معالمُ من عصر مابعد الديستوبيا الكورونية
لطفية الدليمي
“عالمُ مابعد الجائحة الكورونية لن يكون كالعالم الذي قبله”. أظنّ أنّ هذه العبارة هي الأكثر شيوعاً- من عبارات أخرى سواها- ردّدتها كتابات الفلاسفة والمفكّرين ذوي المراتب الثقافية الرفيعة في الوقت ذاته الذي صارت فيه إيماناً راسخاً لدى سكّان كوكبنا الأرضي. ليس هذا بالأمر اليسير؛ فهو يشي بأنّ الناس راحت تستشعرُ (مستعينة بأدوات التفكّر العميق المدعوم بالوسائل العلمية التحليلية أو بمحض القناعة التي تتخذ شكل الإيمان الميتافيزيقي) بأنّ البشرية بأسرها تخوض في لجّة مخاضة عسيرة باهظة التكلفة سيترتّب عليها بالضرورة تغيُّر راديكالي في أنماط الحياة البشرية، وصورة العلاقات الحاكمة بين البشر والبلدان والجغرافيات، فضلاً عن تضاريس الخرائط الفكرية على كافة الأصعدة.
ليست أياماً مريحة أو مرغوباً فيها هذه التي نعيشها اليوم؛ لكنّ هذا هو واقع الحال ومايستلزمه من قوانين إجرائية صارمة للتعامل مع حالة تنطوي على الكثير من الطارئية والتهديد للبشر الذين يتمايزون فيما بينهم تمايزاً عظيماً بشأن ترسيماتهم السايكولوجية وكيفية تعاطيهم مع الأزمات: البعضُ يذهب مذهباً ديستوبياً حالكاً يتناغم مع رؤيته السوداوية للأمور؛ فيصوّرُ واقع الحال وكأننا بتنا على أعتاب مرحلة قيامية apocalyptic منذرة بفناء البشرية، وثمة آخرون (هم ذوو معرفة علمية مقبولة في الأعمّ الغالب) يميلون لعقلنة الأمر وتوصيف الحالة وفقاً لمبادئ علمية متفق عليها في علم الوبائيات أو الجائحات المرضية، وإذا ماكان لنا أن نستخلص خلاصة مفيدة فسنقول أنّ العلم والتقنيات المرتبطة به هي الملاذ العملياتي الذي يبدو متفرّداً في قدرته على تدعيم ركائز الأمل والتفاؤل والعمل الإيجابي القادر على تجاوز هذه المحنة (الكورونية) بأقلّ الخسائر الممكنة.
صحيحٌ أنّ هذه الجائحة الوبائية الكورونية تبدو شديدة القسوة وغير مسبوقة؛ لكنّ العقل العلمي المدرّب لاينظرُ إليها من ثقب الديستوبيا التي شاعت في أيامنا هذه وغادرت ثنايا كتب الخيال العلمي لتصبح أطروحات يقينية مغلّفة بأغلفة آيديولوجية أو دينية تبشّرُ باقتراب نهاية العالم وفنائه. العقلُ العلمي لايرتكنُ إلى هذه الأطروحات القيامية التي تتناغمُ مع البصمة السايكولوجية لكثرة من البشر الذين يحيون على هذه الأرض؛ إذ يبشّرُ هؤلاء بالفناء المفعم بالأجواء الديستوبية المظلمة للبشرية، وقد يغلّفون رؤاهم التبشيرية بمنكّهات مفاهيمية تمنح هذه الرؤى شيئاً من مقبولية جمعية؛ فنراهم يكتبون عن موت الرأسمالية وموت العولمة وموت نظرية الدولة وسواها من الميتات التي لطالما طرقت عقولنا منذ عقود عدّة. العقل العلمي في الجانب الآخر هو عقل مضاد للديستوبيا بالضرورة، وقد لايكون مبشراً بيوتوبيا على شاكلة اليوتوبيا التي شاعت في أعقاب الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية وبقيت تأثيراتهما فاعلة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى؛ لكنّ العقل العلمي هو عقل محكومُ- بالضرورة- بالأمل: يجتهد ويتقصّى ويسائلُ ولايفرّطُ بطاقته الجبارة في الدهاليز الديستوبية المظلمة.
