خلدون الشمعة
احتضار، الكلمة المستعارة من البيولوجيا، والعاكسة لمعنى الجائحة، قد تصلح للإشارة إلى النزع الأخير للعولمة. أستخدم هذا العنوان لأبين من ناحية، أن من البداهة القول إن العولمة صارت خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بمثابة النموذج المرجعي “الباراديم” أو بؤرة القرية الكونية الناظمة لعلاقات دولية، وأنه من جهة ثانية لم يصل إلينا الباراديم دفعة واحدة، بل وصل مدوناً في الذاكرة، عبر أسطورة مشروع مارشال الموجه، تحديداً، إلى أوروبا التي مزقتها الحرب، ولكي أفحص من ناحية ثالثة، بعض خصائص العولمة ومدى تأثير احتضارها في وقت لاحق على تعزيز جملة من الظواهر السلبية المتحركة باتجاه نكوصي معاكس لدينانية التقدم الخطيLinear ، وتعويضها بدينامية ابن خلدون الدائرية المنزع في الصعود والهبوط الذي يعقبه صعود، وهكذا دواليك، وهي فكرة Vico، واشبنغلر ونيتشه في العود الأبدي، في وقت لاحق.
أتحدث من منظور عربي، بل سوري على وجه التحديد. ولذلك من البدهي القول إنني أرى أفول العولمة من موقع يتصل بالنظام السياسي المتوقع في بلد قُتل وشرد فيه نصف الشعب السوري.
ما العولمة؟ سؤال مشكلي يمكن الإجابة عنه بالقول إنها سيرورة تتصل بالتغير في الطريقة التي نعيش بها.
كما تتصل بالوضع الاقتصادي الذي يعتمد على ما يدعى بالتواقف Interdependence أي الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الدول أكثر من ذي قبل. ولكن هذه العلاقة لا يمكن اعتبارها نظاماً واحداً. فمعظم النشاط التجاري يجري عبر تجمعات مناطقية كالاتحاد الأوروبي ومنطقة آسيا والمحيط الباسيفيكي وشمال أوروبا وليس ضمن نطاق عولمي واحد.
كما يمكن أيضا تفنيد القول بأن العولمة أثَّرت سلباً على دور الدولة. فحكومات الدول مازالت تلعب دوراً مفتاحياً حتى الآن. فهي تنظم وتنسق الفعالية الاقتصادية والاتفاقيات التجارية وسياسات الليبرالية الاقتصادية. الحكومات القومية احتفظت بقدر كبير من السلطة والنفوذ على الرغم من تفاقم ظاهرة الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الدول. ولكن الدولة القومية بصيغتها الارتدادية القوموية تعتمد نظرة أكثر نشاطاً وتتسم بفاعلية أكبر مع التقدم المطرد للعولمة.
العولمة، إذن، ليست سيرورة خطية واحدة نحو تحقيق درجة أكبر من الاندماج بين الدول، بل سيرورة مزدوجة لتدفق المعلومات والنفوذ على نحو يفضي إلى نتائج مختلفة.
يمكن القول، تأسيساً على ما تقدم، أن الأمر الواقع مازال الآمر الناهي. فالعقلاني، بتعبير هيغل، هو الحقيقي، والحقيقي هو العقلاني. وإذا لم يكن ما يحدث في سوريا عقلانياً، فإن الحقيقي (الواقعي) هو العقلاني. كما أن “الكلمة الأخيرة (بتعبير الشاعر توفيق صايغ) هي دائماً للحيوان”. التجربة السورية، قبل الجائحة المرضية وبعدها، تؤسس لحق القوة لا لقوة الحق. لا تؤسس لمنهج معرفي جديد بل تعزز منهجاً معرفياً قديماً ربما تختزله على نحو ما مقدمة ابن خلدون:
“فإن الملك إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات منقباً عن كوارث الناس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات ففسدت الحماية بفساد النيات وربما أجمعوا على قتله لذلك تفسد الدولة ويخرب السياج وإن دام أمره عليهم وقهره فسدت العصبية لما قلناه أولا وفسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية”. ربما نرى في ما تقدم العلة التي يحتمل أن تفسر شيئاً من افول العولمة تحت مظلة القوى المهيمنة، وعجزها عن موضعة غائية أخلاقية المنزع، أو حتى الاقتراب من أحد ابرز عناصر المقتلة السورية المعلّقة، ونعني بذلك ما يدعى بـ”الديمقراطية الكوزموبوليتية”، الديمقراطية التي يعترض على موضعتها باسم بروتوكولات اقتصادية طوباوية، مفكرون بارزون من أمثال تشومسكي وسمير أمين، على سبيل تعداد القلة لا الحصر.
