بقلم: فارس الذهبي
في العام 2007 أصدر الشاعر و الاعلامي المتميز ابراهيم الجبين روايته الأولى المعنونة ” يوميات يهودي في دمشق ” حيث أحدثت تلك الرواية صدمة تشبه رمي حجر في مياه راكدة ، توالت ردود الفعل على الرواية بين سلب وايجاب ، بسبب اقتحامها حينها أحد التابوهات المسكوت عنها في الأدب السوري والعربي عموماً ، ألا وهي الحديث عن شخصية اليهودي العربي ، وإعادة تأنيس صورة اليهود في الوجدان العربي ،بعد تنميط زمني طويل شاب تعامل الفنون مع أحد مكونات المجتمعات العربية الأساسية ، ببساطة ركل الجبين المحظور المتهالك ، مفتتحاً الحديث عن يهود القامشلي وعلاقتهم بالأكراد ومن ثم علاقة الدمشقيين باليهود وأصالتهم وتجذرهم في بيئتهم التي يوجه الكاتب أصابع الإتهام بوضوح إلى الحكومات العربية على حد سواء مع الحكومة الاسرائيلية والوكالة اليهودية المسؤولة أساساً عن مشروع تهجير اليهود وتجميعهم في ما عرف لاحقاً بدولة إسرائيل ، الجبين لم يكن أول من أفتتح مشروع أنسنة اليهود و تبسيط ملف التعاطي معهم كبداية لفهمهم ومن ثم عودة الندية معهم أو مع من يتلظى خلفهم ، سبقه إلى هذا ناصر الدين النشاشيبي في أكثر من عمل ” حفنة الرمال ” و ” حبات البرتقال” اللذان ذهبا مع التناسي المفتعل ، و في مصر اشتغلت الحكومة الناصرية بجهد كبير على طمس الارث اليهودي القابل للانتقال مع الزمن عبر السينما مثلاً أو الأغنية ، فأخفت أسماء مثل توجو مزراحي و ليلى مراد و شقيقها منير مراد اللذان انتشر خبر تغيير دينهما نحو الاسلام .
ولكن ما فعله الجبين كان صادماً في بلد مثل سوريا حيث قدم من خلال سرده الشيق صورة الحياة اليومية لليهود السوريين، وبالذات في “حارة اليهود”، تجمعهم السكاني في المدينة التاريخية، بكل خصوصياته وعلاقاته مع المحيط الإنساني. حينها كانت الرواية قفزة نوعية تُحسب للكاتب الذي تأمل الصراع العربي – الإسرائيلي من زوايا أخرى بهدف قراءة وعي هؤلاء المواطنين العرب الذين يعتنقون الديانة اليهودية وتفكيك الإلتباسات الفكرية والميثولوجية التي تحوطهم وتضعهم في وضع ملتبس بين جميع الأطراف بحيث لا ينسجمون تماماً مع مواطنتهم ولا ينفصلون تماما عنها. هي الأزمة الوجودية التي شكلت باستمرار أساس العقدة اليهودية في بلدان العالم كلها، وكانت الأرض الفكرية التي دخلت من خلالها الحركة الصهيونية إلى وعي يهود العالم لإقناعهم بالتمايز أولا، ثم للتعبير عن هذا التمايز بصورة وحيدة هي أن يكونوا بقواسمهم الدينية المحضة شعباً له شخصيته الواحدة ومصالحه وتاريخه، أي بما يدفع الى إقامة دولة يهودية يستطيع اليهودي وقت يشاء أن “يعود” إليها بوصفه مواطنا كامل الحقوق ما أن تطأ قدماه أرض مطارها. هي فكرة “الأنا” و “الآخر” إذ تتحرك وفقها شخصيات من هنا فكأنها من “هناك”. فالذي يحدد مسار الحركة هو الوعي، أو الوهم، وهم الإنتماء، ووهم الإختلاف الذي يذهب في محاولة تعبيره عن نفسه الى حدود قصوى لبلورة رؤاه وتصوراته والتعامل معها بوصفها حياة حقيقية وواقعاً موجود..
بعد نجاح الرواية التي تسيدتها شخصية راحيل بسنوات، أصدر الروائي الجبين روايته الثانية ” عين الشرق” التي أحدثت جلبة مماثلة أيضاً، ولكن من زاوية أخرى ، فمن جملة ما استعرض الكاتب من شخصيات ، قام بإعادة تفكيك وتركيب شخصية إلياهو كوهين المتعارف عليه كجاسوس إسرائيلي أعدم في دمشق سنة 1965، ليقدمه بصورة مغايرة، ومن زاوية أخرى لم ينقل فيها البطل من مكان إلى مكان، بل رفع رقعة اللعب بالكامل و نقلها يمنة وشمال بحيث أدهش القراء والمؤرخين والسياسيين والإعلاميين على حد سواء..