ذكّرتني هذه الجائحة الكورونية بكتاب قرأته قبل مايقاربُ العشر سنوات، كتبه البروفسور فريمان دايسون Freeman Dyson، الذي توفّى يوم 28 شباط/ فبراير من هذا العام. البروفسور دايسون شخصية رائعة على المستويين العلمي والإنساني، وهو وإن كان فيزيائياً لامعاً ساهم في العديد من المشروعات البحثية الرائدة لكنه عبقري ذو إهتمامات متعدّدة دفعت مجايليه لكي يصفوه بصفة Polymath التي تعني قدرة فائقة في التعمّق المعرفي التفصيلي (لا المعرفة السياحية العامة) بطائفة واسعة من الحقول المعرفية العلمية وغير العلمية. الكتاب الذي عنيته (وهو موضع الاهتمام في موضوعنا هذا) هو الذي جاء بعنوان (الشمس والجينوم والإنترنت The Sun، The Genome، and the Internet)، وبرغم أنّ الكتاب نشرته جامعة أكسفورد في طبعته الأولى عام 1999 لكنه يبقى كتاباً حيوياً عظيم التأثير حتى يومنا هذا. يرى البروفسور دايسون أنّ التقنيات الثلاث الأسرع تطوّراً في عالمنا المعاصر هي: تقنيات الطاقة الشمسية، الهندسة الوراثية، والشبكة التواصلية العالمية (الإنترنت)، وأنّ هذه التقنيات الثلاث لو تعاضدت مجتمعة فستكون لها مفاعيل عظيمة وبخاصة في موضوعة تحقيق تنمية شاملة في كلّ أنحاء كوكبنا الأرضي فضلاً عن تجاوز حالات الفقر المدقع التي باتت معيبة بل وتمثّل مثلبة إنسانية. يمضي البروفسور دايسون في كتابه الرائع هذا (الذي ينتمي لصنف اليوتوبيا المستقبلية ممكنة التطبيق) في التبشير بقدرة الجنس البشري على إجتياز عقبات خطيرة، ويرى أنّ الطاقة الشمسية متى مااستغلّت بطريقة عملية معقولة التكلفة فستجعل كلّ البشر- وبخاصة هؤلاء القابعين في مناطق نائية من العالم- قادرين على الولوج إلى منجم الثروة المعلوماتية التي تتيحها الشبكة العالمية (الإنترنت)، وبهذا يمكن وضع حدّ نهائي لحالة العزل الثقافي للبلدان الفقيرة، وبطريقة مماثلة يمكن للتطوّرات الهائلة في الهندسة الوراثية أن تخلّق لنا محاصيل غذائية أكثر غنى في محتواها الغذائي؛ الأمر الذي يساعد في إعادة بث الحيوية المتضائلة في الحياة الريفية التقليدية التي جرى التعدّي عليها وتهميشها لصالح دعم أخلاقيات السوق العالمية.
يمكن أن تكون الديستوبيا التي تصوّرها عقول البعض إيذاناً بالنهاية القيامية للعالم ميدان اختبار ممكن ومجاني يولّد طاقة الدفع المطلوبة لتحفيز تقنياتٍ ماكان ممكناً اختبارها في ظروف غير ديستوبية، وإذا ماشئنا التخصيص فيمكن القول أنّ هذه الجائحة الكورونية ستعملُ على توفير دعم مؤسساتي (على الصعيدين الحكومي والخاص) لتطوير التقنيات التي بشّر بها البروفسور دايسون في كتابه أعلاه، وأظنّ أنّ تدعيم التقنيات الخاصة بتعزيز الفردانية وإدامة الحياة البيولوجية للكائن الحي ستلقى أسبقية خاصة، ومن أجل هذا سنرى انقلاباً محتوماً في أنماط التعاون الدولي والآيديولوجيا الحاكمة لعالمنا ( آيديولوجيا العولمة والأسواق المفتوحة) في مقابل صعود آيديولوجيا الفردانية التي قد تبلغ مستويات غير متصورة على صعيد تخليق الغذاء لكلّ فرد وطريقة تواصله مع العالم المعلوماتي بالإضافة إلى إعادة النظر الجذرية بفلسفة التعليم الحالية، وربما سيكون من أهمّ الأسباب الداعمة لتطوير شبكة التواصل العالمية (الإنترنت) وجعلها مجانية تعمل على سعات كبيرة هو هذا الإنقلاب الجذري في عملية التعليم الحالية التي باتت مكلفة وغير ذات جدوى في الكثير من مخرجاتها التي لم تعد تلائم عصر الثورة التقنية الرابعة. هكذا يعمل العقل العلمي إذن: ليس من تبشير بموت أو ميتات، وليس من إبتهاج لنهاية قيامية للأرض، وليس من مشهديات ديستوبية يطرب لها بعض المسكونين برغبات تدميرية؛ بل ثمة في المقابل معرفة وبحث وتمويل لتحديد الخسائر (حتى لو بلغت تريليونات الدولارات) ومن ثمّ العمل على تجاوزها بالمنهجيات العلمية والتقنية المطوّرة.
