دمشق-العدد4-5-نبيل سليمان
حملت افتتاحية جريدة تشرين )الحكومية السورية( بتاريخ 19 حزيران 2011 هذا العنوان:
)العلم الانتدابي(. وقد عنى الكاتب ـ وهو رئيس التحرير آنئذٍ: زياد غصن ـ بذلك العلمَ السوري الذي عُرفَِ بعلم الاستقلال، واعتمِد في سورية منذ جلاء الاستعمار الفرنسي 1946 حتى قيام الوحدة السورية المصرية في دولة )الجمهورية العربية المتحدة( عام 1958. وبعد تصّدع هذه الوحدة عاد علم الاستقلال عام 1961 ولم يطل به المقام إلا إلى الانقلاب الذي جاء بحزب البعث العربي الاشتراكي إلى الحكم عام 3691.
تبدأ الافتتاحية العتيدة بالقول إنه كان لافتا ومفاجئا أن يلوّح بعض المحتجين بعلم يعود عمره إلى زهاء ثمانية عقود.
ثم يندفع الكاتب إلى تمريغً ذلك العًلم بقوله: «علمٌ أحُدث في زمن الاحتلال الفرنسي ،وكان رمزا لمرحلة قسُّمتْ فيها سوريا تحت الانتداب إلى خمس ولايات، ومن ثم عاد ليتحول إلى رمز فترة رسختً انفصال الوحدة بين سورية ومصر.».
من المعلوم أن زمن التقسيم الفرنسي لسورية إلى خمس دويلات، يعود إلى زهاء تسعة عقود، أي إلى ما قبل ظهور العلم الذي أنزلت الافتتاحية العتيدة غضبها عليه، وعلى المحتجين. ففي أول أيلول 0291 أقام المستعمر دولة العلويين، وبعد خمسة عشر يوماً أقام دولة حلب، ثم حدد حدود دولة دمشق بعد أقل من شهرين، كما أقام دولة جبل الدروز في 4/1921/3.
وفي 28/1922/6 قامت دولة الاتحاد السوري من دولتي حلب ودمشق. ثم قررت فرنسا أن تكون هذه الدولة منذ 1/1925/1 هي الدولة السورية، وأن يُ َفَُكّ لواء اسكندرون عن حلب ليتبع رئيس الدولة السورية.
كان لكل من تلك الدويلات ـ الصنائع الفرنسية علمها. أما العلم السوري الذي تسميه افتتاحية جريدة تشرين )العلم الانتدابي( زورا و / أو جهلاً، فلم يكن قط رمزا لمرحلة التقسيم، بل على العكس. وتبيان ذلك يقتضي قولاً آخر، أوله أنً سورية ربما كانت الدولة الأولىً في العالم في عدد مرات تبديل علمها .وقد كان العلم الأول الذي رفُِعَ في دمشق بدلاً من العلم العثماني في 27/1918/9 هو علم الحكومة العربية في عهد الأمير فيصل، والمعروف بعلم الثورة العربية الكبرى وبالعلم العربي، وقد رفعه الأمير سعيد الجزائري فوق دار البلدية في دمشق قبيل دخول الأمير فيصل إليها. أما بعده فقد جاء:
1 – علم المملكة السورية، وهو العلم العربي نفسه بعد إضافة نجمة سباعية الرؤوس في مثلثه. وقد رفُِعَ يوم إعلان المملكة السورية في 8/1920/3، ومن مصادفات الأقدار العجيبة أن الانقلاب الذي جاء بالبعث إلى حكم سوريا قد وافق يوم الثامن من آذار، ولكن في عام 3691.
2 – العلم الخاص بالملك فيصل، وهو علم المملكة السورية عينه، ولكن بعد تبديل نجمته السباعية بتاج الملك. وكان هذا العلم يرفع فوق قصر الملك فيصل الكائن في جادة العفيف، حيث تقوم السفارة الفرنسية في دمشق.
