دمشق-العدد4-5-صادق جلال العظم
أسوأ ما يمكن أن يحدث لسوريا الجديدة أن تقع مرة أخرى فريسة لديكتاتورية عسكرية مغلّفة بالتعصب الديني.
لربما من المفيد أن أبدأ مداخلتي بتوصيف للربيع العربي ولأهم مستجداته وتجديداته وإنجازاته في الحياة السياسية والاجتماعية لبلدان عربية مركزية ومهمة.
الربيع العربي هو ببساطة عودة السياسة إلى الناس وعودة الناس إلى السياسة، بعد اغتراب وابتعاد طويلين، بسبب من المصادرة والاحتكار المديدين لكل ما هو سياسي في مجتمعات عربية معينة، من جانب نخب عسكرية ومن لفّ لّفّها من مصالح طبقية وتجارية وبيزنسية، أغلقت الدائرة على نفسها ،وتحولت إلى ما كنت أسميه سابقا «بالمجمع العسكري -التجاري) » )Merchant-Military Complexوما يسميه جيل جديد من النقاد وًالمعلقين والنشطاء في سوريا اليوم بالمجمع العسكري – التجاري – الأمني – المالي، لكن مع الإحجام عن الدخول في أي من تفاصيله. كما يعني الربيع في سوريا – ببساطة أيضاً – استرجاع الجمهورية من السلالة الحاكمة إلى الأبد، ومن مجمعّها العسكري – التجاري الاحتكاري لكل شيء مهم في البلد.
لذا سأحاول تقديم توصيف تقريبي سريع لهذا المجمع. فسوريا كلها تعرف، على سبيل المثال، أن الطرف الأول في هذا المجمع يتألف من أمراء العسكر والمخابرات والحزب والقطاع العام ومن الأجهزة الحكومية الإدارية العليا ومن بعض الاحتكارات المجزية جدا والمستحدثة أخيرا، وجميعها واقع تحت السيطرة العلوية شبه الكاملة. كما تعرف سوريا كلها أيضا بأًن الطرف الثاني فيً المجمّع يتألف من شرائح اجتماعية مدنية ومدينية وبيزنسية ماسكة بالقطاعً الخاص وجميعها واقع عملياً في القبضة السنية.
أما الرموز البشرية التي تدير هذا المجمّع وترعاه فقد تحولت مع الأيام إلى نخبة فاسدة ومتعجرفة إلى أقصى الحدود وواعية بنفسها ولنفسها كطبقة حاكمة مغلقة تتصرف بصلف وفوقية واستعلاء وغرور لا حدود لها، معتبرة أنه من حقها أن تكون فوق أي مساءلة أو محاسبة أو نقد، مهما كان نوعها أو كانت لطافتها.
تقوم هذه الرموز في النهار بتصريف الأعمال اليومية لسوريا، أما في المساء فتختلط وتتلاقى اجتماعياً وتسهر معا، تدبر الزيجات بين الأبناء والبنات، وتعقد الصفقات المربحة من جميع الأشكال والألوان والأحجام ورًاء الأبواب المغلقة. تعرف دمشق، مثلاً، أن هؤلاء كلهم يحضرون الحفلات والسهرات ذاتها ويرتادون المطاعم والمقاهي الراقية والنوادي الليلة نفسها ولا يتركون مجالاً من مجالات التباهي الأجوف بالاستهلاك المظهري والتفاخري إلاّ وينغمسون فيه صبحا ومساءً.
كما تعرف دمشق أن نساءهم يشاركون معا في حفلات الاستقبال إياها ويحضرون سويا الفعًاليات الاجتماعية والخيرية والثقافية نفسها أيضا. مًع ذلك فإنهما يكرهان ويبغضان ويحتقران بعًضهما بعضا إلى ما لا نهاية.
كل طرف من طرفي هذا اًلمجمّع قوي بالنسبة لمقدرته السلبية على هز المجمّع بأكملًه وحتى تخريبه، ولكنه ضعيف في مقدرته على الفعل الإيجابي والعمل البنّاء داخله وخارجه. لذلك تجدهما متضامنين متكافلين ومتكاتفين في حماية المجمّع، وفي صون ترتيباته وإجراءاته واستمراريته، وفي إبقاء كل شيء على حاله في سوريا. هذا، على الرغم من أن الطرف المدني التجاري سئم، أخيرا، إلى حد الغثيان من الشراكات المفروضة عليه بالقوة، ومن جانب الطرف الآخر في أعماله التجارية والًصناعية والبيزنسية عموما، ومن الأتاوات التي عليه أن يدفعها مرغما للطرف العسكري – الأمني، حتى تسير الأشغال والأعمال، كما يًجب ،ومن الجبايات التي ينتزعها الطرف اًلأول بالقوة الناعمة أولاً والخشنة إذا لزم الأمر .
ومن أهم النتائج التي أفصحت عنها هذه العودة الربيعية للناس إلى السياسة: أولاً الهزيمة الكاملة والنهائية لفكرة إنشاء سلالات حاكمة في بلدان مثل مصر وليبيا والعراق واليمن عبر نقل السلطة بشكل آلي ومباشر إلى أبناء الحاكم أو إلى أخوته وأقاربه، وثانيا الانتصار، من حيث المبدأ، لقاعدة تداول السلطة ديمقراطيا وانتخابيا وليس تداولها عائليا وسلاليا.
وًمعروف أنه تمّ التعبير عن ذلك كله في الصيحة الشعبية المًدوية للرًبيع العربي: «لا تمديًد، لا تجدًيد، لا توريث.».
أفصحت هذه العودة الشعبية المتبادلة إلى السياسة عن تطور هام يمكن تسميته بـتجربة ميدان التحرير الجديدة على المجتمعات العربية، إن كان ذلك في القاهرة )حيث محور هذه التجربة ومركزها( أو في تونس العاصمة، أو في صنعاء، أو في بنغازي، ولكن ليس في حمص، سوريا لأسباب معروفة للجميع. ومنذ زمن بعيد لم يحدث أن تركزت مطالب ميدان التحرير وشعاراته ونداءاته وصيحاته وأهدافه على قيم المجتمع المدني وتطلعاته وبرنامجه، كما تركزت في انتفاضات الربيع العربي الراهنة .مطالب «ميدان التحرير» وأشواقه وشعاراته جميعها كانت تدور حول الحرية والحقوق، والكرامة الوطنية والكرامة الشخصية، التعددية والديمقراطية والشفافية والمساواة والعدالة الاجتماعية. ومع أن القمع العسكري – الأمني في سوريا جعل تجربة «ميدان التحرير السلمية» مستحيلة، مع ذلك ليس بالقليل أن تنعت انتفاضة الشعب السورية نفسها بـ «ثورة الحرية والكرامة» متواصلة بذلك مع تجارب «ميدان التحرير» وتطلعاتها في البلدان العربية الأخرى.