هل أنّ مانعيشه اليوم ينطوي على شيء من الخيال العلمي؟ أقول: نعم، هذه الحالة التي نعيشها اليوم هي مجرّد بروفة أولية (تجريبية) لما سيحصل في عالم الأنسنة الانتقالية Transhumanism ومابعد الإنسانية Posthumanism لاحقاً، وحيث سيكون بمستطاع الفرد المكتفي بذاته Self- contained individual إدامة حياته عبر شبكة حاسوبية خارقة القدرات التقنية. الفرد نفسه سيصبح آلية معالجة معلوماتية عظمى من خلال رقاقات مصغرة تستزرعُ في دماغه بطريقة روتينية شبيهة بالتطعيمات المضادة للامراض السارية في يومنا هذا، ومن لايفعل هذا لن يكون له مكان في العالم القادم. ينبغي تفعيل خيالنا البشري وتصوّر ماسيحصل في تلك الحقب الزمنية القادمة لامحالة: نمطٌ من الفردانية الخالصة التي ستأتي بمنظومة قيمية وسايكولوجية وأخلاقياتية غير معهودة.
الكائنات الديستوبية مخلوقات شديدة الخطورة تجاه ذواتها والآخرين معاً، وقد لاتتقصّد هذه المخلوقات الإيذاء بقدر ماتعكسُ نمطاً من السلوك السايكولوجي المحكوم بنوازع ديستوبية؛ لكن في كلّ الأحوال ربما (وأقول ربما) قد يساعد انتصار العلم والتقنية في تحقيق الغلبة على كلّ العوامل الساعية لتدمير النوع البشري في كسر الرؤية الديستوبية لدى هؤلاء، أو التخفيف من غلوائها في أقلّ تقدير. قد يجادل بعض عُتاة الديستوبيين: إذا كانت الديستوبيا غير مرغوبة؛ فلماذا إذن وُجِد الأدب الديستوبي الذي حقّقت بعض سردياته (ولم تزل تحقّق) قراءات كبرى منذ إدغار آلان بو وإج. جي. ويلز حتى يومنا هذا؟ الجواب ببساطة: ثمة فرق عظيم بين أن تكتب عن حالة ديستوبية (راهنة أو مستقبلية) بقصد توصيفها وتجاوزها وأنت تشيعُ الأمل بالمقدرة الرائعة للعقل البشري على تجاوز كلّ النتوءات الحادة في سلسلته التطوّرية، وبين أن تشيع حالة مظلمة ليست سوى انعكاس عقلي لسايكولوجيا تدميرية تستطيب فناء البشرية وتتلذّذُ برؤية البشر وهم يلعقون جراحاتهم ولايمتلكون القدرة على دفن موتاهم.