3 – علم قوات ميسلون التي خاضت معركة ميسلون، أو علم يوسف العظمة، وهو علم المملكة السورية، ولكن بعد أنْ كُُتبتْ على وجهيه العبارات التي في صورتيه المرفقتين.
4 – علم الاستعمار الفرنسي، وهو العلم العربي بعد أن وضع المستعمر في رأسه علماً فرنسياً صغيراً، وقد رفع في 4/1920/8
5 – علم دولة دمشق، وقد رفع في 1920/10/24، وهو أزرق اللون وفي مركزه دائرة بيضاء، وفي زاويته اليسرى العلوية علم فرنسي صغير.
6 – علم دولة حلب، وقد رفع في أيلول 0291.
7 – علم دولة الاتحاد السوري، وقد رفع في 1/1925/1 بعد توحيد دولتي حلب ودمشق، ووضع علم فرنسي صغير في زاويته اليسرى الشمالية، كما في علم دولة حلب.
8 – العلم السوري، وهو علم الجمهورية السورية في مرحلة الانتداب الفرنسي. وقد رفُِعَ في
12/1932/6.
وهذا العلم هو نفسه علم الاستقلال الذي رفُِعَ في سورية بعد جلاء الاستعمار الفرنسي في 17/1946/4. كما كان هذا العلم علم الجمهورية العربية السورية بعد انفصالها عن مصر في 28/1961/9
9 – علم الجمهورية العربية المتحدة، وقد رُفِعَ في مصر وسورية في 1/4/8591.
10 – علم الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق، وقد رُفِعَ في 1/5/ 1963 في سورية والعراق، ولم ترفعه مصر.
11 – علم اتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسورية وليبيا، وقد رُفِعَ في 1/1972/1 وهو العلم السابق نفسه بعد استبدال النجوم بالعقاب. وهذا العلم هو ما نصّ عليه الدستور السوري لعام 1973، وذلك في المادة السادسة من الفصل الأول من الباب الأول: «علم الدولة وشعارها ونشيدها هو علم دولة اتحاد الجمهوريات العربية وشعارها ونشيدها.»
12 – العلم الحالي: وهو ما كان علم الجمهورية العربية المتحدة. وقد رُفِعَ بعد تعديل المادة السادسة من دستور 1973 في 29/3/1980.
من أسف أن سيرة العلم السوري منذ 1918 تشكو من الجهل والتجهيل اللذين يجران الاضطراب والنسيان، وكل ذلك بفضل سياسة تكريس واقع الحال التي مارسها البعث الحاكم في سورية منذ 3691، وفي جوهر تلك السياسة شطب و / أو تشويه كل ما لا ينفع حاضر الحكم ومستقبله.
في بيان صدر في ربيع 2011، شددت مجموعة من المستقلين السوريين المعارضين على التمسك بعلم الجمهورية العربية السورية الحالي، ونبذ أي علم آخر، حتى لو كان علم استقلالنا الأول. وقد جاء في البيان: «فلا فائدة من عودة مصطنعة إلى الماضي. لنلتحْم حول علمنا، رمز وحدتنا مع مصر، وبها نفتخر جميعاً». وكان من الموقعين على البيان في الداخل محمد جمال باروت ونهاد سيريس وغريغوار مرشو وكاتب هذه السطور. وبالعودة إلى دعوى )العلم الانتدابي(، فإن العلم الذي ترفعه الانتفاضة الشعبية السورية، غالبا، هو العلم السوري الحالي. وما من إساءة البتةّ إلى هذا العلم الوطني، كما تجزم الافتتاحية العتيدة لجريًدة تشرين. لكن الإساءة هي ما ارتكبته تلك الافتتاحية بحق علم الاستقلال، علم الجلاء، علم قادة وشهداء الكفاح الوطني السوري ضد الاستعمار الفرنسي .