والحال أن الديمقراطية الكوزموبوليتية المعترض عليها نموذج مرجعي لنظام سياسي يطرح الحاجة إلى تطبيق حقوق إنسانية أساسية عابرة للحدود، حقوق يدرجها ديفيد هيلد Held، منظر العولمة، في سياق أسس تتخلل فترة زمنية يتأسس النظام العولمي فيها عبر شبكات قوة متعددة تضم فئات بشرية متداخلة وثقافات متقاربة وروابط دولية من الاعتماد المتبادل بحيث تصير الديمقراطية الكوزموبوليتية حقاً إنسانياً يوازن بين القوى المهيمنة والدول.
يقودنا الكلام على طوباوية منظري العولمة إلى الواقع، ويحيلنا الواقع إلى انحسار العولمة إلى نقيضها. في كتابه “الرأسمالية في عصر العولمة” يساجل سمير أمين بالقول إن العولمة في حالة استقطاب غير مرغوب فيه ويمكن تجنبه. كما يقوم بتفكيك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي معتبراً أنهما ميكانيزمات إدارية مكرسة لحماية ربحية رأس المال. ثم يعترض على معادلة مفهوم التطور مع ظاهرة اتوسع في السوق، ليؤكد بدلاً من ذلك على حاجة كل مجتمع على حدة، إلى مفاوضة شروط اعتماده المتبادل مع الاقتصاد العولمي. وفضلاً عن ذلك يبحث سمير أمين دور الولايات المتحدة مساجلاً بالقول إن جذور مشروع الهيمنة الأميركي على العالم بالقوة العسكرية تكمن في الليبرالية الأوروبية، وأن الولايات المتحدة طورت هذه الليبرالية بحيث تخدم مصالح الرأسمال وحده، وأنها تقوم الآن بتصدير هذا النموذج الاقتصادي إلى العالم بأسره.
توضح لنا المقتلة السورية المنسية عولمياً في صدامها مع النظام الجملوكي السائد أن النزاع ليس مع الرأسمال الذي تحتاج إليه البلاد، بل مع الجائحة الإنسانية السابقة على الجائحة المرضية. هذه الجائحة المدمرة للبشر والحجر التي تمثل أكبر أزمة إنسانية وسياسية في القرن الواحد والعشرين تثير قدرا غير قليل من الاستغراب.
فلماذا يتجاهل بعض مناهضي العولمة بمحمولها المعرفي الديمقراطي، مقتلة راح ضحيتها ملايين السوريين؟
لا شك أن ثمة نقاط تطابق وتقاطع، ظاهرة حيناً ومستترة حيناً آخر، بين طوباوية العولمة وطوباوية مناهضيها. بل يمكن القول إن التمفصل العفوي بينهما يحيل إلى بروز ثلاث ديناميات:
الأولى تتصل بتعزيز النزعة القوموية. الاتحاد الروسي وريث الاتحاد السوفياتي صار يمثل إمبريالية توسعية بامتياز. دولة تبني على ماضوية قيصرية تقلد الغرب وتحاول إرضاءه باستمرار. بل إن رئيسها المزمن يباهي علانية بفعالية تجريب أطنان من الأسلحة الروسية الصنع على السوريين. واما الشريك اللدود فيتمثل بإمبريالية فارسية تتوسل بالدين، ثيوقراطية يستغل نظامها المذهبي الدين وتجهر بالسيطرة الاستيطانية على عواصم عربية. امبراطوريتان تؤسسان لاستبداد شرقي تحت الأنقاض.
أختم قراءتي بالقول إن الكلام لا يكون إلا بين ذات وآخر. والآخر بصوت الشاعر سميح القاسم نقيض:
أنا لا أحبك يا موت لكنني لا أخافك
وأدرك أن سريرك جسمي وروحي لحافك
وأدرك أني تضيق عليَّ ضفافك.