أوردتُ أعلاه توصيفاً عاماً لعالمنا وهو يخوضُ مخاضة الجائحة الكورونية؛ لكن ماذا عن عصر مابعد الجائحة؟ سأترسّمُ في الحيثيات التالية بعضاُ من المشهديات أو القراءات الفكرية لطائفة من الموضوعات التي أرى ضرورة إلقاء الضوء عليها لأهميتها الحاسمة في توصيف عصر مابعد الجائحة:
1– نهاية عصر الأنثروبوسين والشروع ببواكير عصر النوفاسين
ليست مفاعيل الجائحة الكورونية كلها موتاً ودماراً وخراباً وصوراً كئيبة؛ بل أن لها بعض الجوانب الإيجابية المحمودة، ومن أهمّ تلك الإيجابيات هو التسريع بتنفيذ بعض المشروعات التي ظلّت رهينة التنفيذ المستقبلي بسبب نقص الجرأة والدافعية لتنفيذها. ستشهد السنوات القليلة القادمة الخطوات الأولى لولوج حقبة الانسنة الإنتقالية التي ستأذن بنهاية عصر الأنثروبوسين Anthropocene (وهو عصر صارت فيه السلوكيات البشرية ذات مفاعيل- إيجابية وسلبية- مؤثرة في الطبيعة) ومقدم عصر النوفاسين Novacene (وهو عصر الذكاء الفائق الذي سيغدو فيه الإنسان البيولوجي مدعماً بالوسائط الميكانيكية والألكترونية، وفقاً لتعريف عالم المستقبليات الأمريكي جيمس لفلوك James Lovelock).
2- السياسات النيوليبرالية شيء يختلف جوهرياً عن الرأسمالية: لا أحسب أنّ عبارة “موت الرأسمالية” قد وهنت نبرتها يوما خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، وتأتي هذه النبرة في العادة بهيئة نذير يحمل نبوءة أشبه بالنبوءات اللاهوتية حيث لا يكون الفناء محض تلاشٍ فيزيائي لحالة واستبدالها بحالة أخرى؛ بل يكون فناءً عاماً للبشرية مقترناً بخراب شامل وكامل لا يُبقي شيئاً من معالم الحياة الإنسانية على وجه الأرض.
لايمكنُ نكرانُ أنّ لبدايات الرأسمالية كانت لها آثارها ومفاعيلها في حضارتنا الراهنة من حيث قدرتها الفائقة على الارتقاء بالرفاهية العامة عبر إشباع البطون الجائعة، ومن ثمّ تصنيع أسباب الترف المادي وتوفير المتع ووسائل البذخ اللامحدودة.
ثمة شعبوية سائدة اليوم أعلى شأنها صوت الراديكالية اليسارية ومنظّرو أحزاب اليسار الجديد الذين اندفعوا في ترجيح كفة الخطاب الأيديولوجي على حساب الحقائق الراسخة على أرض الواقع، متّخذين من “الأزمات الدورية في الرأسمالية المعاصرة” شاهدة على مصداقيتهم في الوقت الذي نعرف فيه بما لا يقبل اللبس أنّ هذه الأزمات الدورية ليست أعراضاً سريرية منذرة باقتراب الموت بقدر ما هي ملامح ملازمة لطبيعة آليات اشتغال الرأسمالية.
لم يكن الترويج لفكرة شعبوية عن موت الرأسمالية سوى فكر رغائبي يُراد منه رؤية القلاع الرأسمالية تتهاوى مثلما تهاوت قبلها قلاع الشيوعية، ولا ينبغي أن ننسى في هذا السياق أن الشيوعية ذاتها تعرّضت لذات الهجمة النبوئية المنذرة بموتها (روايات جورج أورويل وآرثر كوستلر مثالاً)، ثمّ تحققت هذه النبوءة بتهاوي القلاع التي كانت تمثل التجربة الاشتراكية نتيجة ظروف متضافرة كثيرة أدت إلى انهيار المنظومة بكاملها.
هناك الكثير مما علينا التوقف عنده في الحالتين: قد نتفق على سقوط الشيوعية كتطبيقات؛ لكن الفكر الماركسي الذي عُدّ الخلفية الأيديولوجية للدول الشيوعية لا يزال حياً، ولا تزال الأدبيات الماركسية تلقى رواجاً كبيراً في أنحاء عالمنا؛ فنجد أعرق الجامعات في البلدان الرأسمالية تواصل إصدار دراسات حديثة وكثيرة بشأنه. إذن ثمة فرق كبير بين جوهر الأفكار وبين تطبيقاتها والمؤسسات (ومنها الحكومات) القائمة على تلك التطبيقات، والأمر يصحّ على الرأسمالية بقدر ما يصحّ على الماركسية.