في عين الشرق تعرض للضباط النازيين الفارين في والمتخفين في دمشق، وعلاقتهم بكوهين الذي لم يكن جاسوساً – على حد تعبير المؤلف- بل كان صائداً للنازيين الفارين من العدالة حول العالم ليعتقلهم و يقدمهم للمحاكمة ..إلى أخر السرد الشيق وما تقدمه روايته الثانية التي خط بها أسلوب شغله الروائي و مسار تفكيره وعلاقته مع الكتاب عبر عملية بحث و إعادة تكوين للعالم وليس فقط التخييل الأدبي والسفر بعيداً في حبك قطب الحكايا..
في عام 2019 وعن نفس الدار التي أصدرت روايتي ابراهيم الجبين ، صدرت رواية الروائي والشاعر السوري المتميز سليم بركات ، روايته الأخيرة ( ماذا عن السيدة اليهودية راحيل) التي يتصدى بها إلى غاية مشواره الروائي الطويل والمتميز في نقش تفاصيل مدينته الأثيرة القامشلي وعلاقات الأقليات داخلها من عرب ويهود وأرمن وأكراد ممن يشكلون العنصر الأساسي لأدب سليم بركات ..الرواية بخطها العام هي غرام شاب مراهق بفتاة من الحي اليهودي، ثم تنمو في السياق خطوط كثيرة عن الأكراد، والأرمن، وأيام الحرب، وثرثرات المراهقين المغرمين بالسينما. إبان فترة حرب ال67 ..
قارئ الروايتين سيجد تقاطعات كبيرة بين النصين، الأول في 2007 والثاني 2019، عن ذات دار النشر، التقاطعات تلك لا تبدأ من اسم الشخصية الأساسية و لكنها تمتد لمناخ الرواية و أعمدتها الأساسية، عقدة اليهودي والعقدة منه ، الاحساس باللاأمان و التهجير، قدرة الحاضنة الاجتماعية على دفع أفرادها للمغادرة ، الحب المنقوص ، الحب المفقود، وصولاً إلى التضامن الانساني مع الشخصية حيث ان لا بد لنا من عدم التضامن، ربما يكون كل ذلك تناصاً واستلهاماً استشرافياً من كاتب إلى نظيره، ولكن بعدما استمر الجبين في استكمال مشروعه في تشريح الشخصية اليهودية عبر روايته الثانية ” عين الشرق” طارحاً فيها تفنيداً عجائبياً لشخصية الياهو كوهين الجاسوس الاسرائيلي الذي أعدم في ساحة المرجة في دمشق، ومن ثم تجد ذات الشخصية في رواية سليم بركات الأخيرة ، فيجب على من يجب عليهم التدقيق والتمحيص في مسارات الأفكار الطيارة أن يحددوا تلك الرياح التي تتقاذف الأفكار في الأدب العربي والآداب التي تدور في فلكه تأخذ منه ويأخذ منها، مما لا شك فيه بأن سليم بركات روائي وشاعر حرث لنفسه ثماً في صخر الأدب لسوري والكردي والعربي لا يمكن لأحد ردمه أو تجاهله ، وهو صوت متميز لا يشبه أحداً قبله و لا يمكن لأحد أن يتشبه به لأنه ببساطة سليم بركات، و لكن من لزوميات الحق والتفنيد النقدي إتاحة قراءة متجاورة للنصوص، قراءة تتم بصوت عال لتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وإن كان هذا الأمر من واجب ومهمة الناشر\المحرر، الذي نشر النصوص الثلاثة ، سيقول القائل أننا أمام تاريخ مفتوح وحكايا متشابه في وطن متشابك، ولكن أهل الخبرة ومنهم الكاتبين يعلمان كيف تلوى أعناق النصوص ، و صاحب النص الأصيل يستطيع اشتمام وتلمس أصالة نصه، وتتبعها في نصوص الأخرين، ربما لا يمكنه فعل شيء ،ولكنه يعلم بدقة أن تلكم الأفكار خفقت طائرة من صفحاته…ول الجبين تلك الأصالة وتلك الريادة …نترك الأمر للمختصين، فالنصوص الثلاثة ماثلة أمامنا في مسرح الرواية السورية والعربية..وليس لنا نحن من نشتغل في تلك المهنة إلا أن نقرأ و نتمتع ونمتع …