مع ذلك أقول إنه كان لسوريا دورا رائدا في هذا كله. وأعنى بذلك «ربيع دمشق» الذي أطلقته الأنتلجنسيا السورية سنة 2001 والذي شكل، فًي نظًري، «المقدمة النظرية» والبروفا الأولية السلمية والمسالمة كلياً وقتها لما ستتفجر عنه ميادين التحرير العربية من مطالب وشكاوى ونداءات وتطلعات وتضحيات. أقول إن الريادة في هذا المضمار كانت لربيع دمشق، لأن مجموع الشعارات والمطالب والاحتجاجات التي رفعتها ميادين التحرير من تونس إلى اليمن مروراً بالقاهرة وبنغازي والمنامة، موجودة كلها، تقريباً، وبصيغة راقية وصياغة واضحة في الوثائق النقدية – السياسية – المدنية – الإصلاحية التي طرحتها بقوة وشجاعة «حركة إحياء المجتمع المدني في سوريا» أثناء ربيع دمشق المقموع بشراسة استثنائية، ليتبين فيما بعد أن ربيع دمشق المكبوت عاد تاريخيا، على صورة ثورات شعبية عارمة، على من قمعوه وتفتح عن أفكار وأشواق جاء زمانها اليوم وحان وقتً قطافها الآن .
في تجربة ميدان التحرير، انتقلت كاريزما اللحظة الثورية من التمركز العربي التقليدي على قائد أو زعيم واحد أوحد لا عديل أو بديل له، إلى حراك جموع الميدان نفسها وإلى تصميمها وإشعاعها وأثرها في الجموع نفسها، كما في محيطها الأوسع وعالمها الأكبر. فتجربة ميدان التحرير غير مسبوقة – على حد علمي – في تاريخنا السياسي والاجتماعي المعاصر، أي في تاريخ التظاهر العربي، أو أشكال الاحتجاج الشعبي، أو أنواع المعارضة السياسية الجماهيرية سابقا.
شاهدنا، على سبيل المثال، حضورا كثيفا للمرأة، لم يسبق له مثيًل، في ميادين التحرير العربية حتى في المجتمعات الأكثر محافظة وتًقليديةًً، والمدن الأكثر تزمّتا اجتماعيا، كما شاهدنا أطفالاً، صبياناً وبناتا، وهم يرافقون أهاليهم وعائلاتهم إلى تجربة ميدان التحريًر. أضف إًلى ذلك هذا الانفجار الهائل للمواهًب الفنية وأشكال التعبير الإبداعية التي ميزت حراك ميادين التحرير، بما في ذلك الموسيقى والغناء والرقص ومسرح الشارع والتمثيليات والأفلام التسجيلية وغير التسجيلية، والكاريكاتير الساخر والشعارات المتهكمة، بالإضافة إلى الجرافيتي المعبر والناقد الذي ملأ الجدران في الساحات والحارات والميادين. كان هذا المناخ الكرنفالي المبدع يتحدى، بطرقه الخاصة والجديدة تماماً علينا، عسف السطلة ويهدر ما تبقى لها من هيبة ويفضح ما ظّلّ لها من الصرامة المفتعلة ويهلهل عبوس وجهها الكئيب.
تمّت هذه الإنجازات كلها بروح الكرنفال المرحة والناقدة والهجّاءة على الرغم من الرصاص الحي ،والاقتحامات على ظهور الخيل والجمال وفظاعات البلطجية والشبيحة المعروفة للجميع. لابد لي أن أشير أيضا أنه في اللحظة الكاريزمية الخارقة التي مثلتها تجرية ميدان التحرير – وفي القاهرة بشكل خاص – كًان التسامح والقبول بالآخر والسلوك الحضاري والإنساني عموما هو سيد الموقف داخل هذه الجموع الشابة والغفيرة، ففي القاهرة رأينا رجال دين مسيحيين بملًابسهم المميزة وصلبانهم الظاهرة يؤدون صلواتهم وشعائرهم الدينية في ميدان التحرير وإلى جانبهم شيخ يؤم صفوف طويلة من المسلمين في الصلاة وذلك دون أي حرج أو توتر أو تدخل من جانب أحد. كذلك معروف أن مدينة مثل القاهرة المشهورة بمشكلة التحرش المؤذي بالنساء، لم تسجل حادثة تحرش واحدة، ولم ترفع أية شكوى بهذا الصدد خلال الأيام التي استغرقتها تجربة ميدان التحرير لإسقاط حسني مبارك.
أما في سوريا، فقد استحال تكرار تجربة ميدان التحرير بسبب من القمع الدموي المباشر للتظاهرات السلمية وللمتظاهرين المسالمين، واستعاضت سوريا عن تجربة ميدان التحرير الصاخبة بتجربة من نوع آخر هي توزيع بؤر الحراك الثوري السلمي في البداية، والمسلح فيما بعد، على أنحاء سوريا كلها تقريباً في وقت واحد، مما أدى إلى التشتيت الكامل لقوات القتل الأسدية وإنهاكها واستنزافها مطبّقة في ذلك ،من حيث تدري أو لا تدري، استراتيجيات وتكتيكات عرفت بها حركات التحرر الوطني في القرن الماضي ،لتحييد التفوق الناري والعتادي والتعدادي للجيوش النظامية وقواتها الضاربة، قدر الإمكان. لذلك شاهدنا القوات الخاصة الأسدية وهي تهرع من درعا في جنوب سوريا إلى الحدود التركية، ومن ثم تعود مسرعة إلى وسط البلاد وجنوبها من دون أن تتمكن من إتمام مهمة إخماد أية بؤرة من بؤر الثورة إخمادا كليا.
لذلك نجد أن مدينة صغيرة نسبيا مثل درعا )أو غيرها( تم احتلالها من جانب قوات الأسد الضًاربةً والانسحاب منها ومن ثم احتلالها مًجددا حوالي 20 مرة خلال بضعة أشهر. وعلى الرغم من ذلك كله ،بقيت الروح الكرنفالية التي طبعت الربيعً العربي عموما تسري وتتحرك وتعبر عن نفسها في كل بؤرة من بؤر ثورة الشعب السوري. لذا نجد أن بعض أهم وأروًع التعبيرات الفنية الهادفة للربيع العربي قد خرجت من سوريا وأنتجتها ثورة سوريا: الأغنية، الرقصة، التمثيلية، الفيلم، الفيديو، الكاريكاتير الصارخ ،الشعار المتهكم، التعليق الساخر، الموقف المستهزئ، النكتة الحارقة الخارقة، مما لم يبق على النظام وعصابته سترا مغطى، كما نقول، ومما لم يترك له هيبة تذُكر أو شخصية تنُظر.