ثمّ إنّ الرأسمالية ليست رأسمالية واحدة بل هي رأسماليات عدّة؛ فالرأسمالية الأميركية الأصولية المحكومة بغول الفردانية الجامحة هي غير الرأسمالية الألمانية، أو الإسكندنافية المُرشّدة بموجّهات الديمقراطية الإجتماعية، وهذه غير الرأسمالية اليابانية المحكومة باعتبارات التقاليد اليابانية الصارمة. ولعلّ المثال الأكثر تطرفاً بين الرأسماليات المعاصرة هو نموذج الرأسمالية الصينية التي تجاوزت التلازم القسري بين الليبرالية السياسية والاقتصاد الحرّ ونجحت في توظيف الآليات الرأسمالية بمعزل عن إسقاطاتها السياسية، وأحرزت انعطافات ثورية في هذا المجال طبقاً لقاعدة دينغ زياو بنغ القائلة “ليس المهمّ أن يكون القطّ أبيضَ أو أسودَ بل ما يهمّنا فيه أن يصيد الفئران”.
من الطبيعي أن تتعالى الأصوات المنادية بموت الرأسمالية عند كلّ أزمة وجودية تعانيها البشرية، ولعلّ هؤلاء المنادين يقصدون السياسات النيوليبرالية (أو الرأسمالية المتأخرة طبقاً لمصطلحات المنظّر الثقافي فريدريك جيمسون Fredric Jameson)– تلك السياسات التي هي بعض مواريث السياستين الريغانية والتاتشرية اللتين أطلقتا يد الأسواق الحرة المتغوّلة وأعلتا شأن الإقتصاد الرمزي القائم على المشتقات المالية بدلاً من عناصر الإنتاج الحقيقية.
إذن، يبدو أن السياسات النيوليبرالية آن لها أن تنتهي؛ لكن السياسات الرأسمالية التي سيعاد تكييفها إلى حد قد تبلغ معه مرتبة الرأسمالية التشاركية.
3– صعود العلم وانكفاء السياسة
سيتيحُ انكفاء الجائحة الكورونية إمكانية غير مسبوقة في إعلاء شأن العلم باعتباره ممارسة بشرية ذات وجهين: وجه براغماتي يسعى لتحسين حياة الإنسان على الأرض، وإمداده بالوسائل العملية القادرة على تعظيم قدراته وسعادته، ووجه أخلاقياتي يقوم على إعلاء النزاهة والبحث الدؤوب واعتماد النزعة الشكوكية في مقاربة المعضلات الوجودية وعدم الإرتكان لوجهة نظر واحدة أو رؤية محددة.
كلنا نعرف أن السياسيين مقامرون بصيغة أو بأخرى: هم يفضّلون النتائج السريعة التي يجتنون منها مكسباً على الجهود طويلة الأجل التي تتطلّب تضحيات بالمواقف الآنية، وقد أبانت الجائحة الكورونية أنّ هذه البراغماتية السياسية القبيحة التي لو كنّا قبلناها من قبل على مضض فلن يكون مقبولاً الإبقاء عليها في قادمات الأيام.
