوا للحديث عنها كأزمة إنسانية، ينبغي العمل على الًتخفيف من حدتها، متناسين، أو متجاهلين الفكرة الأساسية التي وصلت إليها الثورة، وهي إسقاط النظام الذي يتحمل المسؤولية الكاملة عن جميع الدم والدمار الذي حل بسوريا.
ولكن، هل حافظت الثورة على مطالبتها بإسقاط النظام؟
فيما يبدو ظاهرياً، فإن إسقاط النظام ما زال المحرك الأساسي للثورة، لكن فعلياً وعلى أرض الواقع فإن كلاً كان يغني على ليلاه.
وهنا تبرز نقطة الخلاف الجوهرية ربما، والتي ظهرت بعد تبلور أفكار بعض الفصائل المشاركة في الثورة، بل وانضمام وافدين إليها، فلم تعد مفردة الدولة الديمقراطية، أو التعددية السياسية، أو الحرية، ولا حتى الدولة المدنية هي المحرك للتظاهرات، ولا حتى للشعارات، بل برزت شعارات وتوجهات جديدة لعل أبرزها على وجه التحديد فكرة الدولة الإسلامية، بل واستطراداً لدى بعض
من ثورة الكرامة إلى ثورة الكفاح المسلح
الفصائل، دولة الخلافة الإسلامية، وهي بدأت فعلاً بتجسيد ما تخطط له من خلال إنشائها هيئات شرعية في الأماكن التي فرضت سيطرتها عليها، وتحديداً في مناطق الريف الحلبي، وبشكل أقل في ريفي إدلب ودير الزور، وذهبت إحدى تلك الفصائل أبعد من ذلك حين أسست «هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فبدا الأمر وكأنها تقدم خدمة مجانية للنظام، الذي يبدو، والحالة هذه، أكبر المستفيدين من بروز مثل هذه الجماعات، ليزيد من اصطفاف مؤيديه وراءه، وهو الذي يطرح نفسه على أنه حامي الأقليات في سوريا، في وجه الجماعات التكفيرية، بل إن موسكو رددت مثل هذه المقولة خلال دفاعها المستميت عن الأسد ونظامه، بدورها، واشنطن قدمت خدمة مجانية للأسد من خلال إدراجها «جبهة النصرة» على قائمة المنظمات الإرهابية، وجبهة النصرة هي إحدى الفصائل التي التحقت بالثورة في وقت متأخر منها، ملوحة بأعلامها السوداء، مبتعدة كثيراً عن الدوافع الأساسية لانطلاق الثورة السورية، سواء من حيث الوسيلة، أو من حيث الغاية أيضا.
وليس هذا فحسب، بل إن انسداد الأفق السياسي، وانعدام الوصول إلى أي احتمال للحل، جعل الأمًور داخليا تنحدر باضطراد، فما كان مصدر بهجة قبل أشهر قليلة تحول مع مرور الوقت إلى نقمة ،طالما أنً هناك غياباً شبه كلي للتنسيق إن بين الكتائب العسكرية المقاتلة على الأرض، أو بين أطياف المعارضة المختلفة، والتي لا يكاد يجمع ما بينها لقاء في إحدى المدن، حتى يفرقها مؤتمر صحفي في مدينة أخرى. ولم تتعلم المعارضة السورية من النموذج الليبي الذي راهن أقطابه السياسيون ،وبعضهم شخصيات مرموقة ولها وزن دولي لا يستهان به، على المجلس الانتقالي ورئيسه مصطفى عبد الجليل، ولم يتراشقوا الاتهامات، ولم يتبادلوا السباب والشتائم، لأنهم وضعوا نصب أعينهم هدفاً أكبر، وهو إسقاط نظام القذافي، ثم بعد ذلك تفتح الدفاتر، ويتم استعراض الحسنات والسيئات.
صحيح أن الثورة ما زالت مستمرة، وإعلانات مقاتليها تقول إنها لن تتوقف حتى إسقاط النظام، لكن هل هي الثورة نفسها التي انطلقت قبل عامين من الآن؟
الإجابة بلا أدنى شك هي «لا»، فلم تعد هي تلك الثورة الرومانسية التي رفعت صور شهدائها، وغنّت أغاني وأهازيج، لأن صور الشهداء زادت في بعض الأحيان عن عدد أولئك الذين يمكن أن يرفعوها ،وضاعت أسماؤهم في زحام الأرقام، وأما الأغاني والأهازيج فقد طغى عليها صوت الرصاص، والقصف المتواصل ليلاً نهارا والدمار الهائل الذي صار يميز الخارطة السورية.
سيسقط النظام إنً عاجلاً أم آجلاً..
لكن هل ستنتصر ثورة «الشعب السوري ما بينذل»؟.