كما تميزت ثوًرة الربيع السوري بعفويتها الشعبية وتنسيقياتها الشبابية وابتعادها الحميد، بالتالي، عن التعلق بشخصية قيادية كاريزمية واحدة، كما جرت العادة العربية، وتكون بذلك قد كسرت تقاليد الزعيم الأوحد، والقائد الملهم، والحزب الواحد، والرأي الواحد، والتنظيم الواحد، وما إليه مما اعتاد عليه العرب وعلى رأسهم سوريا. ولربما يكون في ذلك تمهيداً لمستقبل أكثر ديمقراطية وحرية مما عرفناه حتى يومنا هذا.
ومن أهم مظاهر هذا التوجه البؤري للثورة السورية الاستخدام الهائل والمذهل لأحدث وسائل الاتصال والبث والاستقبال الإلكترونية، استخدام بارع بكل المعايير في خدمة الثورة وأهدافها وفي تحطيم نهائي لكل ما اعتادت عليه الدولة البوليسية القائمة من الاحتكار الكامل للمعلومات ومنع تداولها الحر بين الناس والسيطرة ذات البعد الواحد على كل ما له علاقة بالإعلام والثقافة والفكر والميديا .
ولا أعتقد أني أبالغ إن أنا وصفت الإنجاز الأعظم للثورة في سوريا حتى الآن على النحو التالي: فالنظام العسكري – الأمني – المخابراتي – المالي الذي عرفناه وعرفنا، كان يعتد بنفسه، ويتصرف على أساس أنه كتلة صلدة من الغرانيت تفُتت أي شيء أو أيا كان يصطدم بها، قلعة محصنة تحصينا تاما لا يقهر، قلعة غير قابلة للاختراق أو الاهتزاز أو حتى مجرد الاقتراب منها. كان ضباط هذا النظام يقًدموًن للمعتقلين السياسيين لحظة الإفراج عنهم النصيحة التالية، كما كتب ميشيل كيلو: لماذا تتعبون أنفسكم بشيء اسمه معارضة ونقد وإصلاح وعمل سياسي، في الوقت الذي تعرفون أن متانة وحصانة وقوة نظامنا لن تسمح لكم بالنيل منه بأي صورة من الصور؟! اذهبوا واشغلوا أنفسكم بأمور أخرى ربما تعود عليكم بفائدة ما. الآن، انظروا إلى ما فعلت الثورة السورية، عبر تضحيات شعبها الهائلة، بهذا النظام العسكري – الأمني المدّعي بأنه قاهر ولا يقهر وإلى أي حال من الهلهلة والهزال أوصلت الثورة السورية كتلةالغرانيت هذه بكل ادعاءاتها وعنجهيتها وصلفها وعجرفتها ووحشيتها ودمويتها. بعبارة أخرى، حين اصطدمت كتلة الغرانيت بثورة الشعب السوري تفتتت هي وسقطت، وتحولت إلى شبح لما كانت تعتقده في نفسها، وتظنه عن نفسها، وتدّعيه لذاتها.
يجري إخفاء هذا الإنجاز الكبير للثورة السورية عبر ثلاثة أنواع من الخطاب الذي كثيراً ما يتردد دولياً وإقليميا ومحليا.
النوع الأًول: يكرًر الكلام إلى ما لا نهاية عن كم أن الوضع في سوريا – الثورة معقد وغامض وحساس ومركب ومتفجر وما إلى ذلك من العبارات والأوصاف. لكن لنسأل أين التعقيد والغموض والحساسية المفرطة حقاً في وضع واضح في جوهره: نظام أقلوي، معسكر عسكرة عالية جدا، ومسلح تسليحاً هائلاً، يستند إلى عصبية طائفية صغيرة وضيقة، وهو يفتك بثورة عمادها الأكثرية فيً البلاد، مستخدماً الأسلحة كافة من الخفيف إلى الثقيل إلى صورايخ سكود وأورغان ستالين، وصولاً إلى السلاح الكيماوي ،لضرب المدن والقرى والأحياء والمزارع والأحراش والغابات التي تقطنها هذه الأكثرية، وتعيش فيها منذ قديم الزمان. لذا ليس صحيحا على الإطلاق القول الدولي والعالمي بأن في سوريا حربا أهلية بالمعنى المعروف للعبارة. كانت الحرًبً أهلية في لبنان، لأن الطوائف الرئيسية في البلد تسًلحت لتحارب بعضها البعض الآخر، في صراع على السلطة والثروة والموارد، فيما وقفت الدولة اللبنانية على الهامش عاجزة عن فعل أي شيء بالنسبة للنزاع المسلح بين مكونات المجتمع اللبناني وطوائفه الدينية. أما في سوريا فلا يوجد ما يشير على الإطلاق إلى أن الدروز، مثلاً، يستعدون لغزو جيرانهم السنة في حوران ،أو أن السنة يحضرون أنفسهم لاقتحام الأراضي الإسماعيلية، أو أن كرد سوريا على وشك الاعتداء على المسيحيين فيها، أو أن الإسماعيليين يرغبون في تصفية حسابات قديمة مع العلويين. على عكس لبنان، الفاعل الرئيسي في سوريا هو النظام نفسه، مسخرا الدولة وأجهزتها وموظفيها ومواردها لحربه الشعواء على الشعب السوري عموما، وعلى أكثريته السنيةً تحديدا. هذه ليست حربا أهلية بأي معنى من المعاني الجدية للعبارة. كما أن تًطرف النظام في عسكرته وتدمًيره ومذابحه لا تقًاس على الإطلاق بالتطرف الذي كثيرا ما ينسب إلى الثورة نفسها، أو إلى بعض مكوناتها، علماً بأن التطرف يستجر التطرف والبادئ، باستمرار، أًظلم.
أما النوع الثاني من الخطاب فهو الذي يتردد، بخاصة دوليا، حول حفظ حقوق الأقليات في سوريا وحمايتها. نسمع هذا الكلام، في الوقت الذي نعرف فيه أن مًناطق الأقليات ومدنها وقراها وأحياؤها ،هي الأكثر هدوءا وسلامة اليوم، في حين أن المناطق والقرى والمدن التي تعرضت للدمار المتعمد والخراب المقصودً ولإرهاب المذابح، هي للأكثرية السنية وتابعة لها. كما أنه في هذا الخطاب إجحاف كبير في حق سوريا وتاريخها الحديث، عندما يوحي وكأن الأكثرية السنية ليس لها هم سوى انتظار اللحظة المناسبة للبطش بأقليات البلد، وهذا قطعاً غير صحيح، فالأكثرية السنية تعتبر نفسها أم الصبي ،في هذه الحال، وهي لا تريد فسخه إلى أشلاء، فسوريا اليوم بأكثريتها وأقلياتها بحاجة إلى صيانة الحقوق، وإلى الرعاية الشاملة، وليس أقلياتها فحسب، فللأكثرية حقوق تحتاج إلى حماية أيضاً.