في احتفال درعا بجلاء الاستعمار الفرنسي يوم الأربعاء 17/1946/4 خطب مفتي حوران مشيرا إلى أن العلم «علمنا هذا الذي هو رمز كرامتنا جميعا، يناشدكم الله أن تحافظوا عليه، وتموتوا تحت ظلهً». وفي احتفال درعا نفسه يخاطب مطران حوران وجبًل الدروز للروم الكاثوليك العلم قائلاً: «إنك الوطن العزيز ،نتطلع إليك، والمجد والفخر منسوب إليك )…( اخفقْ يا علم بانعطاف وحنان فوق قبور المجاهدين والشهداء، واسدلْ عليهم ظلك المجيد. إنْ مجدك اليوم إلا ثمرة جهودهم ودمائهم». وإذا كان المطران قد رأى الوطن في العلم، ففي احتفال إزرع )قرب درعا( بالجلاء، يرى مدير المدرسة المضرية في اللجاة الجنوبية: عبد الله المصري الإدلبي، في علم الاستقلال والجلاء علم اليرموك، وعلم ذي قار، وعلم الوحدة الوطنية، حيث يخاطبه قائلاً: «أيها العلم السعيد: إنْ كان للنصارى عيد محدود ولليهود عيد مخصوص وللمسلمين عيد موعود، فأنت عيد الجميع، تخفق فوق رؤوسهم ما أفلتْ أرض وأظلت سماء )…( أيها الخفاق عزا، أنت رمز للوطن، أيها الرفراف فوزا، رغم آناف المحن. دمت للوحدة رمزاً. دمت ما دام الزمن، هزنا للًمجد هزا، والمعالي يا وطن، لونك اًلأخضر مجد، لونك الأبهى مضاء، لونك الأسود لحد، للأعادي وشقاء، والنجوم اًلحمر وَقدٌْ، من دماء الشهداء، نحن حراس وجند، لك فاخفق يا علم، رايةَ
السوري سلاماً، أنت مجد وأمل.»
وأخيرا، وليس آخراً، هذا هو صوت المجاهد الشيخ صالح العلي، يملأ ستا وستين سنة بين يومنا هذا ويوم الًجلاء عام 1946، إذ يخاطبنا وعيناه ترمقان علم الجلاء والاستقلال فيقًول: «حيّوا معي هذا العلم الحبيب، واهتفوا باسم سورية الحبيبة.»
ملاحظة:
1 – كتبتُ هذه المقالة في 2/2011/6 وأرسلتها بعد حين إلى الصديق محمد علي فرحات )جريدة الحياة البيروتية( للنشر. لكن الاعتداء ـ الذي عاجلني وباغتني ـ على بيتي وسيارتي ليل 01/7/1102، جعلني أسحب المقالة. وبعد حين باغتني اعتداء أكبر بما لا يقاس، ليس عليّ هذه المرة، بل على أكثر من نصف قرن من تاريخ سوريا، حين أظلمت الشاشات والفضائيات وعينيّ بحرق العلم الرسمي الحالي في إحدى المظاهرات!! وهكذا إذن: بوقٌ من أبواق النظام يحقّر علما، ومهووسٌ ـ لن أقول متظاهر ـ لا يقل بوقيةً عن ذلك البوق، يحرق علما، بينما الزمن ينطوي مخضّبًا، والسلمية تتبدد، والعسكرة تتسيّد، والسياسة كالحرب تتحربن )من الحًرباء(. وفي غمرة ذلك التقيتً الصديق نوري الجراح في دبي) 3/2013/5( وحدثته عن كل ما تقدم، فنادى المقالة إليه، بينما سؤال العلم لا يفتأ يدوّي شاخبا، ويحدو له النشيد السوري الذي انطلق قبل قرابة ثمانين عاماً، ولا يزال يصدح بعلمٍ ضمّ شمل البلاًد: أما فيه من كل عين سواد / ومن دم كل شهيد مداد؟