من جانب آخر لامناص من إشاعة الإهتمام بالعلم والسياسات العلمية على أوسع نطاق بعد أن أثبت العلم أنه مقاربتنا الوحيدة للتعامل المعقلن مع الطبيعة، والكشف عن القوانين الحاكمة لعالمنا الفيزيائي، وسيتبع هذا الإهتمام غير المسبوق نكوص الأصوليات (الدينية والآيديولوجية) التي تعتمد اليقين مقابل الفكر الشكوكي الذي يسمُ الفكر العلمي، وقد عبّر بروفسور الفيزياء النظرية (جم الخليلي) عن هذه الحقيقة بطريقة رائعة عندما كتب في مقالة حديثة له بعنوان (شكّ العلماء ويقين السياسيين) نشرها في صحيفة الغارديان البريطانية: “لم يكن يوماً ما ثمة ماهو أكثر أهمية من إشاعة الفهم الخاص بكيفية عمل العلم: في السياسة يُنظرُ إلى الإعتراف بارتكاب خطأ ما على أنّه شكل من أشكال الضعف والوهن؛ في حين أنّ الأمر معاكسٌ لهذا تماماً في العلم حيث يكون إرتكاب الأخطاء حجر الزاوية في المعرفة. إنّ إستبدال النظريات والفرضيات القديمة بأخرى أكثر حداثة ودقّة هو أمرٌ يتيحُ لنا إكتساب فهمٍ أعمق للمادة العلمية موضوعة البحث، وفي الوقت ذاته نحنُ (أي العلماء) نطوّرُ نماذجنا الرياضياتية ونشكّلُ تخميناتنا تأسيساً على البيانات والشواهد المتوفّرة لنا. بقدر ما يختصُّ الأمر بشيء جديد على شاكلة فايروس الجائحة الكورونية فقد شرعنا من خط بداية واطئ من المعرفة، وكلما راكمنا المزيد من البيانات الجديدة فإنّ نماذجنا وتخميناتنا ستستمرُّ في التطوّر والتحسّن”، ثم يختتم مقالته بالعبارات المشرقة التالية: “إذا كنّا نتطلّعُ بحقّ لتجاوز معضلة الجائحة الفايروسية الراهنة فيتوجّبُ علينا جميعاً أن نحوز فهماً أساسياً للكيفية التي يعمل بها العلم، فضلاً عن إمتلاك القدرة على الإفصاح بأننا (وفي خضمّ أزمة كبيرة مثل الجائحة الحالية ) إذا ماأبدينا شكوكنا (إزاء نظرياتنا وسلوكياتنا العلمية الراهنة) عوضاً عن التظاهر باليقين فإنّ هذا الأمر هو مصدر قوة لنا”.
4- أخدوعة هشاشتنا البشرية
لعلّ عبارة “الهشاشة البشرية” هي أكثر العبارات التي تشيع في ظروف المعضلات الوجودية الكبرى، ويتقصّد المنافحون عنها وضعها في سياق لاهوتي يشي بالمقدرة الكونية الفائقة والساحقة إزاء القدرة البشرية وبما يؤكّد ضآلة الكائن البشري وتفاهته وعدم تفكّره في هذه الحقيقة إلا عند الجائحات التي تقرّبه من حقيقة موته المحتّم، وممّا يفاقم من حدّة هذه الهشاشة المزعومة الترديد الببغاوي لأسئلة من نمط: كيف يمكن لفايروس لايرى بالعين المجرّدة أن يقتل إنساناً مدججاً بكلّ القدرات العلمية والتقنية الهائلة؟ واضحٌ أنّ من يطرحُ أسئلة بهذه الصياغات القصدية الملغّمة إنما يمرّرُ فكرة مضمرة قوامها فكرة العقاب الأبدي الذي يستحقه الكائن البشري من جانب (الإله المتعالي كلي القدرة ).
ليست الهشاشة البشرية عيباً أو مثلبة: قد يشعر الإنسان بهشاشته في مواقف وجودية بعينها وهو يواجه حقائق الموت والشيخوخة والمرض والعجز وفراق من يحب،،،، إلخ؛ لكنّ هذا لايلغي القدرات العظيمة المخبوءة في روح الإنسان والتي تتحفّز بكيفية غير مسبوقة متى مااستشعرت عوامل الخطر؛ وعليه فإنّ المنافحين عن تدعيم فكر الهشاشة البشرية ليسوا سوى كائنات تستطيب رؤية الكائن البشري محطّماً كسير الجناح بقصد تمرير أجنداتها التي تبتغي تعظيم المكاسب على حساب معاناة البشر وموتهم وتهشيم روح العنفوان والإبتكار لديهم.