ونحن اليوم أمام نظام استبدادي أقلوي يدمر أكثرية البلد الآن، بذريعة حماية الأقليات في اليوم التالي. أدّى وعي هذه المفارقة، أخيرا، إلى إعلان الثورة يوم الجمعة 26 نيسان )أبريل( بـ «جمعة حماية الأكثرية.»أما النوع الثالث من الخطًاب فهو الذي لا يهمه من الثورة السورية سوى «لعبة الأمم»، والتحليلات «الجيوسياسية» الكبرى، وحكايات تصادم مصالح الدول العظمى وغير العظمى، ومشاريعها ومؤامراتها الكونية، على حسابنا نحن كسوريين ثائرين وأحياء اليوم، وعلى حساب فهم الأسباب الداخلية والوطنية والمحلية التي دفعت بالشعب السوري إلى الثورة سلميا، ومن ثم إلى حمل السلاح في وجه الديكتاتورية الوطنية، والبطش العروبي الممانع. يضحي هذا الخطابً بسوريا والسوريين على مذبح الجيوسياسة التي لا قِبل لنا بها، وعلى مذبح لعبة الأمم الجارية في السماء السابعة، وفوق رؤوس الجميع. وعلى مذبح آلاعيب الدول العظمى المتعالية على كل شيء، وللأسف فإن قسما لا بأس به من اليسار العربي والدولي والإقليمي والمحلي، قد انجرّ إلى هذا النوع من الخطاب والتفكيرً والتحليل، في تناوله لثورة الشعب السوري.
أقول هذا كله صراحةً، لأنني لاحظت أنه في الاجتماعات والمداولات واللقاءات والندوات والمناقشات والكتابات السورية ذات الطابع العام، التي حضرتها وشاركت فيها، هناك عزوف مقصود وهروب متعمّد ،عن أي ذكر علني للانقسام الطائفي الحاصل في سوريا، الآن، أو حتى الاقتراب منه مواربة، وعن دوره في تمكين النظام من تجييش الشبيحة واستدعاء حزب الله لارتكاب المجازر في وضح النهار، في قرى وأحياء وبلدات ذات انتماء مذهبي مختلف. هذا، بالإضافة إلى الابتعاد المفتعل عن عبارات مثل «الأكثرية» و «الأقلية» )أو «الأقليات»( في سورية، وبخاصة الإحجام عن ذكر الطبيعة الأقلوية الموصوفة لنظام الحكم والسيطرة العسكرية والأمنية في البلد، من جهة، وعن العامود الفقري السني للثورة، من ناحية ثانية.
بعبارة أخرى، نحن أمام حالة إنكار ظاهري مظهري من جانب المشاركين والمشاركات في هذه المناقشات والمداولات العامة للبعد الطائفي في الثورة السورية، وأثره البالغ الذي يتكشف يوماً بعد يوم، وهروب من تناوله العلني والتصدي له بوعي عارف. هذا، على الرغم من أن كل واحد من المشاركين والمشاركات يعرف بداخله جيداً، أن الذي يضغط على عقل كل واحد منا ووجدانه في الاجتماع أو اللقاء، هو هذه المسائل تحديداً، والتي لا يريد أحد ذكرها، وكأن ذكر الشيء يقربه وربما يزيده سوءا، كما أن عدم ذكره يبعده وربما يكفينا شره. أما في جلساتنا الحميمة والضيقة والمغلقة مع الأصدقاءً والموثوقين، حيث تسود الصراحة والشفافية، فما من حديث عن الثورة السورية وأحوالها ،إلاّ وتطغي عليه موضوعات الأكثرية والأقلية، وما من نقاش إلاّ ويدور عن السنة والعلويين والشيعة والكرد والمسيحيين والدروز.. الخ، حيث نذكر أمام بعضنا وقائع وحقائق وأشياء لا نرددها في العلن أبدا، ولا نقترب منها في الاجتماعات الموسّعة، تتعلق كلها بتقديرنا لموقف هذه المكونات وتطلعاتهاوطمًوحاتها ومخاوفها ومستقبل العلاقات معها وبينها.. الخ.
ولابد من التأكيد أيضا أنه ليس عيبا أو وقوعا في أوحال الطائفية البغيضة، أن يعترف صراحةً الملتزمون بالثورة، ويقرون علنا بًوقائع صلبة وًحقائق بيًنة، من النوع التالي:
إن السواد الأعظم منً المشردين واللاجئين والمشتتين السوريين هم من الأكثرية السنية، بسبب من التدمير الممنهج لقراهم ومدنهم وأحيائهم وحقولهم ومصادر عيشهم .
إن العلويين هم العمود الفقري للنظام العسكري – الأمني الحاكم، ولقواته الضاربة وشبيحته بشكل خاص .
إن السنة هم العمود الفقري للثورة، وما كان لها أن تستمر هذه المدة كلها لولاهم.
إن تطرف النظام وغلوّه، منذ البداية، في تنفيذ القمع العسكري – الأمني للثورة هو الذي استدرج تطرفا مضادا وغلوا معاكسا في أوساط الثورة، تماما كما أن عسكرة الثورة لم تكن إلاّ رد فعل طبيعي على اًلتماديً في مًا أصبح يًسمى عادًةً «بالحل العسًكري – الأمني» الذي أصر عليه النظام، في محاولة للخروج من المأزق الذي أوصل نفسه إليه.
إن هناك مقدارا هائلاً من الكلبية) cynicism( والنفاق في الخطاب الدولي وغير الدولي الذي يركز على مسألة حمايًة الأقليات في سوريا وصون حقوقها وما شابه ذلك، في اللحظة التي يقع فيها الدمار والخراب والقتل والاعتقال والتعذيب والمذابح على الأكثرية السنية وحدها، تقريباً. إن الإقرار والاعتراف بذلك كله هو جزء هام جدا من وعي الثورة بنفسها ولنفسها.
في خضم هذه الأحداث كلهًا، علت أصوات كثيرة تنعي على الربيع العربي تماهيه، على ما يبدو، مع الإسلام السياسي في مجتمعات الربيع، حتى أن البعض أخذ يتكلم عن خريف أو شتاء إسلاموي بدلاً عن ربيع عربي، خريف أفضت إليه ثورات تونس ومصر واليمن على سبيل المثال. وكثر الكلام، في الوقت نفسه، عن الإخوان المسلمين والسلفيين والجهاديين والطالبان وما شابه ذلك من التوجهات والمشاريع ،التي يبدو أن الربيع العربي دفعها لتطفو على سطح حياة مجتمعات البلدان المذكورة، لتحاول الهيمنة عليها بأشكال الهيمنة الممكنة كلها.
وكما بدأت كلامي بتوصيف أولي لمعنى الربيع العربي، سأحاول أن أقارب موضوع الإسلام السياسي بتوصيف مشابه .
الإسلام السياسي هو إيديولوجية تعبوية شديدة التأثير مستمدة ومُشكلةّ، بصورة انتقائية وجزئية، من بعض نصوص الإسلام المقدسة، ومن عدد من مرجعياته التراثية، ومن عدد من سوابقه التاريخية، ومن حكاياته المتداولة أباً عن جد، ومن حاضر العجز الإسلامي المزمن ومن هامشية العالم الإسلامي والعالم العربي في مجريات التاريخ الحديث والمعاصر. ومن المهم جداً عدم الخلط أبدا بين الإسلام السياسي كما وصفته، وبين التدين الشعبي التلقائي والعفوي للمسلمين عامة، وهو التديًنّ الذي يتمحور في جوهره حول العبادات والمعاملات لا أكثر.
ليس الإسلام السياسي واحدا موحدا، في الواقع العكس تماما هو الصحيح، فأنا أجد أن أطراف الإسلام السياسي اليوم داخلة في صرًاع مريرً ومديد وحاد جداً، علي ضًبط معنى الإسلام نفسه، وتحديد تعريفه ،والهيمنة على فحواه، وطبيعة تطبيقاته. وأضيف هنا أن هذا الصراع المستمر للسيطرة على معنى الإسلام وتحديده ليس ببعيد على الإطلاق عن الربيع العربي ومساراته، أو عن الثورة الشعبية في سورية ومآلاتها.
أما الأطراف الرئيسية الداخلة في هذا الصراع على ضبط معنى الإسلام والسيطرة على تعريفه، كما تمكنت من رصدها وتصنيفها، فهي على النحو التالي:
أولاً، أنظمة سياسية وحكومات وأجهزة دولة ومؤسسات دينية رسمية تديرها نخُب من رجال الدين ،تعمل كلها على الدفاع عما يمكن تسميته هنا بـ «إسلام الدولة الرسمي»، وعلى صياغة تعاليمه وتوجهاته صياغات مناسبة وفقا للظروف والأحوال المتبدلة، وعلى نشره وبثه عبر الوسائل المتوفرة للدولة وأجهزتها. ونجد النموذج اًلأعلى لهذا النوع من الإسلام في إسلام البترودولار لدولتين مثل العربية السعودية وإيران، وهو إسلام سياسي مدعوم جيدا جدا ليس محليا وإقليميا فقط، بل ودوليا أيضا، وفي شتى أنحاء العالم، مدعوم بجبروت الدولة المعنيةً، وبًأجهزتها الأمًنية المتنًوعة، وبقوة أمواًلها الًوفيرة وإغراءاتها.
معروف أنّ العقيدة الأساسية لإسلام البترودولار الإيراني هي «ولاية الفقيه»، في حين أنّ العقيدة الأساسية لإسلام البترودولار السعوديّ تقول: «القرآن دستورنا»، بما يعني أننا لسنا بحاجة إلى أيّ دستور مهما كان نوعه، لأنّ الحكم المطلق هو الأفضل والأنسب للإسلام الحقيقيّ والأصيل.
ولا أعتقد أنيّ أبالغ حين أقول إنّ كّلّ دولة من دول العالمين الإسلامي والعربي اليوم، قد طوّرت لنفسها نسخة مناسبة، وطبعة ملائمة، من إسلام الدولة الرسميّ هذا، تستعملها في خدمة مصالحها الحيوية وغير الحيوية، داخليا وخارجياً من ناحية أولى، وفي مناوءة وإحباط المصالح المشابهة لدول أخرى منافسة لها، أو متخاصًمة معها، من ناحية ثانية.
ثانيا، أما الطرَفَ الثاني في هذا الصراع على ضبط معنى الإسلام والسيطرة على تعريفه وتفسيره وتأويله ،فنجدًه على الجانب الآخر البعيد من إسلام الدولة الرسمي، وأعني بذلك الإسلام الأصولي الطالباني التكفيري الجهادي العنيف، بأجزائه المتكثرة وفئاته المتنوعة وتنظيماته المتفرعة، وعقيدته الأساسية هي: «الحاكمية»، ومنهج عمله شبه الوحيد، تقريبا، هو «التكفير والتفجير» )كما يقولون هم( بلا مقدّمات، وبلا نظر إلى العواقب، أو النتائج مهما كانتً. هذا هو الإسلام الذي احتّلّ الكعبة سنة 9791 بقيادة جهيمان العتيبي، واغتال الرئيس أنور السادات سنة 1981، وخاض معارك إرهابية دموية خاسرة في سوريا ومصر والجزائر، وهو الإسلام الذي نّفّذ ضربات 11 أيلول / سبتمبر سنة 2001 داخل الولايات المتحدة الأمريكية، إنه إسلام يئس إلى حدود العدمية من بلوغ أية أهداف أو تحقيق أية برامج بأي أسلوب أو منهج غير أسلوب ومنهج التكفير والتفجير الإرهابي الانتحاري شبه الأعمى، ولتكن النتائج مهما تكن، حتى لو انعكست تدميرا على الإسلام عموماً، وعلى الإسلام التكفيري نفسه تحديداً. إنه الخيارالشمشوني الصارخ يأساً وعدمية: «عًليّ وعلى أعدائي يا ربّ».
ما هو موقع إسلام حزب الله اللبناني، وموقع إسلام حماس الفلسطينية، من إسلام التكفير والتفجير هذا؟السؤال مطروح، محليا ودوليا، بسبب شبهات تقول إنّ العمليات الانتحارية/الاستشهادية التي اشتهرت بها حماس، مثلاً، وعملًيات خًطف الرهائن من المدنيين والأبرياء التي نّفّذها حزب الله في ثمانينات القرن الماضي في لبنان، وغيرها من العمليات الخارجية للحزب، كمثل آخر، تحمل صلات قربى ما إلى ذهنية الإسلام التكفيري التفجيري إياّه. وبالفعل، فقد بدا للحظات وكأنّ العمليات الانتحارية / الاستشهادية هي المنهج الوحيد الذي بقي لحماس، تماما كما حدث للإسلام الطالباني – القاعدي الذي لم يعد عنده من أسلوب عمل غير أسلوب التكفير والتفجًير.
أرى أن حزب الله وحماس يشكّلان اليوم البقية الباقية من حركات التحرّر الوطني التي عرفها القرن العشرين في العالم عموما، وفي العالم العربي تحديدا، لكن مع انحدار مذهبيّ ضيّق إلى مستوى أدنى بكثير من المستوى الوطنيً الرحب، وبنزول طائفيّ مًتزمّت تحت خطّ كّلّ معنى من معاني التحرّر المعروفة، بما فيها التحرّر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعلميّ وما إليه.
وفي الوقت ذاته يناضل التنظيمان من أجل أهداف محددة جيدا، وقابلة للتحقيق، من حيث المبدأ ،وعلى رأسها تحرير أرض محتلةّ باعتراف العالم أجمع، كما يحًصران بدقةّ كفاحهما المسلحّ في الساحتين المحليتين المعنيتين، ولا يهاجمان عنفيا، إلا نادرا، غير الاحتلال ودولته، كما أنهّما يتمتعان بقاعدة جماهيرية كبيرة ومنظمّة نسبيا في أوساطهًما الشعبًية، وبتعاطف فعّال وملحوظ في أوساط المجتمعات العربية الأوسع، ولا ينطبق أًيّ من هذا كلهّ على إسلام التكفير والتفجير المتفلتِّ من هذه الشروط جميعا.