5– نكوص الفكر الرغائبي والسرديات الكبرى
تشيع في أيامنا الموبوءة بالجائحة الكورونية أفكار لاتعدو أن تكون تمثلات لفكر رغائبي Wishful Thinking يشيعه بعض أكابر أقطاب الفكر العالمي (تشومسكي مثالاً): انهيار الإمبراطورية الأمريكية، تصدّع التكتلات الكبيرة (الاتحاد الأوربي على سبيل المثال) وإعادة إحياء الدولة القومية المدعمة بصبغة دينية (على شاكلة الاتحاد الروسي)، صعود الإمبراطورية الصينية كقطب أوحد بديل للقطب الأمريكي،،،، إلخ. قد يحصل شيء من هذا في السنوات او العقود القليلة القادمة؛ لكنه لن يتخذ سمة السردية الكبرى (على شاكلة نهاية التاريخ) بقدر ماسيكون إنعطافة هادئة تمليها ضرورات براغماتية وليست آيديولوجية.
الفكر الرغائبي والتمسّك بالسرديات الكبرى الجامعة المانعة ليس سوى خصائص لصيقة بالعقل العاجز غير القادر على الفعل المرئي على الأرض.
6- إعادة هيكلة التعليم والسياسات التعليمية
أرى من جانبي أن هذه التغيير الجذري الذي سيطالُ التعليم في السنوات القليلة القادمة هو المَعْلَمُ الأعظم الذي سيسودُ حياتنا في عصر مابعد الجائحة الكورونية، وسيمثّلُ هذا التغيير قاطرة ستجرّ وراءها سلسلة ممتدة من التطويرات الثورية على كلّ الأصعدة، وبخاصة في ميدان مغادرة المرجعية القائمة على نمط الثنائية الأزلية (المعلّم/ المتعلّم) لصالح منظومات تعليمية يكون فيها المتعلّم مرجعية لذاته، يعرفُ متطلباته وكيفية التعامل معها بطريقة كفوءة تختصر الكثير من الوقت والجهد والمال والموارد البشرية.
أصبحت البرامج التعليمية الرقمية المجانية في السنوات الأخيرة معْلَماً أساسياً من معالم التعليم في عصرنا الحديث؛ فثمة برامج مهمة أذكر منها برنامجين مميزين هما الأكثر فرادة بين برامج التعليم الرقمي من حيث مفردات البرامج والمنصات التفاعلية والجهات الأكاديمية التي تدير هذه البرامج: البرنامج الأول هو (Edx) الذي يديره معهد ماساتشوستس التقني (MIT) وجامعة هارفارد، والبرنامج الثاني فهو Coursera)) الذي تديره جامعة ستانفورد إلى جانب جامعات عالمية مشهود لها بالرصانة العلمية. تُنشر بين حين وآخر تقارير إحصائية لبيان أعداد المستفيدين من هذه البرامج التعليمية، ويُلاحظ أن الصينيين والهنود وبعض أبناء جنوب شرق آسيا يأتون في طليعة المستفيدين من هذه البرامج الدراسية، وبخاصة في موضوعات الرياضيات والفيزياء والبرمجة الحاسوبية ولغات البرمجة وتعلّم اللغات الأجنبية (وبخاصة الإنكليزية)؛ الأمر الذي يكشف أن هؤلاء يعدّون العدّة منذ وقت مبكر في حياتهم لترسيم صورة المستقبل الذي يريدونه لأنفسهم وبخطوات محسوبة بدقة ووعي، وفي العادة يرى هؤلاء في تلك البرامج الدراسية كنزاً ثميناً تنبغي الاستفادة منه إلى أبعد الحدود الممكنة، وليس غريباً أن نقرأ بصورة دورية عن شباب آسيويين يافعين في حدود العاشرة من أعمارهم- أو أكثر بقليل- وقد أكملوا برامج دراسية علمية وتقنية تكفي للحصول على درجة البكالوريوس بتفوق (وربما حتى الماجستير في أحيان أخرى).
7– الثقافة البيئية عنصراً جوهرياً في رسم السياسات العامة
قد يسمع الكثيرون- وهم غير مكترثين- بمفردات من قبيل: الإحترار العالمي، ارتفاع نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الجوّ، ظاهرة غازات الدفيئة، ظاهرة النينيو.. إلخ، ولا يكاد يرفّ لهم جفن، والحقّ أن تقصيراً معيباً يسمُ سلوكيات الأفراد إزاء هذه الظواهر فضلاً عن ثقافتهم العامة في الموضوعات البيئية؛ إذ على الرغم من كثرة المواد الإخبارية والإعلامية بشأن التغيّرات المناخية الشاذة، فلا يبدو ثمة بديل عن جهد فرديّ مواظب لمعرفة أدقّ تفاصيل هذه الظواهر، ومساءلة الكيفية التي يمكن بها للفرد المساهمة في تقليل آثارها المهلكة، والفعل الجاد- كما نعلم- يأتي لاحقا للمعرفة الرصينة بكلّ أبعاد الموضوع، وإلى حد معقول بالنسبة للمواطنين من غير المتخصصين.