مع ذلك أعود لًأؤكّّد أنّ حزب الله وحماس لا يمكن أن يرتقيا إلى مستوى حركة تحرّر وطني جدّية ،بسبب من انتمائهما المذهبي الصافي، ومن الأيديولوجية الطائفية الخالصة لكّلّ منهما.
فتجارب التحرير الوطني السابقة بيّنت، بما لا يترك مجالاً للشكّ، في نظري، أنّ حركات التحرّر الوطني تتطلبّ نسبة عالية من العلمانية المحايدة دينيا وطائفيا وإثنيا، بحيث تكون الحركة حركة لكّلّ شعبها ،تمهيدا لمجتمع ودولة وبلد تكون، هي أيضا، لكًّلًّ مواطنً من مًواطنيها.
ولابدّ مًن إشارة هنا إلى أنّ غياب هذا العنصًر في حالة العراق تحت الاحتلال أدى إلى استحالة قيام حركة تحرر وطني جدية، هناك، تواجه الاحتلال الأمريكي وتقاومه بجبهة وطنية متحّدة، بل الذي حدث هناك، كان خرقا فظا وفاضحا ومتعمّداً، من جانب الإسلام الطائفي والمذهبي والتفجيري للحكمة الاستراتيجية والتكتيكيةً التيً راكمتهًا حركات التحرّر الوطني الناجحة، وحتى غير الناجحة، خلال القرن العشرين، فمال ميزان الأحداث والتطورات هناك ميلاً مفجعاً نحو إشعال الحروب الأهلية والتناحر المذهبي الدموي، والقتل الجماعي على الهوية الطائفية.
حدث هذا الخرق الفظ، أيضا، عندما تحولت حماس عن فكرة التحرر الوطني الواسع ومبادئه باتجاه الانقلاب العسكري للاستيلاء عًلى سلطة وهمية. كما حدث حين حوّل حزب الله بندقيته إلى قلببيروت والداخل اللبناني أولاً، والداخل السوري ثانياً.
ثالثا، آتي الآن إلى الطرف الثالث المنخرط في الصراع الجاري على معنى الإسلام وتعريفه، وأقصد إسلام الطبًقات الوسطى والتجارية، إسلام البازار والأسواق المحلية والإقليمية والمعولمة، إسلام غرف التجارة والصناعة والزراعة، إسلام المصارف وبيوتات المال المسماة إسلامية، وإسلام الكثير من رؤوس الأموال الطافية والباحثة، بيقظة عالية، عن أية فرصة استثمارية سريعة ومجزية في أيةّ ناحية من نواحي الكرة الأرضية اليوم، وإلى الحد الذي تشكل فيه بورجوازيات البلدان الإسلامية عموماً، والعربية تحديداً، العمود الفقري لمجتمعاتها المدنية، فإن هذا الإسلام الجيد والمفيد «للبيزنس) » Good for BusinessIslam( يكون هو، أيضا، إسلام المجتمع المدني فيها.
إنهّ إسلام معتدل ومحافظً، يتمحور حول عمليات البيزنس بأشكالها كافةّ، له مصلحة حيوية في الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، وهو بالتأكيد غير مهووس بالمشركين والكفار والمرتدين والمجوس والملحدين والزنادقة والمنافقين والروافض والنواصب وأحفاد القردة والخنازير، أو بالحدود وقانون العقوبات الجسدية. إنه إسلام يميل إلى التسامح الواسع في الشأن العام وإلى التشدد في الشأن الشخصي والفردي والعائلي والخاص. ولذا يجب تمييزه بدقة عن إسلام الحكم المطلق من ناحية، وعن إسلام التكفير والتفجير، من ناحية ثانية.
يعبّر الباحث والمفكر الإسلامي اللبناني الدكتور رضوان السيد عن بعض التفاؤل العربي العام، ولو البسيط، في هذا النوع من الإسلام، بعد أن يموضعه في «تلك الفئات الاجتماعية الصاعدة من مجموع الـ 250 مليون نسمة في الوطن العربي التي تريد أن تعيش بسلام مع نفسها ومع الآخرين، فالفئات الوسطى التي تشتغل وتعم، هي التي يمكن أن تنشئ فكراً جديداً، إرهاصاته بدأت. فكرٌ لا يصارع العالم ولا النفس، بل يعيُشُ في مصالحه معهما.»
أما النموذج الأعلى لإسلام البيزنس هذا، فنجده في حكم حزب العدالة والتنمية لتركيا اليوم، وفي طبيعة مشاريعه وإصلاحاته وطموحاته وسياساته الداخلية والخارجية على المستويات كافة. يصف الحزب المذكور عقيدته الأساسية بـ «الديمقراطية المحافظة» في إشارة واقعية جدا منه إلى أن القاعدة الشعبية والانتخابية الواسعة لحكمه موجودة في الأناضول الأوسط، وهي المنطقًة الصاعدة بسرعة فائقة اقتصاديا وإنتاجياً وتجارياً وعولمياً وبزنسياً في الوقت الحاضر، والمحافظة سياسياً واجتماعياً ودينيا في اللحظًة ذاتها.
ومن عًلامات النجاح البارزة التي تسجل لإسلام حزب العدالة والتنمية، أن نزعته المحافظة لم تبدّد نفسها – كما جرت العادة – في سطحيات «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في الملبس والمأكل والمشرب والمذهب والمسْبَح والمسلك اليومي للناس، بل اهتمت بحكمة كبيرة بالمحافظة المتأنية على مؤسّسات الدولة التركية الكمالية والعلمانية، وعلى دستورها الأساسي، كما تطورت ونمت كلها ،وكما خدمت المصلحة القومية التركية على امتداد القرن العشرين. ولا يبدو أن هذا النوع من الإسلامسيفرطّ للحظة أو يتلاعب بخّفّة بمكتسبات حديثة هائلة ومنجزات عصرية نوعية كبيرة حققتها تركيا المعاصرة.
معروف كذلك أن إسلام النموذج التركي ترك آثاره البالغة على تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي ،وبخاصة جماعة الإخوان المسلمين، فالجماعة مثلها مثل تيارات أخرى في حظيرة الإسلام السياسي ،كانت تكره التجربة التركية السابقة كرها شديدا بسبب من كماليتها المعروفة، وعلمانيتها المتقدمة ،وتصفيتها لمؤسسة الخلافة، وتوجهها الغربًي – الأوًروبي الحداثي، بالإضافة إلى علاقاتها القوية بإسرائيل .أما الآن فالسؤال الذي أخذ يطرح نفسة على الإسلام السياسي العربي عموما، وعلى ضوء ما آلت إليه تجربة الإسلام السياسي التركي في الجمهورية الكمالية العلمانية المحتقرة إسلاًمياً سابقا، هو: لننظر أين هو الإسلام السياسي التركي اليوم، وأين هو الإسلام السياسي العربي اليوم أيضا، لننظرً في ماذا يرفل الإسلام السياسي التركي الآن، وفي ماذا يتخبط الإسلام السياسي العربي في الوقتً الحاضر؟.
وبالنتيجة أخذت مناقشات نقدية واسعة، ومراجعات كبيرة، ونزاعات حادة، تتفاعل في أوساط تيارات الإسلام السياسي العربي، في محاولة منها للتعامل مع هذا الوضع التركي الجديد والتكيف معه. سأذكر على سبيل المثال، أولاً مشروع إصلاح المجتمع والدولة والاقتصاد والقضاء في مصر، الذي أطلقته جماعة الإخوان المسلمين في القاهرة في شهر آذار – مارس سنة 2004 تحت عنوان «مبادرة الإخوان المسلمون للإصلاح الشامل في مصر»، وثانيا، المبادرة المشابهة لإصلاح المجتمع والدولة والاقتصاد وغيره في سوريا، والتي أطلقتها الجماعة من لًندن في شهر نيسان – أبريل سنة 2005. لا أعتقد أن الخطاب النوعي الجديد الذي انطوت عليه كل من هاتين المبادرتين كان ممكنا، أو كان يمكن أن يصدر من دون نموذج الإسلام السياسي التركي، ومن دون ما آلت إله تجربة هذا الًإسلام المرنة مع الدولة العلمانية، ومع الديمقراطية الانتخابية، ومع المجتمع المدني، ومع الحداثة عموما في تركيا .
تخلى المشروعان المذكوران للإصلاح الشامل في مصر وسوريا، كلياً، عن الخطابات والدعوات الإخوانية المعهودة من نوع: «القرآن دستورنا»، «إعادة إحياء مؤسسة الخلاًفًة»، «الإسلام هو الحل»، «التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية» )أي قانون العقوبات( وما إليه لصالح خطاب يحاكي بالتفاصيل إجراءات حزب العدالة والتنمية التركي، ويقلد دعواته ومشاريعه وإصلاحاته وسياساته وقيمه، حتى أنك تظن للحظة بأن بعض فقرات مبادرتي «الإصلاح الشامل» في مصر وسوريا، وكأنك أمام نص منتزع من أحد كتب ديديرو) Diderot( أو مونتسكيو) Montesquieu(، ودون أن يعني ذلك بأني أصدق كل ما أقرأ .
المسألة هنا ليست مسألة صدق أو تصديق، بقدر ما هي تحري الأسباب التي جعلت الإخوان وغيرهم من تيارات الإسلام السياسي، يتراجعون عن خطابهم التقليدي وشعاراتهم السابقة، والاتجاه نحو خطاب جديد يستعير، بشكل أو آخر، من القيم والمفردات المحسوبة على الليبرالية والعلمانية والحداثة ،عموما، ليبدو وكأن هذه القيم حققت انتصاراً ما على الأيديولوجيا الإخوانية القديمة، وتعاليمهم الموروًثة وأجبرتهم على تعديلها باتجاه مغاير.
ألحظ، هنا، تصريحا دالاً لزعيم حزب النهضة في تونس السيد راشد الغنوشي، يقول فيه أن النهضة في الحكم اختارت الًسياسة وليس الإيديولوجيا. اختيار السياسة ونبذ الإيديولوجيا هنا يعني، في هذا السياق، الالتصاق بالخطاب الإخواني النوعي المستحدث، واستبعاد الخطاب التقليدي القديم من نوع «إحياء الخلافة» و «الإسلام هو الحل» وما إليه، على أساس أن ذلك كله هو أيديولوجيا لا أكثر. خيار الإيديولوجيا كان سيعني فرض متطلبات تلك الإيديولوجيا على المجتمع بالقوة والتعسف والإكراه ،مما سيؤدي حتما إلى إعادة تجديد الاستبداد وحكمه وتجديد مقاومته أيضا. لا أعتقد أن هذا النبذ للإيديولوجيا، والتوًجه نحو السياسية بدلاً عنها، لدى قوة رئيسية من قوى الإسلاًم السياسي العربي، كان ممكنا من دون النموذج الإسلامي التركي المحدث، ومن دون تجارب سياسية إسلامية فاشلة سبقت.
من جهًة أخرى، كان لا بد للإسلام السياسي، بفروعه الثلاثة المذكورة والمتصارعة، من أن يقتحم ساحات الربيع العربي في كل بلد من بلدانه، وبخاصة في سوريا الثورة. ولا يمكنني قول الكثير في هذا الشأن ،لأن المعركة مازالت محتدمة، والنزاع على أشده في بلدان الربيع العربي جميعا، والتنبوء بمآلات هذا الصراع وبعض احتمالات نتائجه مسألة متعذرة، لذلك سأكتفي بعدد من الملاحظاًت الأولية:
واضح أن الإسلام السياسي الإخواني الذي طفا على السطح في كل من مصر وتونس، يجد نفسه، اليوم ،في وضع لا يحسد عليه من التخبط والتعثر والتناقض والإخفاق والغضب الشعبي المتصاعد، كما يواجه إحراجا كبيرا في كيفية تعامله مع النوعين الآخرين من الإسلام السياسي، ومع متطلبات كل منهما المتناقضًة، وًأقصد إسلام البترودولار الرسمي، بنموذجيه السعودي والإيراني من جهة، وإسلام التكفير والتفجير بنموذجه الجهادي الجوال والعابر للحدود، والمتمركز في المناطق النائية .
فأصحاب إسلام التكفير والتفجير من الجهاديين، هم في العمق إخوة وإخوان ضلوّا الطريق، ومن هنا الصعوبة والإحراج في التعامل معهم. ففي مصر مثلاً، لا أحد يعرف، حتى هذه اللحظة، إلى أين وصلت التحقيقات الرسمية في مقتلة أغلقت الدائرة على نفسها، هذا، على الرغم من الوعود التي قطعت على أعلى المستويات وأمام جماهير غفيرة، بكشف الحقائق بأسرع وقت، ومحاسبة المسؤولين عما حدث وإلى أخر ذلك من وعود حكامنا المعهودة.
أما أصحاب إسلام البترودولار الرسمي فهم، أيضا، إخوة وإخوان، لكن من النوع الثقيل الظل، إلى درجة لا تحتمل بسبب ثرائهم الفاحش، وحشريتهم الزاًئدة، وتدخلهم في كل صغيرة وكبيرة من دون استئذان .لكن على الرغم من الإحراج الناشئ بسببهم، فالإسلام السياسي الحاكم في بلدان الربيع مضطر لتحمل هؤلاء الإخوة والإخوان، بكل غلاظاتهم، نظراً للحاجة الماسة إلى ما هو موجود عندهم وغير موجود عندنا.