قد يظن البعض بأنّ ظواهر غريبة مثل هذه تستلزم جهودا عالمية وقدرات حكومية ضخمة ولن يكون دور الأفراد مؤثّرا فيها؛ غير أن هذا خطلٌ كبير يُراد منه التعتيم على دور الأفراد، وعلينا ألاّ ننسى التأثير الجمعي للكتلة البشرية التي تتجاوز السبعة مليارات نسمة، أما ماذا يمكن للفرد أن يفعل بهذا الشأن فذاك موضوع قراءة اختصاصية، ولكن لا بأس من ذكر القليل المؤثر منها: ضبط استهلاك المياه، تقليل استخدام المحروقات العضوية، المساهمة في زيادة رقعة المساحات الخضراء، ترشيد استهلاك الطاقة الكهربائية… إلخ.
لم يعد الخوض في الوضوعة البيئية ترفاً، وبخاصة في أعقاب الجائحة الكورونية؛ فقد تنبّهت أغلب البلدان- المتقدمة والتي في طور الارتقاء- إلى خطورة هذه الظاهرة التي ستكون الظاهرة المؤثرة على مجمل السياسات العالمية في السنوات القليلة القادمة، وبلغ الأمر حدّ اعتماد ما يسمّى (الثقافة البيئية) التي تعدّ اليوم فرعاً حيويّاً ضمن السياسات الثقافية. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل بلغ حدوداً أكبر تتغلغل في معظم المفاصل الحياتية للمجتمع، وأذك، على سبيل المثال، أنّ نوعاً أدبياً روائياً بات يدعى الرواية البيئية نال حظوة كبيرة في السنوات الماضية، وظهرت روايات كثيرة جعلت البيئة ثيمةً رئيسيةً لها، هذا فضلاً عن الاهتمام التعليمي منذ المراحل المبكرة بتعليم الموضوعات البيئية بسبب المعرفة الاستباقية بخطورة الموضوع وجوهريته لبقاء الجنس البشري واستدامة عناصر ديمومته الحيوية.
نحن على أعتاب كارثة بيئية خطيرة ومدمرة ستتفاقم مفاعيلها في السنوات القليلة القادمة، وما لم نحشّد كلّ الجهود الفردية والحكومية لمواجهتها فسنكون بمواجهة مشهد قيامي مريع في القرن الحادي والعشرين.
لا أظنّ أنّ أحداً بوسعه نكران حقيقة أنّ الجائحة الكورونية انطوت على الكثير من التضحيات البشرية والخسائر المادية؛ لكنها تذكرة لنا بضرورة اعتماد سياسات تشاركية أوسع على الصعيد العالمي، بدلاً من تكريس حالة القطائع الآيديولوجية والسياسات الأنانية الضيقة. نحن كلنا بشر نستوطن كوكباً ليس سوى (نقطة زرقاء شاحبة) في الفضاء الكوني الشاسع (بحسب توصيف كارل ساغان)، وعلينا تقع مهمة حمايته وتوريثه بصورة مقبولة للأجيال اللاحقة. لنُصغِ ملياً إلى هذه الكلمات النبوئية المليئة بالحكمة المعتّقة وهي تردُ على لسان أحد حكماء (غوروهات) القرن العشرين، بيتر مدوّر Peter Medawar:
“الأجراس التي تقرعها البشرية هي في معظمها مثلُ الأجراس المعلّقة في رقاب الماشية التي ترعى على مقربة من سفوح جبال الألب؛ فهي معلّقةٌ في رقابنا نحنُ سكّان هذا الكوكب، وسيكون بالضرورة خطأنا غير المغتفر إذا ماأطلقت تلك الأجراس أصواتاً ناشزةً لاتبعث على البهجة”.