أرى في مصر اليوم محاولة لإعادة تأهيل إسلام الدولة الرسمي مجددا ومعدلاً، بما يتفق مع متطلبات المرحلة الانتقالية الحالية. لكن الملفت للنظر أن المحاولة تصطدم بمقًاومة شديدة من جانب قطاعات كبيرة وفاعلة في المجتمع المصري، بالإضافة إلى قوى شعبية واسعة. هذا، على الرغم من الخطابات الدينية والفقهية والشرعية الكثيرة العاملة على تسويغ المحاولة وتمريرها .
لمّا نفذ صبر الرئيس محمد مرسي، وتراكمت عليه الأعباء إلى درجة لا تحتمل، أصدر إعلانه الدستوري الشهير الذي أعطى فيه لنفسه سلطات مطلقة، وحصانات تجعله هو وقراراته فوق أي نوع من أنواع المساءلة أو الطعن، أي سلطات وحصانات من نوع «لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون». كانت النتيجة أن انتفض نصف مصر، على أقل تقدير، في هبّة رفض لما بدا أنه استعادة من جانب الرئاسة لنوع من الحكم المطلق، باسم كون الرئيس منتخب بالأكثرية. بعبارة أخرى، نحن أمام مفهوم ناقص ومشوه للديمقراطية حيث تكون الديمقراطية ليست أكثر من حكم الأكثرية )ومن قال إن الأكثرية لا تستبد( مع النسيان المتعمد بأن الديمقراطية هي، أيضا، حفظ حقوق الأقلية السياسية بأن تعيد تنظيم نفسها لتتحول إلى أكثرية سياسية انتخابية، في المرة الًقادمة. هبة مصر هذه بينت للعالم كله أن مصر اليوم ليست مجرد إخوان وسلفيين وجهاديين وتكفيريين وإسلاميين، بل هي أيضا مجتمع مدني ديناميكي متحرك وفاعل وصاحب موقف. حتى الدستور المصري الذي سلقه حكم الإسلامً السياسي الربيعي – كما يعبر المصريون – لم ينجح في الاستفتاء إلاّ بهامش ضيق نسبيا، كما أن القاهرة – وما أدراك ما القاهرة – اقترعت ضده. كما يحتاج أي حكم في مصر إلى عبقرية فائقة حًتى يصطدم بالأزهر والكنيسة في لحظة واحدة، ناهيك عن المؤسسة العسكرية والقضائية والاتحادات المهنية والنقابية والطلابية في البلد .
أما في سوريا الثورة اليوم، فإن إسلام البترودولار الرسمي بنموذجيه السعودي والإيراني موجود بقوة ،كما أن إسلام التكفير والتفجير موجود بقوة، أيضا، بالإضافة إلى ما تبقى من الإسلام الرسمي لنظام الأمر الواقع، والذي اضطر مؤخرا إلى إعلان الجهاد المقًدس، والدعوة إليه لحماية نفسه ونظامه، على الرغم من الادعاء بأنه العلمانية الًوحيدة في المنطقة. كما أن الإسلام البيزنسي على النهج التركي موجود هو الآخر، وإن كان في حالة كمون نسبية في الوقت الحاضر، وبانتظار فرصه الباهرة القادمة في المستقبل القريب.
حدسي هو أن سوريا بعد الثورة لن تقع في قبضة أي من الإسلامات السياسية التي تتصارع الآن للفوز بها، فبعد مرحلة قلقة من الفوضى والاضطراب المتوقعة ستعود سوريا، على الأرجح، إلى مزاج التدين الشعبي العفوي والتلقائي والسمح الذي عرفت به سوريا المعاصرة وعرف به شعبها منذ عهد الملك فيصل .
من ناحية ثانية، عندما تبدأ عملية إعادة الإعمار والبناء، أعتقد أن رأس المال السوري والبورجوازية السورية عموما ستتقدمان بقوة لقيادة مسيرة الإعمار والاستثمار فيها، مما يعني أن الإسلام الذي سيطفو على السطح سًيكون الإسلام البيزنسي، إسلام رجال الأعمال وأصحاب المشاريع والشرائح التجارية والصناعية، وهو غير الإسلام السياسي الذي يتخوف الجميع منه بسبب تصلبه وتشدده خاصة في أتون المعركة. الثورة هي السياسة بأشكال أخرى وأدوات أخرى. أما منهج التكفير والتفجير فهو قتال وقتل لا نهاية لهما، ولا سياسة فيه، ولا أفق له سوى الموت والعبث.
أعتقد أن الإسلام الشعبي التلقائي والإسلام السياسي البيزنسي قادران على استيعاب تيارات الإسلام السياسي الأكثر تعنتا وأصولية، والمتحدرة كلها من إسلام التوتر العالي، الذي يطبع مرحلة الثورة بطابعه .لا أعتقد أن سوريا مًرشحة لسيادة ذلك النوع من الإسلام الذي يمنع التعليم ويحرق المدارس ويغلق الجامعات ويعطل المعاهد ويحرم المرأة من التعليم والعمل المنتج. كما لا أعتقد أن سوريا ستقع في قبضة أي من الإسلامات المتصارعة فيها وعليها الآن، وهي بالتأكيد لن تقع في قبضة إسلام ولاية الفقيه ،أو إسلام الحاكمية، أو حتى إسلام المرشد، كما يقولون في مصر.
حين توصلنا الثورة في سوريا إلى صناديق الاقتراع بأمان نسبي، لا أرى أن أيا من تيارات الإسلام السياسي في سوريا سيتمكن من اكتساح نتائج الانتخابات، على الطريقة التونسية أوً المصرية، يتطلب هذا كله حماية مدنية الدولة من احتمالات وإغراءات عودة الحكم العسكري، بخاصة أن سوريا اعتادت على حكم الجيش لمدة نصف قرن، كما اعتاد العسكر على حكم سوريا للمدة ذاتها.
كما يتطلب أيضا حماية علمانية الدولة في مواجهة خطر قيام قوى أو تيارات أو تنظيمات أو أحزاب تحمل إيديولوجيًات شمولية دينية، أو غيرها، بعيدة كل البعد عن التنوع الكبير للمجتمع السوري ،والتعددية الدينية والمذهبية والأثنية والثقافية التي يتصف بها، وبحيث لا تقوم مثل هذه القوى بالتسلط على الحكم والدولة، فتعود سوريا إلى استبداد لا يختلف عن استبداد حكم الحزب الواحد ،والرأي الواحد، والقائد الواحد، وما شابه مما عاشته سوريا لمدة طويلة.
في الواقع، إن أسوأ ما يمكن أن يحدث لسوريا الجديدة هو أن تقع مرة أخرى فريسة لديكتاتورية عسكرية مغلفّة بالتعصب الديني والانغلاق العصبوي الطالباني، علماً بأني لا أرجح مثل هذا المآل لبلدي.
هذا هو اجتهادي. ومن اجتهد وأخطأ له أجر ومن اجتهد وأصاب له أجران